كنا قد بدأنا في التعرف على المصادر التي أنتجت أو أسست مفهوم الجهاد ، والآن سنواصل البحث فيما نحن فيه : تعرض سورة النمل من الكتاب المجيد لنا قصة نبي الله سليمان وحكايته مع الهدهد القصة التي جاءت في النص 27 منها ، ويمكننا ان نجعلها بمثابة المثل الدال على مفهوم الجهاد الدفاعي ، طبعاً سليمان كان نبياً وكان حاكماً وكان سلطاناً والسطان في لغة العرب تدل الحكم نجد ذلك واضحاً في كلام علي بن أبي طالب كما في نهج البلاغة الحكمة رقم 324 من الكلمات القصار : - السلطان : هو وزعة الله في أرضه - .
والزعه هي جمع وازع أي بمعنى الشخص الذي يمنع ، وبهذا المعنى يكون السلطان هو جهاز الحكم ، وهذا الجهاز عبارة عن مجموعة أقسام وفروع منها : وزعة الله التي تعني جنود الله التي تمنع الأعداء من مهاجمة الحكومة والبلاد . والسلطان يأتي بمعنى الشخص الحاكم ، وسليمان ورث عن أبيه داوود الحكم والمال قال تعالى : ( وورث سليمان داوود ) - النمل 16 - ، أي ورث عنه الحكم والسلطان والمال ، فداوود كان حاكماً وهو نفسه الذي أنتصر على جالوت كما في القصة الشهيرة ، وسليمان إيضاً كان حاكماً مقتدراً وسلطاناً قاهراً . وفي سورة النمل يروي الكتاب المجيد قصة النبي سليمان والهدهد وملكة سبأ في النص 27 وما قبل وما بعد ، والنص كما يفهمه فقهاء التاريخ على إنه تهديد بالقتال أبتداءً جاء فيه : ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ) - النمل 37 - . ولكن هل مافهمه فقهاء التاريخ مقبول من الناحية القانونية والشرعية ؟ وبمعنى أدق هل إن التهديد بالقوة عمل شرعي وقانوني وإلهي ؟ وهذا يقودنا إلى الأستفسار التالي : هل إن ما يقوله فقهاء التراث عن معنى ومفهوم الجهاد الأبتدائي وحمل الناس بقوة السيف على الدخول في الإسلام أمر شرعي وقانوني وأخلاقي ؟ وهل كان سليمان وجنوده مكلفين بالدعوة إلى الله بحد السيف ؟ هذه الجنود التي وصفها الله بقوله ( وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون ) - النمل 17 - . فهل هذا الوصف مع ما سبق هو تمهيد إلهي وتقرير بصحة الجهاد الأبتدائي من اجل الدعوة إلى الله بحد السيف ؟ وإذا كان ذلك كذلك : فهل الأنبياء مكلفون شرعاً بالجهاد الأبتدائي من أجل الدعوة إلى الله ؟ في نظرنا للنص 37 لا نجد فيه مايبين لنا طبيعة وماهية الجهاد المفترض ، فالدخول بحرب مع دولة مسالمة لا علاقة له بشرع الله والإسلام ، وملكة سبأ لم تهاجم ولم تعتد على دولة سليمان وحكومته ، ولم يكن بين المملكتين حدود متنازع عليها والبعد الجعرافي بينهما كبير جداً ، والتهديد المجرد من سليمان يعد تعد وتدخل في شؤون الأخرين وهذا ممنوع في شرع الله ، إذن كيف يمكن النظر إلى ما قام به سليمان ؟ وماذا تعني لغة التهديد المفترضة في النص ؟ وهل يمكن جعل التهديد هذا بمثابة القاعدة القانونية والأصولية التي تجيز لنا مفهوم الجهاد الأبتدائي كما هو ظاهر في كلام الفقهاء ؟ وبما إننا قلنا إن بحثنا هو بحث فقهي إستدلالي لذلك فنحن مطالبون بمعرفة القواعد التي تؤسس لذلك ، كما وأننا نعتبر جميع القواعد الكلية بما فيها نصوص الكتاب دالة على الجهاد الدفاعي ، فكيف يمكن الخروج من هذا الوضع ؟ أولاً : يجب معرفة طبيعة النصوص وماهيتها ودلالة خطابها في سياق التنزيل . وثانياً : يجب التعرف على الصيغة المعرفية والإرادة الحقيقية لتلك النصوص . كان إكتشاف مملكة سبأ من قبل الهدهد يعد فتحاً جغرافياً إذ لم يكن سليمان على علم بذلك ، ولهذا طالب سليمان الهدهد بعرض تفصيل للحال وللطبيعة التي عليها أهل سبأ من الناحية السياسية والإقتصادية وشكل وطبيعة العبادة عندهم ، قال : ( إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ) - النمل 23 - وكلمة تملكهم في سياق النص إما تعني : 1 - انهم كانوا عبيداً لها ، وهي مالكة لهم . 2 - أو إنها كانت حاكمة وقائدة لهم .. وكلا الأحتمالين واردين : فالأول : يعني الملكية والتملك . والثاني : يعني الحاكمية والقيادة . ولكن بقرينة التعرف اللاحق يظهر كون الحكم كان دكتاتورياً إستبدادياً يجعل من الناس عبيداً ، ومنه يظهر بأن المعنى الثاني هو المتبادر إلى الذهن بدليل القرينة وبواقع الحال اللاحق . فمن وجهة نظر تحليلية محضة تعني كلمة - تملكهم - هو العبودية والأسر والاسترقاق ، الذي تخضع فيه الأمة لقانون الحكومة التي أوتيت من كل أسباب القوة القادرة على إخضاع العامة لإرادتها ، وهذا يفهم من خلال التعليل التالي : ( ولها عرش عظيم ) وهذا التعليل يتحرك في سياق الوضع الحكومي .. والمثير في الأمر هذه القدرة الفائقة لدى الهدهد وهو يصف نوع العبادة وشكلها في مملكة سبأ قال : ( وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ) - النمل 24 - ، وهذا الوصف في حقيقته وصف لنوع الفساد المعرفي والثقافي الذي يتلقاه القوم وجملة ( زين لهم الشيطان أعمالهم ) إشارة إلى طبيعة العمل وطبيعة الخضوع الذي يتم وفقاً لإرادة الشيطان ، وحينما يكون الشيطان قد زين لهم فهو في الواقع قد صدهم عن السبيل لذلك فهم لا يهتدون ، والصد عن السبيل كناية عن الإنحراف عن الطريق وعن الهداية ( ألاَّ يسجدون لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون ) - 25 - . والسؤال في هذا النص هو من قول الهدهد مستنكراً عليهم قائلاً : لماذا لا يسجدون لله الذي يخرج الخبء ؟ والخبء : كلمة دالة على كل شيء مخفي !! وقد اختلف في معناها : فمنهم من قال : هي عبارة عن حبوب الأرض المخفية تحت التراب ، ومنهم من قال : هي كل شيء مخفي .. والحصر في شيء من ذلك ممتنع وغير لازم في شيء بعينه ، بل النص جعل المعنى مطلقاً وهو المراد سواء أكان في الأرض أم في السماء ! والمطلق في لغة التنزيل لا يقيد إلاّ بقرينة دالة عليه وعموماً فلايعلم به إلاًّ الله ( الله لا إله إلاّ هو رب العرش العظيم ) [ والعرش في لسان العرب مصدر صحيح له أصلين الأول : عرش الرجل هو قوام أمره . والثاني : العرش هو كل ما يجلس عليه من بيده الأمر والنهي ، وإلى ذلك أشار أرسطو .. وبناء على الأصل الأول ورد المعنى التالي ( وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ) - هود 7 - وكذا ما جاء في المعنى التالي : ( الرحمن على العرش أستوى ) - طه 5 - قال ابن حزم : الأستواء هو الأنتهاء ، أي إنه فعل فعله في