الوقتأقساماخبار العراقمختارات من الثقافة التنظيميةالليبرالية الديمقراطية والإنتخابات
(0) مشروع المصالحة الوطنية !!(0) أزمة الخطاب الإسلامي السلفي الجديد(0) رؤية الحزب الليبرالي الديمقراطي العراقي -- لمشروع بناء الدولة العراقية(0) الطريق إلى الليبرالية الديمقراطية (ب)(0) قول على قول(0) وحدة الليبراليين في العراق ــــــــ راغب الركابي(0) الدين المعاملة هذا مايراه الليبراليون ــــــــ راغب الركابي(0) الأخلاق الليبرالية ـــــ راغب الركابي(0) مشروع - الحزب الليبرالي الديمقراطي العراقي - لتأسيس الدولة العراقية(0) الدولة المدنية مفهوم ليبرالي(0) الليبرالية الديمقراطية ومفهوم الدولة ــــ راغب الركابي(0) العقد الإجتماعي والميثاق الوطني !!(0) أزمة الخطاب الإسلامي السلفي الجديد (0) دستور الجمهورية العراقية(0) كلمة في اليوم العالمي للمرأة ــــــ راغب الركابي(0) الليبرالية والحكومة القوية(0) نساء من أجل الحياة ـــــ راغب الركابي(0) من مقالات التفسير والفكرالقرآن بين التحريف والتصحيف : ـــــــــــ آية الله الشيخ إياد الركابي
موسى النبي والعبد الصالح ــــــــ آية الله إياد الركابي في ظلال آية المحارب ــــــ الحلقة الثانية في ظلال آية المُحارب ـــــــ الحلقة الأولى الذات الإلهيّة بين العلم والعبادة ـــــــ مادونا عسكر الحراك العراقي اللبناني ـــــــــــــ راغب الركابي ثمن الحرية ـــــــــــ راغب الركابي المفهوم الإفتراضي لمعنى قوله تعالى : [ فلا أقسمُ بالخنس ، الجوار الكنس ] – التكوير 15 ، 16 العلاقة بين الفكر والسلطة ـــــــــــ راغب الركابي رسالة ملك الفرس يزدجرد* الى عمر بن الخطاب صوت أبي العلاء الاشتراكي.... إبراهيم مشاره - الخلل المفاهيمي في لغة النص : - القلب ، الفؤاد ، العقل .. الروح مثالاً |
Friday, February 22. 2008تشتّت النص القرآني بين الثقافة التقليديّة والحداثة العلميّة ــــ إلياس قويسم
1. توطئة :
إن القضايا التي أثارها فعل القراءة في النص المقدس "القرآن" في الفكر الحديث و المعاصر متعدّدة و متداخلة ،اعتبارا للتحولات التي تحف بالمتلقّي لمثل هذا العمل،و هذه القضايا تعكس في العمق التحولات الواقعية و التاريخية والفكرية الناجمة عن صيرورة التحول و التغير التي تحكم العلم و الفكر و الإنسان و الوجود، قد أخذت هذه القضايا بعدا جوهريا باعتبارها قد شكلت مسألة وجود، ذلك أن التفسير الناتج عن هذه القراءة سيحدد بالكلية منهج السيرورة لهذا المجتمع الذي ارتُهنت إرادته في جزء منها بمصير القراءة،و لكن حينما نزيد من سياحتنا في مجال الأسباب المعتكفة وراء هذه القراءات ،فإننا نكتشف أن نواة هذه القراءات تتصل بموقف من "الأنا"،و "الأنا" في مثل هذه الحالة يكون جملة التراث،أي ذلك الميت الحي فينا، و الذي يعمل فعل "الهو" في الأنا بحيث يمارس سلطاته في توجيه الواقع و يفرض أنساقه المعرفية علينا، و بذلك يغدو التراث كينونة لها قوتها و ديناميكيتها، و ما علينا إلا الدفاع عن استقلال وجودنا الحاضر،و ذلك من خلال تفكيك الجوانب المعرفية المشكلة له عبر فعل القراءة حيث أنّ طبيعة تناولها و آليّات اختراقها للنصّ تشكّل في العمق النموذج المولّد إمّا قراءة تسعى إلى الحِلّ أو إلى الترحال.
2. إشكال التناول و مصير القراءة: بين الحلّ و الترحال إذن، لا فكاك من الانخراط في تقويم التراث لأنه و إن بدى في الظاهر حقيقة بائنة و منفصلة بحكم انتمائها إلى الزمن الغائب "الماضي"فهو في جوهره حقيقة كائنة و متصلة بواقعنا تمارس فعلها في المجتمع ثقافة و هويّة و وجودا ، كما ذهب إلى ذلك طه عبد الرحمن في كتابه "تجديد المنهج في تقويم التراث"، لكن الإشكال ليس في الحقيقة الكائنة، إنما في طرائق التناول التي يتوسل بها المثقفون، فالكل يدعي سلامة منهجيته و قدرتها على إنتاج نموذج أقرب لروح العصر و تخليصنا من مأزق التراث و تحريرنا من استلابه و يتسنّى لنا امتلاكه بدل أن يمتلكنا ،إلاّ أنّ جانب الحقيقة ظل على مستوى الوعي النقدي مهملا أو غائما في أحسن الحالات، على اعتبار أنّ النصّ أيّا كان مصدره يبقى من الناحية المنهجية منطقة غامضة غائمة يصعب الوصول إليها و تناولها بالموضوعية العلمية، و تُفسر هذه الصعوبة،بأن النص/المرجع يشكل دوما عند قراءته " مجالا لانتظام كلام آخر،هو كلام القارئ، وهذا تفسير الكلام،و تأول المعنى،و في استثمار الأفكار وتطبيقها " (1) هكذا تصبح القراءة فعلا مستمرا لا يتوقف يبدأ من الحاضر الراهن ويرتد إلى الماضي و التراث ثم ترجع في حركة ارتدادية إلى الحاضر مرة أخرى لتستشرف العالم الغدوي أي محيط التجديد ، في حركة جدلية لا تهدأ، إنها الحركة التي تتّجه إلى فعل المغامرة و التيه و الترحال و تنفي سكون الموت و الإلفة السلبيّة بمقولات الماضي،إنها حركة الوجود والمعرفة في نفس الوقت-كما يعتقد ذلك نصر حامد أبو زيد. مردّ هذا التبرير أنّ العقل نفسه خاضع للتاريخية إذ تتغير وجوهه و وظائفه بتغير نظرة العقل إلى ذاته،و كذلك يتغير العقل بدوره بتغير النتائج و وجوه الحق التي يستبينها ويتعقلها، ذلك لأن العقل في الحداثة يصطدم دأبا بعوائق مضادة و كثيرا ما يدمر مساره السابق أو طرفا منه في عودة نقدية على ذاته بعدما تبين له أن مساره كان خاطئا،و هذا يدلّ على أنّ طبيعة التعامل مع الذات ستعكس في جزء منها طبيعة التعامل مع النصّ أو مع الذاكرة،فمثل هذا التمشّي يعبّر عن مسار تآريخي Historicité في القراءة ،من خلال سعيه إلى امتلاك المضمون و تلقيّه قراءة نقديّة تحمل أسئلة أزمته المعاصرة،فيحاول أن يجعل من النصّ التراثي معاصرا له عبر الكشف عن خبايا النصّ و امتدادته مع إبانة ما غاب عن المؤلّف ذاته،و تلك مزايا النصوص الغنيّة و الجديرة بتجاوز زمن كتابتها،أي يفتح له إحداثيّات زمانيّة و مفاهيميّة تجعله معاصرا للغد،ومن ثمّ يمكّنه من ولادة جديدة أو من ولادات جديدة عبر الزمن حيث يصبح القارئ مشاركا في فعل التأليف عبر ما يسمّيه محمّد العزيز الحبابي قبليّات القراءة،بمعنى هواجسه و أزماته و طموحاته و أسئلته،فتكون خيانته للنصّ الأصلي إبداعا. لكن في مقابل هذا الموقف الإيجابي-المغامر نجد من ينخرط في مسار الوثوقية- الدوغمائية-،ذلك المسار الذي يأسر معتنقيه ضمن جملة من العقائد والأطر التي يجب أن يلتزم بها لفهم أي ظاهرة،و لا يتسنى له زحزحة مفاهيمها أو محاولة تقويمها لأنها اكتسبت من القداسة ما تمتنع معها كل محاولة انتهاك لمفاهيمها.