قراءة في الفصل الخامس من كتاب - [ خطاب المشروع الوحدوي بين الفكر والممارسة] – للشيخ آية الله الركابي
تقدم آية الله الشيخ الركابي إلى الأمة الإسلامية بفتوى يجيز فيها التعبد بمذهب أهل السنة والجماعة في تمام المعاملات والعبادات ، جاء ذلك منه رد على فتوى الشيخ الجليل محمود شلتوت رحمه الله : بجواز التعبد بمذهب الشيعة الامامية ..
ونحن ومن اجل بيان ذلك سنحاول جاهدين قراءة مشروع الشيخ الركابي في الوحدة ، وماهية الأدلة التي أرتكز عليها دام ظله في فتواه ؟
ونقول : - إن التصدي للجمع بين المختلفين سنة نبوية وهو جُهد صالح مارسه الأنبياء والمصلحين بكفاءه وضمن الممكن والمتاح ، وهذا بالضبط ما كان أقدم عليه الشيخ الكبير محمود شلتوت – ره – منطلقاً من وعي وإيمان وحرص على سلامة المنهج وحُسن النية والثقة بالأخر ، فالوحدة سلوك حضاري طارد للتشرذم والإختلاف ، وهي فكر جامع من اجل التقدم والبناء والإعمار ، وأما الخلاف والإختلاف السلبي فهو نتيجة لعوامل سيكيولوجية وجدت بفعل التعصب الأعمى والإنقباض والتراجع المعرفي والإنغلاق والرؤية الأُحادية السطحية للقضايا والمشكلات ،
ولقد كان لهذه العوامل دور حاسم في إيجاد المناخ المناسب للخلاف وترسيخ ذلك في الضمائر والعقول المسلمة ، وقد أدت هذه العوامل دورها السيء في سيادة النزعة العدوانية والحقد المتبادل والتسفيه المقصود والطعون بالمقدسات وبالناموس في خطاب كيدي حمل الكثير من العنف والكثير من الكراهية ، ولعل التاريخ يسجل لنا صفحات سود من أحداث وفتن ساهمت في تعميق روح الإنكسار لدى الأمة ، ومانشاهده اليوم ومانسمعه من خطابات تحريضية وقتل متعمد على الأسم والهوية إلاّ إنعكاس لذلك الخلاف التاريخي حول قضيتي الإمامة والخلافة !!
مع إننا ندري إن البحث فيهما يجب ان لايتخطى حدود الإجتهاد المباح ، كما يجب ان لايغرب عن البال دور أعداء الأمة وبعض الإنتهازيين وأصحاب المصالح والهوى في تحويل هذا الصراع من سياقه الفكري المسموح والمباح إلى حيز الإعتقاد مساوين بين الإيمان به وبين الإيمان بالله الواحد ، مع إن الأمر ليس كذلك كما لايخفى على أهله ، فالاختلاف محله قضايا ومسائل الوظائف الشرعية وليس قضايا التوحيد والمبدء والمعاد ..
من أجل هذا تصدى الشيخ الركابي لتحليل النصوص ذات الصلة وكذا يفعل في ترطيب الأجواء من خلال زيادة الوعي الجماهيري وإشاعة ثقافة الوحدة من خلال الفتوى الشجاعة التي تبناها في جوابه للسؤال التالي : -
هل عمل الفرد المسلم السني أو الشيعي حسب التكاليف الشرعية إجتهاداً أو تقليداً مبرئ للذمة عندالله أم لا ؟؟؟
طبعاً الإجابة على هذا السؤال ستحل الإشكالية التي تواجه المشروع الوحدوي في الواقع ، ويعتبر فضيلة سماحة الشيخ الأكبر محمود شلتوت - ره – شيخ الأزهر سنة 1378 هجرية ، أحد أهم وأبرز الفقهاء المسلمين وأكثرهم حرصاً على الوحدة ، وقد عمل لتطبيقها في الحياة عبر كل السبل ، حتى كانت فتواه الشهيرة أحد أهم سمات ذلك العصر وأكثرها تحديداً لهوية المسلم ..
لقد كانت فتوى شجاعة ومتميزة ومتقدمة ، لأنها أحتوت على عناصر إيجابية قوية وهامة في تدعيم وعقلنة الوحدة في الذهن المسلم ، ويمكن رصد تلك العناصر على النحو الآتي : -
أولاً : ليس كل مسلم ملزماً بإتباع أحد المذاهب الفقهية الأربعة [ الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي ] بل إنه حرُ في إختياره للمذهب الذي يجده مناسباً .