العرش وهو إنتهاء خلقه إليه فليس بعد العرش شيء - الفصل في الملل والنحل والأهواء ج2 ص125 - والعرش اسم جنس لأمر الله من قبل ومن بعد لأنه لم يعطه صفة إضافية . وقد يأتي العرش بمعنى المحل أو المكان الذي يجلس عليه كما ذهب إلى ذلك أبو علي الجبائي وبعض معتزلة بغداد كما في قوله تعالى : ( ورفع ابويه على العرش وخروا له سجداً ) - يوسف 100 - ولأن المقام لا يسمح بتفصيل هذا الموضوع فسنترك البحث فيه إلى كتب المقالات والفرق والعلوم القرآنية ونكتفي بهذا القدر ] . ولنعود إلى ماجاء به الهدهد من خبر ونقول الخبر بما هو هو يحتمل الصدق ويحتمل الكذب ، ولهذا قال سليمان ( سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ) - النمل 27 - أما كيفية النظر بذلك فقد جاءت على النحو الآتي : ( اذهب بكتابي هذا .. ) - النمل 28 - وفي النص صورتين الأولى لغة الكتاب والثاني ماهية الكتاب ، وفي الأولى ظاهر الخطاب إنه كتب بلغة تعرفها ملكة سبأ ، وأما الصورة الثانية والمتعلقة بماهية الكتاب فنقول : إن سليمان عندما قال للهدهد ( اذهب بكتابي هذا ) كان شرطه على نحو الأمر المنجز ( فألقه إليهم ) ومعلوم من لفظة إليهم إن الخطاب فيه للجمع وليس للمفرد ، أي إنه يريد الملكة ورجال حكومتها ، ثم قال له سليمان موجهاً ( ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون ) - النمل 28 - أي إن سليمان أمر الهدهد بان لا يسترق السمع ولا يتجسس عليهم ولا يقف عندهم وهم يتشاورون الأمر ، ولقد كان الهدهد على درجة كافية من الوعي والذكاء أهلته ليكون مورد إعتماد سليمان ، خاصة وإنه يقوم بعمل خطير وهام يتطلب الحفظ والضبط دون زيادة ودون نقصان ، وهذا التكليف من الإنسان للطير وإعتماد الإنسان على ذلك دليل على إن الطير أو بعض الحيوانات توازي الإنسان في مهامه .. لنقرء قوله تعالى : ( ثم أعرض عنهم فانظر ماذا يرجعون ) أي أنظ لردات فعلهم وأنظر لطريقة تعاطيهم مع الكتاب وما فيه ، والكتاب المجيد يعزز هذه الرؤية مصدقاً على أمانة الهدهد وصدق كلامه بالقول : ( ياأيها الملؤ إني ألقي إلي كتاب كريم ) - 29 - والملأ هنا بمعنى الأشراف والأعيان وكبار رجال الدولة ، وقد سمت الكتاب بأنه ( كتاب كريم ) أي كتاب عزيز أو كتاب عظيم . ولكن لماذا سمت الكتاب بالكريم ؟ ولماذا صدقت بما فيه ؟ وماهي علة توصيف الكتاب بالكريم ؟ قال البعض ربما لأن الكتاب أبتدأ ببسم الله لذلك فهو كريم من هذه الجهة ! وقيل ربما وصف الكتاب بالكريم لأنه جاء من رجل كريم يعني سليمان ! لقد جاء في الكتاب مايلي : ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألاّ تعلوا علي وأتوني مسلمين ) - النمل 30و31 - والكتاب من حيث هو خطاب عام موجه لملكة سبأ وأعوانها فهو يحمل التالي من الأفكار : 1 - هو كتاب هداية لرجال الدولة ولعامة الناس . 2 - هو كتاب إرشاد للتأكيد على ضرورة وأهمية التغيير في طبيعة الحكم ، وتغيير الواقع وفق مبادئ العدل والحرية والسلام والمساوات . 