هذه الساحة الفكرية يصطلح عليها محمد أركون-بالسياج الدوغمائي المغلق –(2) ،وهذا يمثّل نموذجا للقراءة-النقيض،أي القراءة التأريخيّة-الميّتة التي تقف عند الحدود التي وقف عندها المؤلّف،وهو ما يعطّل فعل التجديد و تتحوّل القراءة من عامل دافع إلى عامل معرقل،لأنّها ستعطي للماضي شرعيّة امتلاكه للحاضر و حاكميّته له بذات الآليّات التي انبنى عليها الوجود السابق،على اعتبار أنّ الفهم الذي ترسّخ لديهم هو "مرجعيّة التراث" ،وهو ما يعني إلغاء جانب هام في تركيبة الإنسان و وجوده وهو الحريّة أو الديناميكيّة التاريخيّة،ومن ثمّ ينقل ذات الأزمة التي توقّف عندها السلف بكلّ شحناتها الفكريّة و التاريخيّة إلى الحاضر التاريخي فيثبّته عند لحظة السلف،من خلال إيمانه الخاطئ بأنّ ما من إشكاليّة إلاّ وجدت حلاّ في هذه المرجعيّة و ما من إشكاليّة افتقدت إلى حلّ إلاّ بسببها،و من ثمّ يثبّت القراءة و الفكر و التاريخ ضمن لحظة السلف أي لحظة الوسط السلبي،الميّال إلى الجمود و الإلفة بمقولات الماضي والخوف من المغامرة فيؤثر سلامة الحِلّ بدل مغامرة الترحال. 3. إنتاج المعنى بين الضبط و التحرّر إذن فالإشكال المطروح هو مصير المعنى و شروط إنتاجه أو توليده أو إعادة توليده، نقصد بذلك ما هي العلاقات التي يتعاطاها العقل مع العلامة الدلالية Le Signe ، يفضي هذا بداهة إلى تطور العقلانية المستخدمة في كل عملية معرفية، أهي عقلانية مشروطة أم عقلانية متحررة؟،بمعنى أن هناك فارقا بين العقل الدوغمائي الذي صادر كل إمكانية للانفتاح وحوّل المفكر فيه إلى لا مفكر فيه.و العقل المنفتح،وهو العقل المنافس له،الذي يرى أن كل القراءات والحقيقة التي تتضمنها النصوص تتغير من جيل إلى آخر و من عصر إلى عصر طبقا لتغير أفق التلقي و تجارب المتلقين. أساس هذا العقل المنفتح السؤال الذي يجعل من الحقيقة قابلة للتطوّر التاريخي فيحوّلها إلى مجموعة حقائق نسبيّة متغيرة متحولة بحيث تنصهر في شكل آخر لتغدو معطى جديدا ثابتا إلى حين. إذن الصعوبة تكمن في كيفية تحرير العقل النقدي من كل الشروط و الإكراهات التي فرضها العقل الدوغمائي في كل عملية معرفية تهدف إلى محاولة تجديد إهاب القراءة قي النص القرآني أو في النصوص التراثيّة. هذه النقطة تحيلنا مباشرة إلى تأكيد أن قضايا الحداثة تختلف من عصر النهضة الإسلامية الكلاسيكي و عصرنا الحاضر. فالحداثة من حيث هي كذلك تتعدّى إلى مقولتين : الحداثة كمعطى وكمفهوم و الحداثة كإشكالية، فبعودة تآريخية نكتشف أن المجتمع الإسلامي قد عرف تحولات كبرى أفرزت الجديد المحدث في جميع الحقول المعرفية، وقد أثار هذا الجديد العديد من التساؤلات في مستوى بعض المسلمات الفكرية كنظرية الوحي وخلق القرآن و العقل و الشرع، لكن رغم ذلك لا نجد استعمالا لمفهوم الحداثة، أي لم تشهد الثقافة العربية الإسلامية التقليدية انبجاس إشكالية الحداثة كما شهدتها اليوم، إذن لا بد من التمييز منهجيا بين ما هو جديد محدث و بين ما يعرف الآن بالحداثة التي برزت مع هيغل حين بدأ يتحدّث عن مفهوم العصور الحديثة. . يمكن القول إنّه بعد ظهور الجيل الأول المؤسس للحداثة العربية الإسلامية، ظهر جيل ناقد لعلاقتنا بالحداثة، والنقد كان موجها إلى العقل الدوغمائي الذي ظل يمارس جاذبية على ذهنيّة الفرد و الجماعة،ففرض عليه منهج مجرّد التعرف على الشيء و ليس معرفته،والفارق بينهما، أنه في الحالة الأولى يكتفي المرء بمعرفة شيء معروف معلوم سابق لديه أما في الحالة الثانية فيعرفه فعلا ،بمعنى أنه يكتشف شيئا لم تكن له أي صورة عنه سابقا،و هذا دليل على ضلوع المتلقي في عملية"صنع النص" مثلا عن طريق التأويل .يقول عبد القاهر الجرجاني في هذا المعنى" و إذا قد عرفت هذه الجملة، فينبغي أن تنظر إلى هذه المعاني واحدا واحدا،و تعرف بحصولها و حقائقها. وأن تنظر أولا إلى "الكتابة" ،و إذا نظرت إليها وجدت حقيقتها و محصول أمرها أنها إثبات لمعنى، أنت تعرف ذلك المعنى من طريق المعقول دون طريق اللفظ ،ألا ترى أنك لما نظرت إلى قولهم "هو كثير الرماد" و عرفت أنهم أرادوا كثير القرى و الضيافة، لم تعرف ذلك من اللفظ و لكنك عرفته بأن رجعت إلى نفسك " (3) من خلال ما ورد آنفا ندرك أن جيل المثقفين الجدد و الممثلين للوعي العربي الإسلامي الجديد قد بدأ يرفض التعامل مع الحداثة خارج تاريخها الخاص و مكوناتها ليؤكد على ضرورة تعقلها و التفاعل معها في إطار شروطها التاريخية و مكوناتها الموضوعية بهدف تمهيد السبيل للذات العربية الإسلامية من تحسس طريق الحداثة و الانفلات من التحديدات التراثية المبلورة لسلوكه الفكري و العملي. و الهدف من وراء هذا تحديث رؤيتنا لأصولنا التراثية قرآنا و سنة و إجماعا… و كيفيّة التعامل معها، ذلك أن امتداد الرؤية الأشعرية (الوسط السلبي) لا يخدم مصلحة الإسلام،لأن ذلك يفضي إلى تثبيت عقارب ساعة الحاضر على ساعة الماضي،و تتريث المقولات و المفاهيم، و مثل هذا المنهج يجعل الذات تعيش حالة اغتراب و انفصام و تشخصن مشوّه يتراجع بالذات إلى حدود هذا الوسط السلبي بدل الارتقاء بالذات فوق ذاتها. . من ذلك نفهم أن لحظة الحداثة قد شكلت نقطة تدابر بين منهجين في التحليل و القراءة،منهجية مدرسية/تراثية، و منهجية