وثانياً : الإنتقال من مذهب فقهي إلى آخر جائز ولا إشكال فيه .
وثالثاً : كل مسلم سواء أكان سنياً أم غير ذلك فانه يستطيع العمل وفق فقه الشيعة الإمامية ..
وقد أمضى الشيخ الأكبر فتوآه هذه بنفسه ، حين كان شيخاً للأزهر في وقتها وبعث فتوآه تلك إلى - مسؤول دار التقريب بين المذاهب الاسلامية في القاهرة ، وكتب تحت فتوآه هذه العبارة :
{ يسرني أن أبعث إلى سماحتكم بصورة موقع فيها بامضائي من الفتوى التي أصدرتها في شأن جواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية راجياً ان تحفظوها في سجلات دار التقريب بين المذاهب الإسلامية .. } .
وإليكم نص الفتوى التي أصدرها السيد صاحب الفضيلة الاستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر في شأن جواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية ..
نص الفتوى
مكتب شيخ الجامع الأزهر سجل بدار التقريب
بسم الله الرحمن الرحيم
قيل لفضيلته : إن بعض الناس يرى أنه يجب على المسلم ، لكي تقع عباداته ومعاملاته على وجه صحيح ، أن يقلد أحد المذاهب الأربعة المعروفة ، وليس من بينها مذهب الشيعة الإمامية ولا الشيعة الزيدية ، فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية مثلاً ؟؟
فأجاب فضيلته :
1 - إن الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه إتباع مذهب معين ، بل نقول : إن لكل مسلم الحق في أن يقلد بادئ ذي بدء أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً ، والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة ، ولمن قلد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره أي مذهب كان ولا حرج في شيء من ذلك .
2 - إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنة ..
فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك ، وان يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة ، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب ، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى ، ويجوز لمن ليس أهلاً للنظر والإجتهاد تقليدهم ، والعمل بما يقررونه في فقههم ، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات ..
وكتب سماحة الشيخ الأكبر إلى :
السيد صاحب السماحة العلامة الجليل الاستاذ محمد تقي القمي السكرتير العام لجماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية :
سلام الله عليكم ورحمته ، أما بعد فيسرني أن أبعث إلى سماحتكم بصورة موقع فيها بامضائي من الفتوى التي أصدرتها في شأن جواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية راجياً ان تحفظوها في سجلات دار التقريب بين المذاهب الإسلامية التي أسهمنا معكم في تأسيسها ووفقنا الله لتحقيق رسالتها ..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شيخ الجامع الأزهر
محمود شلتوت
- راجع كتاب في سبيل الوحدة الإسلامية صفحة 24 طبع القاهرة مكتبة النجاح سنة 1980 ميلادية -
تذليل
لقد كان جواب الشيخ شلتوت - ره - علمياً ويستجيب للواقع وما فيه من تناقض ، ويمكن إعتبار فتوى الشيخ بمثابة البداية الصحيحة لمن يريد كسر أسوار الماضي بكل عقده وتناقضاته ، إن جواز التعبد بمذهب الإمامية مشروع وحدوي يهدي الناس للطريق الصحيح ، إذ العمل وفق تلك الفتوى هو تحدي للكلامية السياسية وضغوطاتها وهو تبني لرؤية جديدة ..
ولكن لنعترف بان تلك الفتوى قد سببت للشيخ الأكبر متاعب جمة ودعايات مغرضة من جماعات ظلامية غير مسؤولة كانت تستهدف روح المحبة والسلام التي كان ينادي بها الشيخ الأكبر - ره - ، وبإعتقادي لو أقام الشيخ شلتوت الدليل الشرعي مرفقاً مع فتوآه لتمكن من قطع الطريق على المتصيدين في المياه العكره ..
وعلى كل حال فخطوة الشيخ شلتوت - ره - ساهمت بوضع اللبنة الأولى في بناء الوحدة ومشروعها الإنساني وهي الخطوة التي تحقق معنى قوله تعالى : ( وأعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا .. ) .
نعم إن هذه الخطوة الحضارية المتقدمة لم يقابلها بحدود ما أعلم من الطرف الشيعي - ومن فقهاء الإمامية - بل وحتى من المنادين منهم بالوحدة الإسلامية في الظاهر ، فتوى تكون بمثابة الرد و العرفان بالفضل !!