3 - وفي الكتاب توجيه من سليمان ليكون شريكاً إن أرادو التغيير والإصلاح . وقيد ( وأتوني مسلمين ) لا يعني البتة الإنقياد لسليمان دون قيد أوشرط ، بل إنه توجيه منه للإنقياد إلى الإسلام والسلام وإعطاء الحرية للناس وتركهم احرار فيما يرغبون من عبادة دون فرض أو إكراه . ولكن هل قبلت سبأ وملكتها بمضمون هذا الكتاب ؟ كل المصادر التاريخية ومنها الكتاب المجيد تقول إن ملكة سبأ أستجابت للكتاب طواعية وتركت ما كانت تعبد من دون الله قائلة : ( وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) - النمل 44 - فهي لم تقل : 1 - أسلمت لسليمان بل قالت أسلمت مع سليمان والفرق واضح ، أي إنها أسلمت لله وصدقت بما جاء من عند الله ملبية نداء سليمان بقوله ( وأتوني مسلمين ) . 2 - كان كتاب سليمان يؤكد على الحرية في العبادة باعتبارها نظام في الأختيار ضروري للناس كافة . نعم يفهم من سياق الحركة التاريخية لدعوة سليمان لملكة سبأ إنها مرت بمرحلتين هما : أولاً : مرحلة الكشف ونعني بها الكشف الجغرافي والكشف المعنوي اللازم لتأدية مهام الدعوة . وثانياً : مرحلة الدعوة عبر كتاب سليمان الداعي للحوار حول قضايا العبادة والحرية والسلطة والقانون وكل ذلك يرتبط بحركة المجتمع وما يلزمه . ومع إيمانها بما جاء في كتاب سليمان لكنها تركت الأمر شورى لرجال حكومتها يتخذون مايرونه مناسباً قالت ( باأيها الملؤ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون ) - النمل 32 - وجملة - ما كنت قاطعة امراً حتى تشهدون - دليل على رجاحة عقلها وحكمتها وشعورها بالمسؤولية ، فالشورى هي حالة متقدمة تعبر عن إرادة وعي لما يمكن ان يصار إليه قال تعالى ( وشاورهم في الأمر ) - آل عمران 159 - وقال ( وأمرهم شورى ) - 38 - فمن الشورى تنتج الأفكار ومنها تتولد الحقايق وما يجب وما ينبغي فعله ، فالشورى يجب ان تكون قاعدة للعمل السياسي الذي يحكم الجماعة البشرية ، ولهذا قال لها قومها ورجال حكمها : ( فانظري ماذا تأمرين ) - النمل 33 - بعد قولهم ( نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد ) - النمل 33 - أي إن لنا باع في القتال ونحن لن نستجدي السلام إنما نحن نرغب بالتعايش فانظري ماذا تامرين وهذا يعني : 1 - أن السلام من دون قوة تحميه إستسلام . 2 - وجوب إمتلاك القدرة على التصرف في أسوأ الظروف . ولأنها كما قلنا زعيمة من طراز فريد وصاحبة حق لذلك قالت ( إن الملوك إذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ) - النمل 34 - زلفظة افسدوها تعني شاركوا في القضاء عليها ، من خلال تدمير كل الصروح والمؤوسسات الثقافية والفكرية والإجتماعية ، أي إن سلطة الإحتلال والإستبداد تعملان على تقويض ركائز الدولة ومظاهر الحياة المتمدنه ، مما ينتج مجتمع طائفي مفكك يقوم على سلطة الأنا الذاتي كما في وصفها يجعلون ( أعزة أهلها أذلة ) أي يجعلون كرام القوم وسادتهم أذلة تبعاً لمصالحهم وكذلك يفعلون . الذي أردناه من هذا البيان هو تعليل وتحقيق في صحة وعدم صحة ما يسمى بالجهاد الأبتدائي وعلاقته بالدعوة إلى الله والإسلام ، وإن هذا النوع من الجهاد ممنوع في الكتاب المجيد ، فالشرط الذي يقرره التنزيل هو تحقيق الحرية وترك الناس فيما يرغبون وفيما يريدون من دون إكراه أو تعد أو قهر !!