حداثية تنزع إلى المفارقة و التجاوز. من نتائج هذا الانفصام هيمنة الإيديولوجيات في قراءة الأصول، خاصة النص التأسيسي للفكر الإسلامي و نعني به القرآن،هذا ما أفضى بداهة إلى غلق الباب أمام العقل النقدي،بشكل يشبه الخلسة، هذا ما يفسر كيف أدت الأزمة التاريخية بالوعي العربي الإسلامي إلى مأزق مأساوي، بحيث أُفرغت القراءات من محتواها النظري و براءتها العلمية،و انتهت إلى نوع من الحلول الإيديولوجية(4) فصاحب القراءة المدرسية/التراثية يجد صعوبة كبيرة في الفصل بين المكانة اللاهوتية للخطاب القرآني و بين الشرط التاريخي للعقل الذي ينتج خطابات بشرية ارتكازا على العقل الإلهي، نتيجة لهذه الصعوبة فهو يتجه نحو تقديس كل المقولات سواء المفسَرة أو المفسرة، أما صاحب القراءة الحديثة فإنه ينزع إلى قراءة القرآن بلغة حديثة معلمنة انتزعت من قاموسها غلاف التقديس و التعالي و ثبّت الشرط الواقعي-التاريخي لكل مقولة، بمعنى أن النموذج الأول في قراءة النص الديني قد اتخذ موقفا صلبا من النص،حيث رأى أن لا خلاص للمجتمع إلا بتجذير هذا الموقف، هذا يشبه المبدأ المعروف في المجتمع المسيحي" لا خلاص خارج الكنيسة"أما النموذج الثاني فهو نوع من النزول من الميتافيزيقا إلى الشرط التاريخي/المادي، و نتج عن ذلك تزعزع القواعد و الأطر الفكرية للنموذج الأول بحيث فَقد تأثيره الجذر القديم لعالم قائم على القياس و المادة اكتسبت حقها ليس بوصفها نفيا للوجود، بل بوصفها قوة مبدعة من ثمّ حلّ النظر و المشاهدة محل التأمل و الرؤى و التعالي فوق الشروط التاريخيّة-الماديّة، ثم جاء الاختيار الممكن التحقق منه وفقا لقوانين الطبيعة و حلت الرياضيات محل القوى الخفية، و ظهر التاريخ كأنه حركة الروح و العقل. هذا دليل على راهنية المشكلة و إلحاحها،ذلك أن النص أصبح نتيجة لنشوء مثل هذه المنازعات الفكرية حقلا للفهم المجزوء و المبتسر، اعتبارا لأن كلا من الشقين لا يبحث في النص عن المسكوت عنه أو تجديد المعاني بما يخدم المصالح الجمعية و يجدد بمعيتها السجل الفكري للمجتمع، و إ نما ينطلق من المفاهيم التي تأسره بحيث يفكك النص بحثا عما يتماشى معه و يستقيم و أفكاره و أقانيمه المقررة سلفا-بحسب التفكير السائد الآن- و حينما تضن به الوسائل عن تحقيق مثل هذا الأمل المعرفي، فإنه يغامر بنفسه للقفز بشكل مراهق على الحقائق، بحيث يتهم النص بعدم إمكانية مواكبته لهذه المفاهيم و من ثم الواقع المتطور، لذلك يسعى إلى تجديد الفهم للنص بما يفضي إلى التساوق مع هذه المفاهيم و التجانس معها، و هذا دون أن يجرح و عيه الإيماني بمفاهيمه ومقولاته. إن هذا الصراع بين المنهجين يؤدي إما إلى تلويث الحقائق النصية القرآنية بالماديات و النزول بها من علياء تنزيهها و قداستها إلى حمأة الواقع، أو الصعود بها إلى الميتافيزيقا إلى أصل ميلادها المتعالي و نسيان الواقع،أي ساحة التجسد الأرضي للكلام الإلهي، فكل منهج بهذا المعنى له مأزقه الخاص، و نحن إذ نغذ السير قدما في هذا البحث سوف يبقى مترائيا في أفق منظورنا إشكالية النص القرآني بين هذين الشقين، لأن دراستنا،و إن كنت سأركز فيها على أحد رموز المحدثين،فإن ذلك ليس دليلا على حجب ما سواه في هذه الدراسة،فالعلاقات متشابكة يفضي بعضها إلى بعض بهذا وجبت المقارنة بين نوعين من المعرفة،أو نمطين من العقول: العقل الديني/التراثي و العقل العلمي/الحداثي. ليس المقصود من هذه المقارنة التصريح بأفضلية عقل على آخر، أو بإمكانية الجمع أو الترجيح بين آراء الفرقتين،كما كان سائدا في السابق،و إنما نهدف من وراء طرح هذه الإشكالية الارتفاع بها إلى دائرة الضوء " إلى إبراز ما يتسم به كل عقل من المواقف و المناهج و المبادئ و المقدمات و طرق الاستدلال و التعبير عن حقائق الأمور.كما نهدف إلى تبيان ما ينتج عن كل واحد من هذين العقلين من انعكاسات واقعية أو تطبيقية على حياة الإنسان و إنجازاته و تقدمه و تحرره،أو تأخره و فشله و ضعفه وانحلال قيمه و مذاهبه و نظمه و مساعيه الهادفة إلى تحقيق السعادة و النجاة و سائر المطامح."(5) هكذا كانت الأذهان موزعة أو مشتتة بين الماضي الأثيل و الحاضر الحديث " هكذا تعيش الحضارات غير الغربية في زمن جذرين أو مثالين: جذرها و الجذر الناجم عن الثورات العلمية الكبرى.و الحال،كيف سيتكيف الإنسان الذي يعيش في عالم تتجابه فيه و المثل و النماذج المتعاكسة،ويتوافق مع حالة الأمور هذه،دون أن يعاني خطر الوصول إلى مسالك عبثية مستحيلة ؟ كيف يحتوي الموجة التي تقتحمه من كل الجهات؟ ذلك لأن تصادم الجذرين يتضمن في الصميم أيضا الصراعات التي تعارض الحداثة والتراث،بقدر ما تعارض التفاوتات الوجودية . " (6) بهذا تحولت قضية النص و قراءته إلى قضية حماية هوية الذات.إنه صراع من أجل تأصيل الكيان، لكن الإشكال يكمن فيما يلي : بأي الوسائل يتسنى تحقيق ذلك؟ في البداية عّبر الفكر العربي-الإسلامي عن حرصه الشديد على التشبث بالإسلام وذلك بـ" الاجتهاد في قراءة نصوص معينة تنادي بالإصلاح،و بتحسين أحوال المسلمين. تعبيرا عن حالة الخوف تجاه الأوضاع المتردية ،و على الإسلام نفسه أن نحل نتيجة الممارسات الخاطئة،و لما يتم باسمه . "(7) هذه القراءة كانت قراءة داخلية في ظل غياب "الآخر" الثقافي(8) ، و اعتبارا من الـ ق 19 يشهد الفكر العربي الإسلامي تحولات و تغيرات نتيجة ظهور"الآخر"،و المتمثل في التحدي الحضاري الأوروبي ،وهو تحد سياسي و اقتصادي و اجتماعي و فكري.