من أجل هذا تصدى الشيخ الركابي للخطوة الثانية في هذا الإتجاه ، وهي المرة الأولى التي يفتي فيها فقيه شيعي بجواز التعبد بمذهب أهل السنة ، وهذا من الشيخ الركابي خطوة نعدها كبيرة بلحاظ الواقع السائد وإضطراب الرؤية والتشابك ..
فقد أجاب الركابي على ذلك السؤال الذي رافقنا في بداية مبحثنا هذا ، معززاً رأيه وفتوآه بالدليل الإجتهادي الذي هو مورد إتفاق لدى فقهاء الشيعة ..
فعند الشيخ الركابي : إن أي مسلم سُني يقوم بواجباته الشرعية والتكليفية حسب الإجتهاد أو التقليد المحرر لديه من الأدلة الشرعية الصحيحة ، فان عمله مجزئ ومبرئ للذمة أمام الله بل وفي عمله هذا مأجور ، وأما لو أخطأ فانه معذور كذلك ، ولكي نتعرف على فتوى الركابي هذه يلزمنا متابعة الأدلة التي أوردها في بيان حجته وفتوآه ..
الدليل الأول :
روي عن الإمام الباقر - ع – في حديث صحيح السند إنه قال : [ بني الإسلام على خمس .. الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ، والولاية .. ] والولاية هنا بمعنى القيادة والحكومة وسياسة العباد ..
وبما إن الصلاة والزكاة والحج والصوم هي من فرائص الإسلام ، فكذلك تكون الولاية من فرائض الإسلام ، وعلى المسلمين قبول الوالي العادل الجامع للشرائط ، وبهذا فالعمل بالفرائض هو عمل بالتكاليف التي تحقق رضا الله ، ومن يحقق من الناس العدل فولايته واجبه كوجوب الصلاة والزكاة ..
ثم يسأل راوي الحديث الإمام الباقر ، وأي شيء من ذلك أفضل ؟
فيقول الباقر : الولاية ، لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن ، يعني الولاية هي مفتاح الفرائض المذكورة تلك ، والإمام هو الدليل على تلك الفرائض ، إذن فطاعته تصبح موجبة لرضى الله ، إذ معرفة الوالي وإقامته وإنتخابه هو الذي يجعل من عمل الفرائض مجزياً ومبرئاً للذمة ، فالصلاة وكذا الزكاة والصوم والحج فرائض مقصودة في ذاتها ولكن أثرها يبقى محصوراً في دائرته ، ولكن الولاية مهمتها هو إ؛إخراج العبادة لتكون من أجل الإنسان ومن أجل حياته في البناء والتقدم ، لذلك جاء إستدراك الباقر بقوله : ( أولئك المحسن منهم يدخله الله الجنة بفضله ورحمته ) - أصول الكافي ج2 ص 18 – 19 الحديث الخامس من باب دعائم الإسلام ، ورواه البرقي في المحاسن ص286 عن زرارة بن أعين عن الإمام الصادق - ..
وكأن الإمام الباقر في إستدراكه هذا يريد إن يقول : إن من يعمل دون توجيهات الإمام أو يعمل دون معرفة الإمام فان أعماله صحيحة ومجزية ومبرئة للذمة طالما كان في عمله محسناً وليس ظالماً !! ..
ولكن ماذا تعني لفظة محسن الواردة في سياق حديث الباقر ؟؟
يقول الركابي : إن لفظة - محسن - استخدمت في الكتاب المجيد في قبال لفظة – ظالم - نقرء ذلك في سورة الصافات الآية 113 قوله تعالى ( وباركنا عليه وعلى إسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ) فهذا النص يؤكد على ان - المحسن - لا يكون - ظالماً - وهذا ظاهر اللفظ قال الله تعالى : ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل ) - التوبة 91 - .
والنص يوجه النظر للعناية بالضعفاء الذين لايستطيعون على المشاركة في القتال وليس لديهم ماينفقون من مال ، لكنهم صادقين في اداء واجبهم الشرعي لذلك فهم محسنين غير ظالمين .
النص يقول : ( ما على المحسنين من سبيل ) أي ليس عليهم من ذنب ، وهذا الحكم يمكن الإستفادة منه في بيان عمل المجتهد السُني الذي يبذل ما في وسعه من اجل استنباط حكم شرعي من أدلته الشرعية المقررة ، هذا المجتهد حسب مفهوم النص هذا هو المصداق الذي يُمثل ذلك المفهوم .
