في كتابه “حوار ساخن عن الإلحاد”، ينسب السيد هادي المدرّسي أثناء حواره مع أحد الشباب “كلاما غيبيا” إلى “العلم” ويطلب من القارئ إن أراد أن يتأكد منه أن يعود إلى كتاب “الحياة بعد الحياة” لمؤلفته كيت أندرسون، فهو يشير إلى الكتاب للتدليل “علميا” على وجود حياة بعد الموت أو حياة بعد هذه الحياة أو عالم آخر أو الدنيا الآخرة. إن الإشارة إلى وجود هذه الحياة واردة في نصوص بعض الأديان وليس في جميعها، كاليهودية التي لا تؤمن بوجود عالم آخر، أمّا النصوص التي أكدت على وجود حياة بعد هذه الحياة، كالإسلام والمسيحية، فهي استندت في ذلك إلى “التسليم” بما ورد لا إلى الاعتماد على “الدليل العلمي”. أي إنها نصوص “إيمانية” تقطع بوجود حياة بعد هذه الحياة وليست نصوصا “علمية” تدلّل على ذلك. فلا فائدة ترجى من التفسير العلمي (إن وُجد) في إثبات الكلام الإيماني التعبّدي الغيبي، وإنما وحسب النص الديني يجب التسليم فيه فحسب. وأي إشارة إلى إمكانية وجود تفسير علمي لهذا الكلام، لن تساهم في تأكيد أو نفي وجوده بالنسبة للمؤمن. أي إنه لو زعم العلم عدم وجود حياة أخرى بعد حياتنا هذه فإن ذلك لن يزعزع من إيمان المؤمن بوجود تلك الحياة وسيستمر في تسليمه بوجودها.
إنّ العلم يعيش حالة قبض وبسط باستمرار، لهذا لا يصلح في أن يكون وسيلة لتثبيت المسائل الإيمانية القطعية في قلب المؤمن، إذ قد يكون العلم اليوم مع تأكيد مسألة من المسائل، ثم قد يصل غدا إلى نتيجة مغايرة. فـ”كل شيء في العلم مطروح للسؤال، وعرضة للشك، وفي حاجة دائمة للبرهان” كما يقول الباحث السعودي خالد الدخيل، مضيفا بأن “المرجعية في العلم هي للعقل وللمنهج العلمي معاً”، أما المنطلق الأساسي للمنهج الديني فهو “الإيمان المسبق.. وليس هناك مجال أبداً في المنهج الديني للسؤال أو الشك، خاصة أمام النص والإجماع. المبدأ هو الإيمان، والمنتهى هو اليقين“.
لذلك، هناك مغالطة واضحة في شرح مفهومي الإيمان بالشيء وبين العلم بالشيء. فمثلا في رؤية الشيء أو في عدم رؤيته، لا يمكن أن نخلط في ذلك بين المسائل المادية وبين المسائل غير المادية وأن نضعهما في خانة منهجية وتحليلية واحدة، إنما هناك “منهج” لرؤية وسماع وإحساس الأمر المادي، وهو يختلف عن “منهج” رؤية وسماع وإحساس الأمر غير المادي. أي إننا أمام منهجين أحدهما يفيد في اكتشاف الأمور الإيمانية والغيبية، وهي أمور لا نراها، والآخر يفيد في اكتشاف الأمور المادية حتى لو لم نراها، والخلط بين الاثنين في المنهج وفي التحليل وفي العناوين المراد اكتشافها هو مغالطة واضحة. فمن الخطأ طرح السؤال التالي من قبل المؤلف في الكتاب: “هل لابد أن ترى الشيء أو تسمعه أو تحسّه، حتى تؤمن به؟”. والإجابة “نعم” التي أوردها المؤلف على لسان محاوره الملحد هي مسعى واضح للخلط بين المسائل المادية والمسائل غير المادية، وكأنه يقول بأن البشر ينقسمون إلى قسمين، الأول مؤمنون بالله الإبراهيمي المسلم أو المسيحي أو اليهودي، أو مؤمنون بالإله غير الإبراهيمي كالبوذيين والهندوس وغيرك ذلك الكثير، والثاني غير المؤمنين بالله وهم لا يعترفون إلا بالمنهج الدال إلى المسائل المادية، وأن المسائل غير المادية كالمشاعر والعواطف والأحاسيس هي خارج أجندتهم، وهذا غير صحيح.
