قضية التنوع القومي والطائفي والمذهبي هي جزء لا يتجزأ من طبيعة الدولة القومية الحديثة، التي تقوم على أساس المصالح المشتركة لمواطنيها المتساويي الحقوق والواجبات، مما يفرض على الدول أن تبحث عن الطرق الأجدى للتعامل مع أوضاع التنوع،
بحيث تحافظ على وحدة الدولة من ناحية، والتعبير عن التنوع الموجود داخلها من ناحية أخرى.
إنّ الدولة العربية الحديثة كان عليها أن تتعامل مع واقع من التنوع ينفي وجود حالة من الصفاء القومي أو الوطني، ولكنها لم تنجح في التعامل مع قضايا هذا التنوع، وفي كثير من الأحيان أدى الفشل إلى حالات من الحرب الأهلية. ففي الوقت الراهن هناك في العراق والسودان والصومال حالات من الصراعات الأهلية تأخذ أشكالا شتى، وفي حالات أخرى توجد درجات مختلفة من الاحتقان.
ومن المؤكد أنه لا يجوز إنكار القضية كلها، على حد تعبير الدكتور عبد المنعم سعيد، فالتنوع والتعدد هو من الحالات الطبيعية، وما لم يتم إدراكها والتعامل معها، أو يتم النظر إليها كنوع من المؤامرات الأجنبية، أو نتيجة من نتائج أمركة العولمة، فإنّ القضية على الأغلب سوف تتحول إلى أزمات سياسية كبرى، فيما إذا أغفلنا أنّ المساواة القانونية وحقوق المواطنة شرط ضروري لخلق مناخ للتفاهم بين الجماعات المختلفة، بل وحتى لخلق مناخ للتوافق حول النظام السياسي.
ولا شك أنّ الدولة التي تعيش في حالة سلام مع جيرانها، ومع النظام الدولي، تكون في العادة أكثر قدرة على التعامل مع انقساماتها الداخلية، ليس فقط لأنها توفر على نفسها قيام الخصوم الخارجيين استغلال انقساماتها في الصراع، وإنما لأنّ الصراع الخارجي كثير ما يكون سببا في منع التوافق السياسي أو إضعافه إذا كان موجودا.
والصحيح، في كل الأحوال، أنّ منطقة الشرق الأوسط، بشكل عام، والمنطقة العربية، بشكل خاص، عانت في كثير من مراحل تطورها توترات بسبب ظاهرة التنوع الكثيف الذي اشتهرت به منذ آلاف السنين، وتاريخنا شاهد على حروب أهلية وتوترات متنوعة ناتجة عن مشكلة أو أخرى من مشكلات التنوع الثقافي، وبخاصة الخلافات بين الأغلبية والأقليات، وبين الأقليات بعضها بعضا.
وفي الواقع فإنّ أيا من المجتمعات الإنسانية لم يعد رهين ثقافته الخاصة، ومن ثم لم يعد سلوك هذه المجتمعات، أو تفكيرها الجمعي، هما النتاج الطبيعي والضروري لهذه الثقافة الخاصة. فبعيدا عن المبالغات والتوصيفات والتهويمات الإيديولوجية، فإنّ مظاهر العولمة كلها تشير إلى أنّ الإنسانية تتجه نحو ثقافة عالمية مشتركة، فلم تعد منظمة اليونسكو تتردد في الحديث عن أخلاقيات عالمية جديدة، فقد دعا تقريرها عن "التنوع البشري الخلاق" إلى عولمة تتسم بوحدة وتنوّع الثقافة الإنسانية معا.
خلاصة القول هي: إنّ تكرار اللازمة التقليدية في الأدبيات العربية المعاصرة حول العولمة بكونها تهديدا للهوية العربية، وتهديدا للخصوصية الثقافية العربية، هو تكرار لا معنى له، وصلته بأرض الواقع ضعيفة. بل ربما يمكن القول: إنّ العولمة ووسائلها والآليات التي وفرتها مسؤولة عن انتشار الكثير من الرداءة الفكرية والسياسية التي ينسبها البعض إلى خصوصية ثقافية هنا أو هناك. لكن بطبيعة الحال لا يمكن أن نلوم الآليات أو التكنولوجيا، إذ لا يمكنها أن تحسّن من نوع الحمولة الثقافية التي ينقلها البعض مستخدمين تلك الآليات. لكن أيضا يجب أن نقول: إنّ الخصوصيات الثقافية المضخمة، والمسكونة بذاتها، والمتوترة، تكون هي الأخرى عائقا في طريق تحسين الشروط التاريخية للمجتمعات العربية، وتكون عبئا يعيق من مرونة الحركة والنظر إلى المستقبل.
ففيما تعيش الثقافة الغربية زمن ما بعد الحداثة، وهو الشرفة التي تطل منها على زمن العولمة، أفقها ممتد دائما نحو المستقبل، لم تنجح الثقافة العربية في الإقلاع باتجاه حداثة تتعمق في أسئلة الحاضر والغد، أكثر من انشدادها إلى الهياكل الفكرية التراثية. وبين هذين المنحيين تصطخب أفكار، وتموج تيارات، وتتحرق أجيال طموحة إلى التجديد والتغيير، واكتساب الحق في الانتماء إلى عصر العقل والتقدم والنمو والتحديث العميق والمواطنية والعدالة والعيش الكريم.
(*) كاتب وباحث سوري مقيم في تونس