وهكذا الحال بالنسبة للمقلد السُني فهو إنما يقوم بوظائفه
طبقاً لفتوى المجتهد الذي يستنبط حكمه من الأدلة والقواعد الصحيحة ، إذن يمكننا جعل كلام الباقر في سياقه وضمن الأولويات التالية : -
1 - ان الباقر قد جعل الولاية من الفرائض أي من فروع الدين وليس من أصول الإعتقاد ، فهي كالصلاة وليس كالتوحيد .
2 - يظهر ان معرفة الإمام في كلام الباقر لها طريقية وليست لها موضوعية ، ونعني بذلك ان الولي أو الإمام دليل على معرفة أحكام الدين ، وليس نظير للإعتقاد بالله ..
3 – ويظهر إيضاً ان العمل بالأحكام الشرعية من غير طريق الإمامية مجزي ومبرء للذمة شرط ان يحصل العمل وفق الشروط الصحيحة بحيث يكون فيها محسن وليس بظالم .
يقول الركابي الشيخ : ان أحداً من الناس لو عمل بالاحكام على غير ما أفتت به الإمامية فعمله صحيح ومجزي عندالله ، المهم هو بذل الوسع لتحصيل الحكم من أدلته التشريعية ..
ويضرب الركابي في هذا الشأن ذلك مثالاً يقول فيه : ان السيد المرتضى علم الهدى أفتى في كتابه الإنتصار بجواز غسل اليدين في الوضوء من الأسفل إلى الأعلى معتبراً ذلك الوضوء مجزياً وصحيحاً - راجع الجوامع الفقهية 95 - وهذا يعني ان لا فرق في ذلك بين فتوى السيد المرتضى وفتوى الفقية السُني الذي يقول بذلك !!
وإذا كان ذلك كذلك : فلايعقل أن يثاب أحدهم ويعتبر إجتهاده صحيحاً ، في حين يعتبر إجتهاد الثاني غير صحيح وغير مجزي !!
كما لا يجوز إعتبار من عمل وفق فتوى السيد المرتضى صحيح في حين يعتبر عمل المكلف السُني وفق إجتهاد الفقيه السُني غير صحيح !!
يتبين لنا ان الدليل الأول له مفهوم وهو على هذا النحو : { ان السني سواء أكان مجتهداً أو مقلداً وعمل بوظائفه الشرعية وفق الوجه الصحيح الذي يعتقد به من دون تقصير ، فان عمله سيكون مجزي ومبري للذمة بل ومثاب عليه كما قال الباقر فانه بذلك يكون محسناً وليس ظالماً } ..
الدليل الثاني :
ماورد عن الإمام علي بن أبي طالب في شأن أهل الكوفة بعدما إنتهى من حرب الجمل [ أهل الكوفة كانوا يعتقدون بخلافة الشيخين أبي بكر وعمر ] ..
قال : ( .. جزاكم الله عن أهل بيت نبيكم أحسن مايجزي العاملين بطاعته والشاكرين لنعمته ، فقد سمعتم وأطعتم ودعيتم فاجبتم .. ) - نهج البلاغة الرسالة الثانية ، تحقيق صبحي الصالح - .
يعلق الشيخ الركابي بالقول : ان الثواب والعقاب متعلقان بالإخلاص بالعمل وليس بنوعية المذهب أو الطائفة ، وهذا ما نرآه جلياً في دعاء علي بن أبي طالب لأهل الكوفة ، مع إنهم يؤمنون بخلافة الخلفاء الراشدين الثلاثة ، أبي بكر وعمر وعثمان ، وهذا يعني ان لو كان عمل أهل الكوفة في عهد الخلفاء الثلاثة باطلاً فانه لن يدعوا لهم بأحسن الدعاء ، وجدير بالذكر إن عامة المسلمين كانوا يعتقدون بصحة خلافة الخلفاء الثلاثة ، ويعتقدون بان علياً هو رابع الخلفاء في الرتبة والمنزلة [ وهذا يعني إن التشيع السياسي لعلي لم يكن قد تأسس بعد ] ،
أضف إلى هذا إن علياً كان يواظب على الصلاة في المسجد بامامة الخلفاء الثلاثة المتقدمين في الجمع والأعياد والمناسبات كافة ، بل الثابت في التاريخ الصحيح ان علياً كان يرسل أبناءه الحسن والحسين – ع – إلى جبهات القتال كما حدث ذلك في معركة تحرير إيران وشمال أفريقيا ، كما ان الكثير من أهل الكوفة قد أستشهد مع علي في الجمل وصفين وهؤلاء جميعاً من أهل الجنة كما يعتقد الشيعة ، مع ان هؤلاء كانوا ممن يعتقد بخلافة الخلفاء الثلاثة السابقين لعلي ..