إن من يطرح المنهج العلمي لإثبات أمور غيبية إيمانية، يجب أن يقرّ بأن هذا المنهج قد يؤدي إلى نتائج مغايرة لا تخدم إثبات الأمور الغيبية الإيمانية، أي إن هذا المنهج قد يفضي إلى الإيمان وقد يفضي إلى الإلحاد أيضا، ولا يمكن إجبار الإنسان على الالتزام بنتائج المنهج، بل لابد من جعل الموضوع قابلا للاختيار، اختيار النتائج بحرية ومن خلال الإدراك العقلاني الحر، لأنه مرتبط بالعلم والبرهان والدليل. لذلك يطرح السؤال التالي نفسه: هل نريد للإنسان أن يفكر بحرية وأن يلجأ إلى المنهج العلمي لإثبات أمر ما واستخراج نتائجه، أم يجب فرض الأفكار عليه وإبعاده عن التفكير الحر؟ إذا وافقنا على أن الحرية هي أساس التفكير، إذن لنبعد فروضاتنا عن تفكير الإنسان، ولنجعله يعيش واقعه بصور غير جازمة. فإذا كنا نقرّ بالمنهج العلمي فلماذا الخوف من نتائجه؟ فإما قبول النتائج أيا كانت، أو إبعاد الأفكار الغيبية عن هذا المنهج ووصلها بمنهج آخر يختلف تماما عن ذلك، كمنهج التجلي والعرفان الباطني.
إن تلك النتيجة تحيلنا إلى وجهة أخلاقية، مستندة إلى ضرورة احترام الرأي والرأي الآخر النسبي، والتي هي في الضد من أي دوغمائية وفي مقابل أي إحالة إلى قالب “إما في الجنة أو في النار”، أو “إما معنا أو ضدنا”، أو “إما مع الله أو مع الشيطان”، فثقافة الفسطاطين هذه هي في الضد من حرية البحث العلمي التي يصرّ البعض أن يجعل من الإيمان بالله وبالأديان وبالاعتقادات الغيبية جزءا منها، وهو ما لا تستقيم نتائجه مع الخطاب الديني الذي يحيلك إلى القوالب. فالمنهج العلمي الذي يستند إليه الخطاب الديني يقول للإنسان: ابحث. وحينما يصل الإنسان في بحثه إلى نتائج مغايرة لما يؤمن به الخطاب ولما يجزيه من جنّة، يطالب الإنسان بترك النتائج التي توصّل إليها لأنها في اعتقاده خطرة عليه وتهدّد مستقبله وتؤدّي به إلى النار، أي إن الدعوة إلى البحث العلمي هي مجرد “دعوة شكلية” ولا يجب أن تؤدّي إلى نتائج متباينة بل إلى نتيجة واحدة وهي التي يطالب بها الخطاب الديني، لذلك كان على القائمين على هذا الخطاب أن “يأمروا” الإنسان بالإيمان لا أن يدعوه إلى البحث والتفكّر. فالبحث قد يؤدي بالإنسان إلى الإيمان وقد يؤدي به إلى الكفر أيضا. أمّا الإيمان فإنه قد يدخل إلى قلب الإنسان عن طريق مغاير للبحث والتفكر العلمي، أي عن طريق التجلي والتجربة الباطنية والرؤيا، وقد لا يدخل، وحينها لا يجب فرض الدوغمائيات الغيبية عليه.