بهذا اتخذ الفكر العربي نسقا آخر حيث جعل في أفق منظوره "الآخر المختلف" و اعتبره خصما له مهددا لكيانه الاجتماعي و الحضاري، فسعى إلى أساليب جديدة تعيد إليه نضارته، لأن المفكرين في الـ ق19 قد بدأوا يفكرون في واقع التأخر الذي بات يخيم على واقعهم مقارنة مع الوافد الآخر،و ستغذي هذه الموضوعة كوكبة من المفكرين المسلمين من ذلك جمال الدين الأفغاني و محمد عبدو في إطار الصحيفة العربية العروة الوثقى والمفكّر محمد إقبال هذه الموضوعة هي التأخر،عالجوها بمقابلتها بنقيضها و هي موضوعة التقدم و الترقي و التفوّق التاريخي الكامن في الحقل الغربي،و تعمل هذه الكوكبة من المفكرين على صياغة الحلول قصد الخروج من هذا المأزق الحضاري،فبدأ الحديث عن إعادة فتح باب الاجتهاد،و إعادة قراءة الأصول قراءة حديثة مواكبة في ظل الفتوحات الفكرية و النظريات الفلسفية الناشئة حديثا،لأن هذه النخب واعية لأهمية مقولة "الواقع التاريخي" و صيرورته،وهذا الإدراك سبيل إلى إعادة النظر في المقولات و المسلمات وفقا للمنظور الجديد، لكن دون التضحية بالهوية،بالأصول فمحمد إقبال مثلا تنطوي " مؤلفاته المتعددة الأغراض على نداء إلى السلفيين و العصريين ،إلى العلماء و الباحثين المسلمين إلى تأويل السنة و قراءة القرآن قراءة جديدة ،مع التمسك بالتوحيد،و انطلاقا من هذه الزاوية الجديدة تعقُل المستقبل بصورة دينامية. " (9) .لأنّ هاجسه المعرفي تجديد الفكر الديني من خلال العمل على إنتاج منظومة معرفية توائم بين متطلبات الحداثة و متطلبات الأصالة –أي الجذور الإسلامية و القيم التوحيدية- و في هذا المجال التزم محمد إقبال المنهج التجريبي،الذي رأى فيه المنهج الأقرب لروح الإسلام والنظرة القرآنية،ومن منطلق هذه الفكرة يناوئ الفكر اليوناني المنشد إلى عالم المُثل،إذ يتناول كل مواضيعه بمنأى عن إحداثيّات الواقع،يقول محمد إقبال حول النظرة الواقعية للقرآن " غير أن رياضة الباطن ليست إلا مصدرا واحدا من مصادر العلم،و القرآن يصرح بوجود مصدرين آخرين هما الطبيعة و التاريخ،و روح الإسلام على أحسن صورها تتجلى في فتح طريق البحث في هذين المصدرين.فهو يرى آيات على الحق في "الشمس"و"القمر" و "امتداد الظل" و"اختلاف الليل و النهار" و"اختلاف الألسنة والألوان" و"تداول الأيام بين الناس" بل و يرى هذه الآيات ماثلة في الكون كله كما يتكشف في إدراكنا الحسي" (10) هذا الدليل أفضى به إلى القول: " و هذه الدعوة إلى عالم الحس و الاستشهاد به و ما اقترن بها من إدراك متئد لما يراه القرآن من أن الكون متغير في أصله،متناه قابل للازدياد (11)" من هذا المنظور نجد أن محمد إقبال قد تناول الخطاب القرآني بنظرة واقعية حداثية قطعت مع التصور الطوباوي،القاطع لصلة مع الواقع –الوعي الصوفي السلبي-(12) و ذلك من خلال تناوله لفكرة ختم النبوة،حيث انطلق من فكرة أساسية وهي أن " النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها،وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدا إلى الأبد على مقود يقاد منه،و أن الإنسان لكي يحصل كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يُترك ليعتد في النهاية على وسائله هو."(13) هذا دليل منه على بشارة محمد (ص) بالإنسان الكامل الساعي بذاته إلى نحت كيانه في هذا العالم،الذي هو في الآن نفسه موضوع المعرفة و أحد مصادرها الأساسية. و هذا الإنسان الساعي إلى الكمال لا يغدو كذلك إذا صادر الكمال المطلق-الإلهي-و نصب ذاته بدلا عنه- كما هو شأن الفلسفة النيتشاوية- وإنما كماله يكمن حين يغدو غرضه هو تحرير حركة العالم من تلك التصورات الدوغمائية الحابسة للحركة و الفاعلية و عند إدراكه أنه صاحب إرادة خلاقة في هذا الكون.إنها ثورة على السكون و الجمود،إنها دعوة إلى تجديد أواليات الفكر قصد التجاوز ضمن حدود الزمن التاريخي، حتى يكون في " حالة صيرورة إلى الوجود."(14) و الفارق ليس هينا بين الثابت والمتحول،بين الحل و الترحال، من ثم فتصور محمد إقبال للزمن و الفكر باعتبارهما متغيرين يجعل من عملية الفهم للنص القرآني عملية تنضوي ضمن هذا السياق العام، أي من حيث هو نص في حالة صيرورة إلى الوجود،بمعنى أن فُهُوم النص متغيرة بتغير الفكر و الزمن. 4. جدليّة الواقع التاريخي و النصّ المقدّس مما تمّ عرضه يتأكد لنا توظيف محمد إقبال لمكتسبات الحداثة الفكرية الغربية في مجال إعادة النظر في النص القرآني و الديني.فنحن إزاء نص منزّل مكتمل،و واقع تاريخي في صيرورة دائمة و فكر متغير، من ثم كان لزاما وجود جدلية بين النص و الزمن و الإنسان "فإرادة النبي،في عملها الإنساني، تقدر قيمتها هي كما تقدر عالم الحقائق المحسوسة التي تحاول تحقق وجودها فيه.و عندما يتغلغل النبي فيما يواجهه من أمور مستعصية و ينفذ إلى أعماقها،تتجلى له حينئذ نفسه فيعرفها و يزيح القناع عنها فتراها أعين التاريخ . "(15) تلك هي النظرة الواقعية لمحمد إقبال في تعامله مع نصوص القرآن،فهو قد حاول المواءمة بين القرآن و متطلبات العصر،و أثبت إمكانية التجاوز من خلال مفهوم الصيرورة المعوض لمفهوم الوجود،وهو بهذا قد استفاد من الفكر الفلسفي الغربي و العقلانية و النقدية،لكن دون السقوط في شرك العبادة لتلك الأقانيم، ومن ثم استطاع تأسيس الفكر الجدلي الإسلامي المقابل للفكر الجدلي الغربي . هذا الفكر الجدلي الغربي قد أسّس نسق العقل المنعكس الذي يفضي إلى إقامة صراع بين الإله والإنسان،بحيث نتج عن هذا إقامة عالم أرضي قاطع للصلة مع الميتافيزيقا،أي عالم هجره الإله،فالوجود كائن في الـ "هنا"،بذلك وقع استبدال الوجود الإلهي بالوجود الإنساني نظرا إلى عدم إمكانية وجود طرفين،فما كان منهم إلا تأليه الإنسان،و ذلك من خلال تجاوز قيمة الإنسان الدنيا إلى الإنسان الأعلى الذي ينحت قيمه بنفسه، بذلك يسمو الإنسان نحو الأرقى الذي هو الاسم الآخر للكمال،أي أكّدوا أنّ تطوّر الإنسان يقع خارج دائرة الدين،بمعنى ضمن دائرة العلمانيّة،في حين أنّ محمد إقبال يرد هذا المفهوم للوجود،و يقر نسقا آخر يرتكز على التصور القرآني المقر بالتطور،الصيرورة، لا الجمود و الثبات الذي صنعه الفقيه المتأخر " يقول القرآن " وَ أَنّ إِلَى رَبِكَ المُنْتَهَى(16) " و هذه الآية تنطوي