روى ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة عن استاذه أبي جعفر النقيب وهويتحدث عن أصحاب علي من أهل العراق وممن خاض بهم الحروب قوله : ( .. وأهل العراق هم جند علي وبطانته وأنصاره كانوا يعتقدون إمامة الشيخين .. ) - شرح نهج البلاغة ج15 ص 185 - .
ويذكر الشيخ الركابي : صلاة التراويح وموقف الإمام علي بن أبي طالب منها ، يقول روى الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام حديثاً جاء فيه : ( لما قدم أمير المؤمنين الكوفة أمر الحسن بن علي ينادي في الناس : لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة ، فنادى الحسن بن علي في الناس بما أمره أمير المؤمنين فلما سمع الناس مقالة الحسن بن علي صاحوا : واعمراه ، واعمراه ، .. فلما رجع الحسن إلى علي قال له : ماهذا الذي أسمعه ؟ فقال : ياأمير المؤمنين الناس يصيحون : واعمراه ، فقال أمير المؤمنين : قل لهم صلوا .. ) - التهذيب ج3 ص 70 الطوسي طبع إيران - .
والظاهر من الرواية ان الإمام علي كان يخالف ماذهب إليه عمر بن الخطاب في جواز الصلاة المندوبة والمستحبة جماعة ومنها ( صلاة التراويح ) ، وكلنا يعلم ان جمهور المسلمين كانوا يعملون وفق فتوى عمر بن الخطاب ، ومع ان تلك الفتوى كانت تخالف مايرآه علياً إلاّ إنه صرف النظر عن رأيه وتمسك برأي عمر لأنه كان يُمثل إرادة الجماعة ..
جاء في كتاب فتح القدير مايلي : ( .. ظاهر المنقول ان مبدأها يعني - صلاة التراويح - من زمن عمر ، وهو ماروي عن عبد الرحمن بن القارئ قال : خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فاذا الناس أوزاع متفرقون يُصلي الرجل لنفسه ويُصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر : نعمت البدعة هذه والتي تنامون عنها أفضل ، يريد آخر الليل ، وكان الناس يقومون أوله .. رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي ) - فتح القدير ج1 ص 406 طبع بيروت - .
يقول الركابي : يمكننا ان نعتبر هذه الرواية مع ماورد في التهذيب هما روايتان متساويتان .. ولمن أراد المزيد عليه بمراجعة كتاب الصلاة للسيد رضا الهمداني ص 625 ..
ويتابع الركابي قوله : بان هذا دليل على صحة عمل أهل السنة والجماعة ..
الدليل الثالث :
قوله تعالى : [ إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين ( والصابئون والنصارى .. المائدة ) من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ] - البقرة 69 ، والمائدة 63 - .
يقول الركابي : ان معنى قوله تعالى – الذين آمنوا - هو لفظ دال بالخصوص على من آمن بمحمد – ص – نبياً ورسولاً ، وهذا المفهوم أخص من مفهوم الإيمان بالله واليوم الآخر من حيث البناء والدلالة ..
ثم إن لفظ - الذين آمنوا - في سياق النص ورد في قبال - الذين هادوا والنصارى والصابئين - ويعني ذلك ان يؤخذ اللفظ بمعناه العام المطلق الشامل لجميع الذين آمنوا بمحمد سواء أكانوا من أهل السنة أو من أهل الشيعة ، ولايمكن في حال جعل هذا اللفظ مرتبط بفئة ما أو بطائفة معينة ، فالسياق لا يحتمل ذلك وكذا الدلالة ، إذ ان اللفظة إنما وردت كعنوان للتعريف بأهل مذهب واحد في قبال اليهود والنصارى ، فهي إنما تتحدث باطلاق ولا تقييد فيها يفيد التخصيص بفرقة دون سوآها ، تماماً كاليهود الذين هم فرق وكالنصارى الذين هم فرق إيضاً ، ومع ذلك فالخطاب لهم جميعاً ولا يوجد من القرائن مايفيد التخصيص في اللفظ والمعنى .
