يؤشر التاريخ الاقتصادي السياسي الأوروبي ان الثورتين الانكليزية والفرنسية في العامين 1688 و1789 هما اللتان شيدتا البناء السياسي المؤسسي، ووفرتا معايير الحقوق السياسية التي أسست لتعليم جيد وخدمات اساسية وفرص متكافئة الى حد بعيد، وهما اللتان اطلقتا الثورة الصناعية، التي بنيت على القوانين الموضوعية لحركة التاريخ.
وهكذا يمتلئ ميدان التحرير في القاهرة بحشود لا تطلب ابتداء تعليما افضل او توفير فرص عمل او خدمات اساسية او رغيف خبز لجياع مصر، بل كانوا يبحثون عما يوفر لهم حقوقا سياسية ومؤسسات دستورية حتى اسقطوا النظام في 11 من شباط 2011.
على مدى تاريخ مصر السياسي، لم تبن مؤسسات توفر حقوقا سياسية. فلم تؤد النخبة الملكية، او العسكرية التي قادت ثورة 1952 دورا في إرساء الحقوق السياسية في البلد، وانتهى الحال بمصر ان يحكمها حسني مبارك، الذي أدار البلد ببداوة سياسية وهمجية قمعية بلغت صورتها المباشرة بمعركة الجمال او واقعة الجمل في ميدان التحرير.
حدثني صاحبي الأكاديمي في جامعة “تنكا الوطنية” في ماليزيا ونحن على طاولة غداء في مطعم بحدائق الازهر في حزيران 2012، بأنه كثيرا ما كان يلتقي عند ادائه الصلاة في احد مساجد كوالالمبور بشخصية خليجية تقف دائما الى جانبه: شخص حسن الطلعة في العقد الخمسيني من عمره، لكنه لا يقوى على الكلام. واتضح في ما بعد انه امير ثري مقطوع اللسان يعيش في منفاه في اقاصي اسيا منذ اكثر من عقدين من الزمان، بعدما نافس “عمه” على حكم امارة في واحدة من دولنا العربية الصغيرة. وقد عمد عمه الى استعمال العرف البدوي بقطع لسان الامير الشاب ليسكته الى الابد، من دون ان يقضي على حياته.
كان “العم” يريد قتله سياسيا، ويتركه صامتا في منفاه، الا انه يتيح له تنعمه بحصة من عوائد الامارة النفطية، شريطة مواصلة عبادته ودوام انقطاعه الى ربه في تلك البلاد البعيدة، فيما ابناء عمه يديرون بلدهم بسياسة من دون عبادة ولكن بلسان ناطق!
عدد من الامراء في بلداننا العربية مارسوا وما زالوا وظيفتهم السياسية في الاستبداد الشرقي بمثل هذه القسوة ازاء خصومهم السياسيين، التي تبدأ في الغالب مع ابناء عمومتهم قبل مواطنيهم. سياسة تقتضي تعطيل جسد المنافس السياسي المتطلع الى شراكة في كرسي الحكم، من خلال قطع لسانه او سمل عينيه، وربما في حالات نادرة قطع أنفه!
منافسون سياسيون سابقون فقدوا عيونهم وما زالوا يقبعون في قصور فارهة، ينعمون بموارد النفط وحصتهم منها بلا “حراك” سياسي او “بصيرة” سياسية، وآخرون صامتون لفقدانهم ألسنتهم فلا يقوون على الكلام او ممارسة جدل سياسي، او تنازع على الحكم باستعمال السنتهم كأداة للاقناع او الاعتداء!
الحوار مع خصوم او منافسين في تاريخ منطقتنا السياسي لا بد ان يشتمل على حربة او خنجر او سيف قاطع او رصاصة او سم او سجن مظلم.
وهكذا ايضا تحولت بلاد الرافدين الى مستنقع من الدم يتلقى فيه الخصوم السياسيون دروسا بسيطة في الصمت او يتعلم امثالهم دروسا متقدمة في الموت.
البداوة السياسية تبالغ في الايذاء وتبتكر اساليب العقاب، ومن امثلتها قطع آذان الهاربين من حروب البداوة والاستبداد الشرقي. بعد اندثار حضارة ما بين النهرين وشرائع بابل وآشور، انتهت البلاد الى شرائع البداوة لصيانة سدة الحكم. فالاقارب تقطع السنتهم على وفق قاعدة “الاقربون اولى بالصمت”، اما الأبعدون فهم اولى بالموت. وكل حسب طاقته في (الكلام) وكل حسب حاجته الى (الصمت).
ثمة رواية تتحدث عن ابن ملك العرب وقت تنصيبه ملكا لمملكته، ومادبة اقامها على شرفه احد امراء البدو في مضارب البدو في جنوب بلاده. كانت مائدة الطعام تجسيدا للبداوة السياسية: على منسف الرز كان خروف مشوي (رمز السياسي الضحية). مد امير البدو، الذي كان جالسا قبالة الملك، يده الى رأس الخروف فقلع عينيه بأصابعه في اشارة سياسية حادة لبدء الطعام؛ جزء من متطلبات كرم الضيافة البدوية. لكن الملك الذكي، ابن ملك ملوك العرب، رد بتقطيع فكي الخروف بحثا عن لسانه ليقطعه اربا اربا! علت الابتسامة وجه مضيفه، أمير البدو، فبادله الملك الشجاع بابتسامة مماثلة معلنا انتهاء المشهد السياسي، وانصرف الجميع الى الاكل، ثم انتهى الأمر ببناء مملكة صغيرة لكن قوية.
انها البداوة السياسية الحاضرة في مستهل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، قرن الديمقراطيات البدوية السائبة.
العالم