على فكرة من أعمق الفِكَرِ التي وردت في القرآن لأنها تشير على وجه قاطع إلى أن المنتهى الأخير يجب أن لا يُبحث عنه في حركة الأفلاك ،و إنما يبحث عنه في وجود كوني روحاني لا نهاية له . " (17) هذه نظرة محمد إقبال إلى النص القرآني و تصوره لكيفية التعامل معه،إنها نظرة تؤمن بالتجديد لكن دون إغفال الهوية. و قد تلت هذه النظرة التجديدية،اجتهادات أخرى تأخذ بعين الاعتبار الواقع الموضوعي و تطورات الزمن،مستفيدة من الفتوحات المعرفية، ونذكر من بين هذه الاجتهادات: أمين الخولي و منهجه الأدبي في التفسير وطه حسين و نظرته إلى الشعر الجاهلي و علي عبد الرازق و موقفه من الخلافة الإسلامية و أحمد خلف الله و تصوره للقصص القرآني و محمد أركون و دراساته حول نقد العقل الإسلامي و محمد عابد الجابري و سعيه إلى تجديد النظرة إلى التراث العربي وحسن حنفي وموقفه من النص القرآني و من التراث و نصر حامد أبو زيد و قراءته التحديثية للنص القرآني وفق المنهج الماركسي-المادي. هذه الأعلام الفكرية سعت إلى فك الطوق القدسي الحاف بالواقع و تمكين الفرد من الإرادة الفاعلة السانحة له بإزعاج الأطر القديمة و إعادة تقويمها و الفعل في التاريخ، هذه الدراسات وغيرها تطمح إلى منح العقل تأشيرة العبور من الوجود إلى الصيرورة، لكن رغم وحدة الهمّ المعرفي إلا أن التعامل مع الظواهر لم يكن بنفس الوسائل،فكل واحد ركب آلياته، لذلك أتت النتائج مختلفة في بعض الجوانب، وعبّرت عن قضيّة متولّدة عن فوضى المناهج وهي مدى تجاوب النخب فيما بينهم و إمكانيّة النقد الموضوعي لمناهجهم و نتائج قراءاتهم للتراث و التحاور والتجاور بدل التهجّم والتفكيك و الإلغاء و الصراع من أجل الكريزما. إذن، فالنقطة الأساسية هي أن كل هذه الحركات الفكرية قد جعلت من النص محور اهتمامها، لكن من وراءه كان البحث عن الهوية،فالهوية أو المصير قد ارتبط بالنص، وكل جديد أو كل نزوع نحو المستقبل يستند في الأخير إلى نواة قديمة. من ثم فهناك صراع بين الدنيوي و المقدس،بين القديم و الحديث.و في كل الحالات فهناك من ينشدّ إلى أفق الميتافيزيقا حيث يؤمن بأن الوجود في مكان آخر ،و هناك من يُثَبِّت الوجود في الـ"هنا" حيث الإنسان محور هذا الكون و سيده،و عموما فالنظرة الحديثة " تهدف تحديدا إلى التأكيد الواضح للحلول الجديدة التي ينبغي أن تطبق على المصير العربي-الإسلامي، و منها الديالكتيك بين القديم و الحديث.و هكذا نكون قد أدخلنا الإسلام في كيان جديد، الشخصية الإيديولوجية –الثقافية التي تركب و تعيد إحياء الترسبات القديمة،مثلما نتوجه نحو الحداثة.إن الحداثة الصافية هي عملية تفكيك و بناء مستمرة لا تستند إلى أي شيء صلب" (18) من خلال ما تقدم تتكثّف فاعليّة جملة من الإشكاليّات في الذهن حول مصير النص والقراءة: -هل استطاعت القراءة العربية الحديثة أن تكتسب استقلاليتها المنهجية في مجال تناولها للنص القرآني ولنصوصه الثواني ؟ -هل تبيّنت القراءة العربية الحديثة حدود قراءتها أم أنها انخرطت في نسق التنازلات لحساب المنهج و إضاعة هويّة النصّ –المرجع؟ انطلاقا من هذه الأسئلة المركزية سنحاول النظر في قراءة نصر حامد أبي زيد للنص القرآني قصد الإجابة عن هذه الأسئلة التي أصبحت ملحة في واقعنا نتيجة لتصاعد حدة الصراع بين حماة الرأس المال الرمزي و أصحاب النزعة التحديثية، إن الأمر يتعلق بوضع وجود بالنسبة لكلا الفريقين: فالأول يحمل شعار لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.والثاني يرفع شعار " علموا أبنائكم غير ما تعلمتم،فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم. "(19) و شعار " لا حياة حديثة دون فكر حديث"(20) ،و في خضم هذا الصراع تبقى الحقيقة غائبة غائمة،لأن الكل يدعي لفكره العصمة و ينصب نفسه عوضا عن النص،و يرى في قراءته لسان الصدق الذي ينطق بالحقيقة، و الحال أن القرآن يحذر من الغلو في هذا الاعتقاد لقوله تعالى " فَوَيْلٌ لِلَذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولٌونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنَا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ" (21) لماذا هذا التحذير، لأن القراءة ليست إلا نتاج وضعية فكرية محددة بالظروف الحافة به،وهذه الظروف متغيرة و متحولة و متطورة، و هذا ما يفضي بداهة إلى الإقرار بمبدأ النسبية، من ثم فالواجب تزكية ثورة الخلف لأنهم خلقوا لزمان غير زماننا و ذلك تماهيا مع سنة الله في خلقه، و هذه السنة هي الحركة و التطور " أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِكَ كَيْفَ مَدَّ الظِلَّ وَ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهْ دَلِيلاً . "(22) إن في نزوعنا إلى التأكيد على مبدأ التطور و الديناميكية نهدف من وراء ذلك إلى التماهي مع إرادة الله الذي أبان أن كل شيء أو لنقل كل حقيقة " تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ. "(23) لكن إن فهم الحركة و التطور يختلف من ذهن إلى آخر اعتبارا للمسلمات و البديهيات التي يتعقلها، هل هو تطور متجه إلى الأعلى، أم هو تطور متجه إلى الأرضي إلى المتعين بحيث ننزل من التاريخ الإلهي إلى التاريخ الإنساني. في كل هذا يبقى النص مرتهنا في معناه بين هذا و ذاك، بين التعالي و المحايثة، بين التقليد و الحداثة.لكن رغم هذه الإشكالية فإن الإنسان يبقى هو المكلف بالنظر في النص،انطلاقا من عقله من عالمه الصغير لينفذ إلى العالم الكبير،و إن أبى فما هو إلا حلقة من دخان كما قال محمد إقبال. من خلال ما سبق نبسط هذه الأسئلة التالية لتكون الموجه لقراءتنا في نص نصر حامد: • هل هذه القراءة مسخّرة لأجل تجديد الفهم أم الانتصار في المعركة الثقافية القائمة بين أنصار القديم وأنصار الحديث ؟ • هل تنخرط هذه القراءة ضمن نسق النقد العلمي الموضوعي أم أنها تبقي كمثيلاتها سجينة القراءة السجاليّة،التي لا تعبر عن رأي بقدر ما تؤزم الواقع؟ • هل تعتبر قراءته وصلا مع الماضي أم قطعا معه أم هي تكرار له بلغة حديثة ؟ • بلغة أخرى هل منهجيّته التي تناولت النص القرآني و نصوصه الثواني منهجيّة مبدعة أم هي مجرّد منهجيّة تابعة تعبّر عن فقر فكري و استلاب معرفيّ . ؟ 5. قراءة على قراءة: الوحي نموذجا 5. 1 : فاعليّة المخيّلة: مشاعيّة الوحي إن هذا التحليل يمكن أن يساعدنا على إلقاء نظرة مختلفة على الوحي من خلال التأكيد على محورية نظرية الخيال عند الفلاسفة و المتصوفة،و إن هذه العملية الاتصالية تٌسقط المفهوم الإسلامي للوحي،هذا هو بالضبط الذي يخلق وضعا رهيبا،وضع لا توجد فيه إمكانية للاصطفاء،بل كل فرد بإمكانه أن يصبح نبيا،إذا تعلف الأمر بالتخيل،فغياب الاصطفاء إنما يعني الحرية المطلقة في ادعاء النبوة،و ادعاء الوحي. إن نقطة التدابر التي أدت إلى اختلاف المفاهيم و النظريات حول الوحي تكمن في عملية الاتصال،ذلك أن الوحي هو عملية ترميزية تعبّر عن نظام لغوي قائم بين مُرسِل أو باث-وهو الله-أو عبر ملك الوحي جبريل، و بين متقَبِل-هو النبي (ص) -و لكن أنّى يتم التواصل و الحال أن كلا من المرسِل و المتقبِل هما من جنس مختلف،إن هذا الإشكال قد وقع تجاوزه في المنظومة السلفية من خلال الاستناد إلى الحجج النقلية من ذلك قوله تعالى "وَمَا كَانَ لِيَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْمِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلُ رَسُولاً فَيُوحِي بِإذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنًّهُ عَلِيٌ حَكِيمُُ وَكَذَلِكَ أَوْحيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَ لاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلَنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا " (24) وقوله (ص)حينما سُئل عن كيفية نزول الوحي عليه " أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي،فيُفْصم عني وقد وعيت عنه ا قال ،و أحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ". (25) فنزول الوحي يتمّ بطريقة من الطرق الثلاثة : 1.الإلهام الإلهي 2. الخطاب المباشر : وهو أن يسمع النبي الكلام الإلهي دون رؤيته-3. الخطاب بواسطة جبريل : وهي الصورة التي نزل بها القرآن على نبينا محمد (ص) . قال تعالى "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبّ العَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرٍينَ "(26) إلا أن نصر حامد لا ينتهج نفس هذا المنهج،إنما يعمد إلى تقصي الحقائق و جذب البراهين من داخل الظاهرة ذاتها،باعتبارها ظاهرة تاريخية،مرتبطة بإرث ثقافي مهّد ظهورها على ساحة الأحداث،من ثم فهو لا يستنجد بالحلول العجائبية .فنصر حامد و إن كان سيبحث في هذه المسألة من وجهة نظر لسانية-أدبية اعتبارا لوجود منظومتين ترميزيتين،إلا أنه سيحافظ على التصور التقليدي –الذي يناهضه في ظاهر كلامه المُقر بأن النص القرآني لفظا ومعنى من الله تعالى. فالنبوة عنده ليست شيئا مفارقا لقوانين المادة و الطبيعة و الواقع،كما يعتقد السلفي،إنما هي درجة عالية من درجات الخيال الناشئة عن قوة المُخيلة الإنسانية،فالنبي يتصل بالملك تماما كما يتصل الشاعر بشيطانه و الكاهن بجنه،قال تعالى " وَ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا " (27) وقال تعالى " وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِ نَبِيٍ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الجِنِّ وَ الإِنْسِ يُوحِي بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا " (28) بهذا المعنى تصبح النبوة و من وراءها الوحي ظاهرة ثقافية-بشرية تستمد شرعيتها من الموروث المترسخ في المخيال الجمعي للمجتمع الذي ظهرت فيه لا كما يعتقد الخطاب السلفي أنها ظاهرة مفارقة للوجود التاريخي،وهذا الخطاب في نظر نصر حامد يحجب ناسونيته حتى يتسنى له تمرير مواد خطابه و يضمن لنفسه حراسة الرأسمال الرمزي. انطلاقا من إنزال ظاهرة الوحي من تعاليها إلى أرض الواقع، يصبح الفارق بين النبي و الكاهن و الشاعر فارق في الدرجة لا في النوع،وهو بهذا يستنجد بالتفسير الاجتماعي-المادي لابن خلدون،نظرا إلى أنّ ابن خلدون يأخذ بعين الاعتبار هذه الأنماط من التفسير في مجال تحليله للظواهر الاجتماعيّة و البحث عن أسباب نشوءها،و لنا أن نقول من البداية أن هذا النقل المنهجي من طرف نصر حامد لمنهجيّة ابن خلدون أفسره بالطابع المشترك الذي يجمع بينهما وهو التفسير التاريخي، يقول نصر حامد " لا يتكون الكون من عوالم منفصلة،بل يكون الاتصال و الحركة صعودا و هبوطا بين العوالم هو مجال الفاعلية التي تمكن الإنسان …من الاتصال ببعض هذه العوالم، يستوي في ذلك النبي و الكاهن.و الفارق بين اتصال النبي بالملأ الأعلى واتصال الكاهن،أن اتصال النبي قائم على نوع من الفطرة و الخلقة أساسها الاختيار و الاصطفاء الإلهي،بينما يحتاج الكاهن إلى آلات و أدوات مساعدة تعينه على التخلص –جزئيا-من عوائق العالم المادي و الاتصال بما وراءه من العوالم ." (29) بهذا تصبح المخيلة هي العنصر المشترك بين النبي و الكاهن و الشاعر –وهم متساوون في هذا المجال- لكن التفاوت قائم في فاعلية المخيلة،و التي تكون عند الأنبياء أقوى بموجب قانون الاصطفاء،وبهذا تصبح النبوة واقعة فوقية-بالمعنى الجدلي الماركسي- ويستنجد نصر حامد بالتفسير الخلدوني لأجل إسعاف نظريته " إن إصرار ابن خلدون على الاحتفاظ بالكهانة و العرافة بمكانهما بعد النبوة يرتد إلى أمرين : الأمر الأول أن إلغاء الكهانة يستلزم إلغاء أساسها الوجودي،ومن ثم تصبح ظاهرة النبوة ذاتها في حاجة إلى تفسير جديد،و الأمر الثاني أن الكهانة و العرافة كانتا معيارا لدى عرب ما قبل الإسلام لإثبات حقيقة النبوة من جهة ،وكانتا وسيلة للتنبؤ بالشيء الجديد المرتقب من جهة أخرى ." (30) ويقول في موضع آخر مؤكدا على أهمية المخيلة في استدراج الوحي " فإن "الأنبياء"و"الشعراء"و "العارفين" قادرون دون غيرهم على استخدام فاعلية "المخيلة" في اليقظة والنوم على السواء.