ولو تدبرنا النص من داخله لوجدنا فيه تأكيد على الشروط الموضوعية التي يتم فيها ومن خلالها رضا الله ، وهي شروط عامة لاتستثني فرقة أو مذهباً دينياً على سوآه بل هي :
1 - الإيمان بالله الواحد الأحد .
2 - الإيمان باليوم الآخر .
3 - العمل الصالح .
وهذه الشروط هي الواجبة ليكون الفرد أو الجماعة في ساحة – ان الدين عند الله الإسلام – وهي الكفيلة بتحقيق السعادة الأبدية ..
قال تعالى : [ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله وباليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأؤلئك من الصالحين ] - آل عمران 113 ، 114 – .
يقول الركابي : إن الله في مقام الأحدية أشترط على أهل الفرق السابقة شروطاً إن تحققت فهي الكفيلة بابعادهم عن العذاب ونيلهم السعادة ، وإذا كان ذلك كذلك : فانه بطريق أولى أن تكون هذه الشروط مجزية للفرد المسلم السُني عند الله ، خاصة إذا ما عرفنا أن اكثر النصوص لدى الفرق الماضية قد حُرفت ، وان أكثر أعمالهم العبادية لاتنطبق على الحكم الشرعي الواقعي ، ومع ذلك أشترط المولى على الجميع تحقيق الشروط الثلاثة لينالوا السعادة والرضا الإلهي ..
وبتعبير أدق : إنهم متى كانوا محسنين غير ظالمين فان ذلك يقربهم من الله ويكون – أجرهم عند ربهم - ، كما ورد ذلك في النص .
الدليل الرابع :
العدل الإلهي : الذي يقتضي ان لو أحرز المؤمن احكام الله وعمل بها وفقاً للإجتهاد الصحيح ، فان أعمال هذا المؤمن ستكون مجزية عند الله ، شرط ان لايقع تقصير في مقدمات الإجتهاد ، فالإجتهاد الصحيح حسب المقدمات الصحيحة حتى لو لم يطابق الحكم الواقعي فانه يوجب الثواب ذلك من عدل الله ..
ولنضرب مثلاً بحجاج بيت الله الذين يأتون من كل فج عميق يطلبون رحمة الله ورضوانه ويرفعون الأكف بالدعاء وينادون ( ربنا البيت بيتك والعباد عبادك فأدخلنا في ظلك يوم لا ظل إلاّ ظلك ) .
فهل هؤلاء الناس الذين بذلوا المال والجهد وتركوا الأهل والأحبة مدفوعين لنيل مرضات الله وأمتثال أمره ، هل من العدل ان يخرجوا من ساحة الرضا والرحمة لأنهم لم يكونوا على المذهب الفلاني حتى يحققوا المطلوب ؟ وهل من العدل الإلهي ان لا يجيب الله رجاء من رجاه وحده مؤمناً به ؟ لأنه لم يكن شيعياً أو لم يكن سنياً !!
هل هذا من العدل ؟
من العدل ان تقع أعمال المؤمن الصادقة والصحيحة والمخلصة في مورد رحمة الله ورضوانه وهي موجبة ليدخله الله في جنته ، هذا ما نعرفه عن الله وعدله ورحمته والعدل من صفاته الإيجابية التي لاتنفصل عن ذاته ..
الدليل الخامس :
تقيّد الأدلة الشرعية : الأدلة الشرعية هي الطريق المؤدي إلى فهم الحكم وإستنباطه ، فالعمل وفق الأحكام الشرعية هي الطريق لنيل السعادة في الدنيا والآخرة ، وهي التي تُمكن الإنسان من بلوغ كماله الذاتي ، ولهذا يؤكد الكتاب المجيد بشكل غير مباشر على ذلك حينما يتحدث عن فلسفة الذبيحة يقول : ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) - الحج 38 - .
النص في سياقه العام يُشعر بأن لحم الذبيحة لا يصل إلى الله أصلاً ، وهو ليس المقصود من الذبح ، إنما متعلق الحكم بالذبح كشرط لحصول الإمتثال للأمر المولوي الذي منه نحصل على التقوى ، من حيث ان الذبح تم وفقاً لإرادة الله .
