لا تمل الإدارة الأميركية من تكرار نفس حججها بشأن تأخير الانسحاب الأميركي من العراق، فمن تعاظم للنفوذ الإيراني في المنطقة، إلى تعزيز لدور الإرهابيين وتهديد الأمن القومي الأميركي، إلى تحول العراق كي يصبح دولة فاشلة.
وبالنظر إلى هذه المبررات، باعتبارها معوقات للتفكير في الانسحاب الأميركي من العراق، يتضح أن جميعها يمكن تفنيده بعبارة واحدة وهي: كلما بقيت الولايات المتحدة في العراق، كلما زاد وقوع هذه الاحتمالات بالفعل. وبالتالي كلما أسرعت الولايات المتحدة في إعداد خطط للانسحاب من العراق، كلما قلت هذه الاحتمالات وقوعاً.
وفي هذه الحال، يصبح الانسحاب تعظيم للمكاسب، التي هي هنا تقليل للخسائر التي هي قائمة بالفعل. ولنبدأ بالمبرر الأول الذي تسوقه الإدارة الأميركية للبقاء في العراق، وهو تعاظم النفوذ الإيراني في المنطقة، وابتداء فإيران لم تتمدد في المنطقة إلا بعد التاسع من إبريل 2003 أي عشية سقوط النظام العراقي السابق، ولربما باتت فاعلاً مؤثراً في السياسة العربية وملفاتها الملتهبة، ولكن تأثيرها هذا إنما يقوم على انسحاب الأطراف العربية المؤثرة من معادلة هذه الملفات، وليس لقوة إيران في حد ذاتها. والأكثر من ذلك أن انسحاباً أميركيا من العراق، وإن كان سيمثل مكسباً لإيران في العراق، إلا أنه سيضع إيران في مواجهة الدول العربية مباشرة، وحينئذ ستقع إيران بين خيارين، إما العمل من أجل عراق مستقر وآمن يضمن استقرار المنطقة، وإما التضحية بعلاقاتها مع الدول العربية وللأبد. بل الأكثر من ذلك فإن الانسحاب من العراق سيحرم إيران من أوراقها الإقليمية الأخرى وعلى رأسها التحالف مع سوريا وبعض القوى ما دون الدولة، وذلك تحت وطأة انتفاء مبررات التحالف والالتقاء بعد خروج أميركا من العراق.
أما بالنسبة للمبرر الثاني الذي تسوقه الإدارة الأميركية لتأخير الانسحاب من العراق فهو المتعلق بتعزيز مواقع المتشددين والمتطرفين، ومع إقرارنا بأن ذلك قائم بالفعل الآن في ظل القتل العشوائي المتواصل، فإن الإصرار الأميركي علي البقاء في العراق يمنح هؤلاء مبرراً للتواجد، بل وشرعية الأداء، ويصعب عملية الفرز ما بين المقاومة الوطنية، وأنصار القاعدة الذين يرغبون في إعادة إنتاج التجربة الأفغانية في العراق. ولا أرى مبرراً لترديد الفرضية الجهنمية بازدياد قوة القاعدة عطفاً على الانسحاب من العراق، ذلك أن كثيرين يعلمون حقيقة الدور الذي تقوم به القاعدة في العراق، ومدى علاقة التنظيم بالقوى الوطنية العراقية والتي وصلت إلى أعلى درجاتها توترا مؤخراً.
في حين تحولت مقولة تهديد الأمن القومي الأميركي كي تصبح مجرد عبارة للاستهلاك الإعلامي والتوظيف السياسي، ذلك مسألة التهديد لا تتعلق فقط بتنظيم القاعدة، الذي يعلم الجميع مدى تفككه وانتهاء مركزيته الحركية، وإنما بالإصرار الأميركي على التحرك المنفرد في إدارة الملفات الدولية، وعدم الاكتراث لقواعد الشرعية الدولية واحترام قراراتها سواء تلك المتعلقة بالمنطقة العربية أو غيرها. الأكثر من ذلك أن التهديد قائم بالفعل ويكفي أن نراجع سيل التقارير الاستخباراتية التي تصدر دورياً وتؤكد تزايد مؤشرات الخطر التي يمكن أن تتعرض لها الولايات المتحدة ومصالحها حول العالم. وإذا كان البعض يقارن بين وضع الاتحاد السوفيتي في أفغانستان في الثمانينات، والوضع الأميركي الراهن في العراق، وبالتالي قد يمثل انسحاب الولايات المتحدة دليلاً على الضعف أمام حجافل المتشددين، فالرد على ذلك أن الوضع العالمي والإقليمي والمحلي (الأميركي) مختلف، والسياق مغاير، فالولايات المتحدة لا تواجه عدواً حقيقياً يمكن أن يسعى لاستغلال ضعفها الخارجي للانقضاض عليها، كما فعلت هي مع الاتحاد السوفيتي السابق، كما أن هناك نضجاً عربياً وإقليمياً بمخاطر تنظيم القاعدة، وهناك توافق عربي على عدم إعطاء الفرصة لنمو أي تنظيم إرهابي لأنه يمكن أن يشكل تهديداً للاستقرار في المنطقة.
وأما بخصوص فرضية تحول العراق لدولة فاشلة، فهو أمر قائم بالفعل، حيث يحتل العراق المركز الثاني في مؤشر الدول الفاشلة الذي تصدره مجلة فورين بوليسي الأميركية، ولربما يؤدي الانسحاب الأميركي إلى تهدئة الأوضاع في العراق، وانتفاء مبرر الحرب الأهلية الطاحنة هناك. مع العلم بأن السياسات الأميركية الخاطئة علي مدار الأعوام الأربعة الماضية كانت السبب الرئيسي لتحول العراق إلي دولة فاشلة.
وخلاصة القول بأن الولايات المتحدة تبدو كمريض لا يرغب في تجرع الدواء، والدواء بالنسبة لإدارة بوش هو بدء إجراءات الانسحاب الفعلي من العراق، ولكن من يفهم؟
خليل العناني
كاتب مصري