و ليس معنى ذلك…التسوية بين هذه المستويات من حيث قدرة "المخيلة"و فاعليتها،فالنبي يأتي دون شك في قمة الترتيب،يليه الصوفي العارف ثم يأتي الشاعر في نهاية الترتيب " (31) إن التعليق الذي يمكن إيقاعه في هذا المجال،أن النبوة قد غدت في منظومة نصر حامد منتمية إلى البنى الفوقية وهي في موقع جدلي مع البنى التحتية –الكهانة و العرافة- ومعلوم أن التغير يطال البناء الفوقي بمجرد تغير البناء التحتي ومن ثم أصبح وجود الوحي و النبوة مرهونان ببقاء الكهانة و العرافة،انطلاقا من منطق السببية و الجدل المادي. إنها محاولة من نصر حامد إلى تقويض البناء المتعالي للخطاب السلفي من خلال إنزال الظاهرة إلى الواقع التاريخي و ربطها بمقتضيات الثقافة و تحولاتها. 5. 2 تسطيح مفهوم الوحي: تاريخيّة المفهوم ذلك هو اجتهاد نصر حامد في بعض المفاهيم الرئيسية للإسلام الرسمي "الوحي" التي أجمع المسلمون على مفارقتها للقوانين الطبيعية و البشرية لأن" أرواح الأنبياء مددا من الجلال الإلهي لا يمكن معه لنفس إنسانية أن تسطو عليها سطوة روحانية . " (32) من هنا تتوضح لنا نظرية نصر حامد من وجهة نظر سيميوطيقة،حيث لا يفصل بين الظاهرة التجريبية "الوحي" والمحيط العام "الثقافة و الواقع"،حيث يفترض شبكة من الأنساق المتداخلة بين هذين البعدين فإذا طبقناهما على ظاهرة الوحي ،نجد أن نصر حامد من خلال السيميوطيقا ينظر إلى البعد الأول "الوحي" على أنه تجربة إنسانية،و أنه مجموعة من العناصر تتآلف و تتسق طبقا لقوانين منضبطة، فلا بد من تحليل تلك العناصر الكامنة وراء ظاهرة الوحي،وهذا التحليل يؤدي إلى استخلاص العلاقات التي تربط هذه العناصر ببعضها ،و من ثم معرفة النظام الكامن وراء الوحي ،ونعني به الثقافة : الكهانة و العرافة و الشعر و السحر …و من ثمّ لم تعد غاية نصر حامد البحث في ظاهرة الوحي ذاتها بل أصبحت له غاية أعمق،وهي الكشف عن النظام المادي الذي يحكم الظاهرة،إنه سعي وراء التجريد،وراء البحث عن النظم الخفية التي تسير الظواهر و التي يعتقد العامي أو الفقيه السلفي أنها ظواهر عُلوية مفارقة،إنه النقد الأدبي الذي يطبقه نصر حامد على الوحي نظرا لأنه علامة لغوية ناشئة من واقع ثقافي معين " و من ثم يمكن القول إنّ النقد الأدبي لن يتطور إلا من خلال خوض هذا المسار: أي من خلال طرح تصور عام مجرد للبنيات الكامنة وراء صياغة النص الأدبي ثم من خلال تطبيق هذا التصور على النص الأدبي أو مجموع النصوص الأدبية،وهذه الخطوة الإجرائية هي التي يمكن أن تدفع بمعرقة آليات صياغة النصوص الأدبية قدما." (33) إنها دعوة من نصر حامد إلى نقد الأصول المعرفية المشكّلة للمنظومة المعرفية السلفية وذلك لأجل تجديد الفهم ،وكشف ناسوتية الظواهر المستترة وراء التعالي الزائف، وهذه الخطوة تمكن من جعل الظواهر مواكبة لتغيرات التاريخ،ومن إمكانية صلاحيتها لكل زمان و مكان، ولكن هذا الاجتهاد يخفي وراءه رغبة سرية في التحلل من النظم المتعالية المتحكمة في إرادة الإنسان و التي تجعله ينهج منهجا معينا لأجل أن يصبح مؤمنا. أما إذا أخذنا بعين الاعتبار البعد الثاني وهو ما يتعلق بالمحيط العام الذي نشأت فيه الظاهرة "الوحي"فإن هذا البعد يُعنى بالكشف عن الأنساق التي تصل بين الوحي و بقية الأنظمة الأخرى السائدة،و معلوم أن كل نسق له خصوصيته التي يتفرد بها،لكن ذلك لا يمنع من وقوعه في مجال التفاعل مع بقية الأنظمة الأخرى،و بذلك يمكن دراسة هذه الأنظمة في ترابطها و تفاعلها،ومن ثم تتم عملية وضع الوحي في سياقه من خلال الكشف عن ترابطه بالأنظمة المختلفة،وهذا السياق هو السياق الثقافي البشري. بذلك يتخلى نصر حامد عن كل تفسير متعالي –أسطوري- و ينشد إلى التفسير العلمي الموضوعي، من ثم أصبحت المعجزة تستمد تفسيرها من سياق الثقافة السائدة و ليس من تفسير خارجي، و لنا في أقوال نصر حامد أكبر دليل : - والحقيقة أن العرب المعاصرين لتشكيل النص لم يكونوا قادرين على استيعاب "التغاير" و"المخالفة" بين النص و النصوص لديهم،و لذلك كانوا حريصين أشد الحرص على جذب النص "الجديد" إلى أفق النصوص المعتادة ،فقالوا على النبي شاعرا و قالوا عنه كاهنا،و لا شك أن هذه الأوصاف قامت-عندهم- على أساس إدراك "المماثلة" بين نص القرآن و نصوص الشعراء والكهان. وإذا كان مفهوم "الوحي" ذاته قد ارتبط –كما سلفت الإشارة- بمفهوم الاتصال في ظاهرتي الشعر و الكهانة فقد كان من الطبيعي أن تترابط النصوص الناتجة عن الاتصال/الوحي في ذهن الجماعة. (34) وحين وصف العرب محمدا بالشاعرية و السحر و الكهانة فإنما كانوا يحاولون رد النص إلى إطار النصوص المألوفة من جهة،و كانوا يحاولون "احتواء"الدعوة و الرسالة في إطار الوظائف الاجتماعية للكهانة و السحر و الشعر في الواقع من جهة أخرى. و هذا ما يفسر لنا الاعتراض على الوحي لم يكن اعتراضا على عملية الاتصال ذاتها بين الإنسان و ملك بل كان اعتراضا ما على مضمون الوحي أو على شخص المُوحى إليه. (35) ممّا ورد ندرك أن نصر حامد بتشبثه بمقولة الواقع و تقديمها على مقولة المتعالي-المفارق يبتغي تسطيح تعالي الوحي،وهذا نقيض النظرية المتداولة،و هذا الهجوم على النظرية التقليدية في نظره أساسي لتحرير الفكر الديني من التعالي الزائف و الوهمي و الرجوع به إلى أرض الواقع،أرض الحقيقة،ذلك أن التمسك بأشباه الحقائق يجعل من أفق المؤمن أفقا ضيقا، يجعله دائم الرفض للآخر" فيُكوُّن المؤمن فضاءه الخاص المنبثق من عقيدته الدينية التي تحصره في دائرة محددة معزولا عن الآخر،و عليه يصبح الإيمان حيزا لنفي الآخرين، و حيزا يتقلص فيه الوعي الموضوعي. "(36) 5. 