فالذي يصل من الذبيحة إلى الله هو العمل تبعاً لإرادة الله وحكمه وتنفيذ أوامره الذي هو - التقوى - ، ولأن المقام فيه لحوم ودماء استعمل المولى لفظ – ينال – في بيان التقوى والتدليل عليها .
والتقوى تحصل بمجرد أمتثال الأمر الإلهي وليس بمطابقة هذا الأمر على الحكم في الواقع ، إذ الأصل هو الأمتثال للأمر وليس بصحة التنفيذ الذي هو لاحق وفرع وليس أصل .
فنبي الله إبراهيم أمتثل لأمر الله بذبح ولده أسماعيل ، لأنه بذلك نفذ أمر الله حتى وإن جاء الأستثناء فبمجرد الأمتثال للأمر سيحقق المرء الكمال والسعادة . إذ لوكان الأمر يلزمه مطابقة الفعل الحكم الواقعي لكان فعل إبراهيم بلا فائدة إذ ان عمله وقع على خلاف الحكم الواقعي .. !!
اعترف المحقق الحلي صاحب كتاب شرائع الإسلام ، وكذلك العلامة الحلي صاحب التذكرة ، وكذا صاحب المعالم في الأصول بصحة - القياس المنصوص العلة - وأعتبروه أحد الأدلة الشرعية في الإستنباط مثله في ذلك مثل الكتاب والسنة والعقل - معالم الأصول ص223 للعاملي طبع إيران - . فالمحقق الحلي أستنبط مائة حكم شرعي من خلال القياس المنصوص العلة ، وقد عمل هو ومن تبعه من المقلدين بذلك .
ولكن السيد المرتضى كان قد أفتى ببطلان العمل بالقياس المنصوص العلة ، وهنا يصح لنا ان نقول : وهل كانت أعمال المحقق الحلي ومقلديه باطله في هذه الموارد المائة التي أستنبطها وفقاً للقياس المنصوص ؟؟
ونحن نعتقد ان المحقق الحلي أعتبر القياس حجة بعدما أكتشف دليله أو أدلته في هذه الموارد ..
ونحن نعتقد كذلك بان المحقق الحلي لم يكن مقصراً في مقدمات عمله الفقهي وكيفية أستنباطه للأحكام الشرعية ، وإذا كان ذلك كذلك : فهل من الحكمة بمكان ان تعتبر أحكام هذه الطائفة من الفقهاء الذين أعتبروا القياس حجة ضالة وباطلة ومستحق صاحبها العقاب ؟؟
مع أننا نعلم أن للأدلة الشرعية طريقية وليست لها موضوعية ، والهدف منها استنباط الأحكام ، فهي طريق للعمل من اجل التقرب إلى الله .
وعليه يقول الركابي : أن لا فرق هنا بين المجتهد الشيعي والمجتهد السُني في هذا طالما يريد الأثنين مرضاة الله وأمتثال أمره ، ومادام المحقق الحلي يرى أن له كامل الحق في أستنباط الأحكام الشرعية من القياس ، فكذلك للمجتهد السُني كامل الحق في أستنباط اللأحكام الشرعية من القياس ..
*
وخلاصة البحث في الفصل الخامس من كتاب مشروع الوحدة للشيخ آية الله الركابي
ننقل لحضراتكم نص الفتوى التي تبناها الركابي في كتابه هذا
يقول في جوابه على السؤال المتقدم وبعد ذكر ناتج الأدلة الخمسة
[ بسم الله الرحمن الرحيم ]
(( إن أهل السنة إذا لم يقصروا في إجتهادهم أو تقليدهم ، وكانوا محسنين غير ظالمين ، فأعمالهم مجزية ومبرئة للذمة ، وكما أفتى الشيخ شلتوت – رحمه الله – بجواز التعبد بفقه الشيعة الإمامية ، فإننا نفتي بجواز التعبد بفقه أهل السُنة لأهل السُنة ولغيرهم من المؤمنين ، والعمل به مجزي ومبرئ للذمة ان شاء الله تعالى ))
ويضيف الركابي ويقول : وكما ان الشيخ محمود شلتوت – رحمه الله - الرجل الشجاع والمجتهد الفقيه أقدم على الخطوة الأولى في مجال تدعيم الوحدة الاسلامية فاننا نقدم على الخطوة الثانية في هذا المجال ، وكما قيل ( ( الفضل للمتقدم )) .
حررها
راغب الركابي