3 الواقع أوّلا و الواقع ثانيا و الواقع أخيرا أصل عبر هذا إلى أن نصر حامد يبتغي تقويض النص /الوحي كنص مفارق مفروض على الواقع بقوة خارجية، ويجتهد في إيجاد المسوغات البديلة قصد عكس هذه النظرية،من خلال جعله نصا يستجيب لحاجيات الواقع فيغدو الواقع الذي كان تابعا أصلا و النص الذي كان أصلا يصبح تابعا،و ندرك هذا الطرح الجديد من خلال اهتمام نصر حامد بالخط الأفقي للوحي و إهماله للخط الرأسي، بمعنى اهتمامه بالمغيّب في الثقافة التقليديّة الإنسان و التاريخ ذلك أنه يؤكد أن نص الوحي هو نص موجه نحو المتلقي و لا ينحو ناحية المتكلم،و لنا في تصريحاته أكبر دليل على ذلك،فالنص عنده بمثابة" رسالة السماء إلى الأرض،لكنها ليست رسالة مفارقة لقوانين الواقع ،بكل ما ينتظم في هذا الواقع من أبنية و أهمها البناء الثقافي.إن المطلق يكشف عن نفسه للبشر "يتنزل"إليهم ،بكلامه عبر نظامهم الدلالي الثقافي و اللغوي. لو نتتبع التحليل الذي يوقعه نصر حامد في الرسم البياني لتنزل النص (37) ،لوجدنا أنه يُغيب الجانب الأول، أي الجاني الرأسي المتعلق بمصدر النص –المُرسِل-، لأنه يرى أن الاختلاف إلى الاعتناء بهذا الجزء هو في نظره" إهدار لطبيعة النص ذاته وإهدار لوظيفته في الواقع و هو ما حدث في الفكر الديني الذي سيطر على التراث،و الذي مازال فاعلا في ثقافتنا إلى اليوم . " (38) إذن فإذا كان الاهتمام بالباث "الله" وهو أساس الإبستمولوجيا القديمة فيه إهدار لوظيفة النص،فإن تحول الاهتمام إلى المخاطب –وهو ما تؤكد عليه الإبستمولوجيا الحديثة –هو الضامن الوحيد لتحقيق وظيفة النص في الواقع ،وهذا مرده أن الثقافة السائدة قبل نزول الوحي،هي ثقافة" توصف بأنها ثقافة تنحو نحو المخاطب في نصوصها أكثر مما تنحو ناحية المتكلم ،وانتماء النص إلى مجال هذه الثقافة يجعله-من هذه الوجهة- ينحو ناحية المخاطب. " (39) من ثم نحن إزاء نمطين من الثقافة : إن ما أستنتجه من خلال كل هذا أن حضور مصطلح "الله"و "الملك جبريل" في منظومة نصر حامد المتعلقة بالوحي،هو حضور صوري،قَصد من إثباتهما التعمية و التقية،فالسياق العام يفيد اندراج باحثنا ضمن النسق الديني-الإيماني،و لكن عند الحفر في نصوصه و تجاوز الطبقة السطحية منها،أجده يتعامل مع مفهوم الوحي تعاملا وجودبا ماديا ،تعاملا واقعيا ناسوتيا، ومن ثم فهو يلغي فاعلية وجود "اللوح المحفوظ"و"الوجود الخطي الأزلي" للنص،من خلال الانتصار للنهج الاعتزالي و تقويض النسق الأشعري،إنها المعركة الإيديولوجية القديمة الجديدة بين أنصار النهج السني-الأشعري و أنصار النهج الاعتزالي(40) ،و ميدان هذا الصراع هو النص بشتى تمظهراته: الوحي ثم النص المدون ثم النصوص الثواني: التفسير و التأويل و اليوم القراءة،يقول نصر حامد منتصرا لرأيه الاعتزالي المعاصر " و الذي يهمنا هنا أن نلاحظه أن هذا الرأي يتصور للنص وجودا خطيا سابقا في اللوح المحفوظ ،وفي هذا التصور ما فيه من إهدار لجدلية العلاقة بين النص و الواقع الثقافي." (41) من ثم يكون الوحي هو استجابة لحاجيات الواقع ، و لكن تعامله هذا مع الوحي من منطلق واقعي صرف،قد أوقعه في ضرب من التناقض، من خلال تشريعه للحلم كشكل من أشكال الوحي، والحال أن النهج المادي الواقعي يرفض كل تعامل مع الظواهر خارج الأطر المادية الإمبيريقية، يقول نصر حامد " و أما الرؤيا فحقيقتها مطالعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات،فإنها عندما تكون روحانية تكون صورة الواقعات فيها موجودة بالفعل…و إذا كانت النفس الإنسانية تتلقى من الملأ الأعلى على روحانيتها و صفائها،فلا شك أن الأنبياء يصلون إلى الدرجة القصوى من الصفاء و الروحانية . " (42) فالحلم الذي يسعى نصر حامد أن يسعف به نظريته حول الوحي قصد إنقاذها من السقوط، قد أفضى به إلى هذا التناقض الفاضح،فهو من خلال تحليله لمقولة الوحي يسعى إلى استرجاع مقولات السلف حول هذه النقطة قصد تجديد دراستها من خلال تجريد هذا المفهوم من خيالات التقديس التي تطوقه و السعي إلى جعله مفهوما واقعيا،فهو من ناحية يُبقي على المفهوم الماورائي للوحي،ومن ناحية ثانية يسعى إلى تأسيس تصور واقعي له وللتراث من وراءه من خلال اعتبار أنّ كلّ المفاهيم ذات البعد الماورائي ليست إلاّ محض خيال تغذّت بها الذاكرة القروسطيّة ذات النزعة التقليديّة في حين أنّ سمة هذا العصر هي العقلانيّة و المعاينة و الواقعيّة و من ثمّ ترفض مثل هذه المفاهيم التي لا تخدم الذات و لا تخدم الحداثة بل تعتبر من المعطّلات،من هنا يبرز الفارق في التعامل مع الظواهر الدينيّة بين العلمانييّن و المتديّنين،فالعلماني يعتبره ظاهرة ثقافيّة-اجتماعيّة خادمة للمجتمع ومن ثمّ يمكن تناول أيّ ظاهرة فيه من خارج عالم الدين،في حين أنّ المتديّن يعتبره عالمه و وجوده و من ثمّ يتناول ظواهره من الداخل الداعمة لدينه و لعقيدته فيبتغي إعادة كلّ شيء في تفاصيل حياته إلى أصول عقيدته عكس العلماني الذي يبتغي إجراء حياته على طابع عقلاني محض. بهذا يكون قد وقع في مأزق منهجي،حيث أرى أن له إرادة التخلص أو لنقل "التمرد" على الخط الميتافيزيقي-السلفي ،هذا الخط الذي يتحدى قوانين جاذبية التغير،فكل الأعمال متجهة اتجاها رأسيا نحو الله " سكارى بالله حتى الفناء ونسيان الذات ." (43)، وذلك من خلال التجرد من كل مقولاته و السعي إلى تهذيب تعليقات
أعرض التعليقات على شكل
(تخطيطي | متواصل)
اضافة تعليق
|
بسـم الله الرحمن الرحـيم"اقرأ باسم ربك اللذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان مالم يعلم"
التقويم
بحث سريعيمكنك أخذ نسخة للطباعة بأحدى هذه الصيغادارة المجلةاحصائياتتاريخ آخر مقالة : 2023-09-02 13:16
|
Copyright 2007 © Liberal Democratic Party of Iraq