أشرنا في نهاية المقال السابق إلى أهمية الأفكار التي بثها أفلاطون في نقد الحكم الاستبدادي، في الحوار الذي أجراه في كتابه "الجمهورية" حول أنظمة الحكم. وقلنا إنه إذا كان هناك نص خالد، يقرأ فيه الناس، من مختلف العصور والأجيال،
صورة الحاكم المستبد في زمانهم ومكانهم، فهو ما ورد في الكتاب التاسع من "جمهورية" أفلاطون. ومع أن مهمة ابن رشد، في تعامله معه كانت "الاختصار" فإنه أرخى العنان لقلمه ليطنِب في نقل جميع ما خطَّه قلم أفلاطون في هذا الموضوع الذي تكلم فيه عن تجربة ومعاناة، إذ كان قد خبر بنفسه الاستبداد عن قرب. وكما قلنا فإن ابن رشد ينقل ما كتبه أفلاطون في صيغة حوار نقلاً مستفيضاً بخطاب تحليلي يشعر القارئ معه بأن الكاتب لا ينقل وإنما يتكلم من عنده، بعقله ووجدانه. ولا يستطيع القارئ المتفحص للطريقة التي نقل بها ابن رشد كامل مضمون الكتاب التاسع من "الجمهورية" إلا أن يجزم بأن فيلسوف قرطبة كان يخاطب أهل زمانه ومكانه على طريقة "إياك أعني واسمعي يا جارة". وإذا كان هذا هو الموقف الذي يجد فيه نفسه كل من يقرأ هذا "الكتاب التاسع" في أي عصر كان، فإن فيلسوف قرطبة يأبى إلا أن يتجاوز التلميح إلى الخطاب المباشر والصريح، مستعملاً مصطلحاً أصيلاً هو "وحدانية التسلط" للتعبير عن معنى الحكم الاستبدادي. وهذا التعبير الذي اختاره ابن رشد له معناه. ذلك أن الاستبداد في الاصطلاح العربي القديم لم يكن مُداناً بإطلاق، لقد حرص الكُتاب في "السياسة" على التمييز بين الاستبداد المطلق وهو المُدان، و"الاستبداد المقيَّد" وهو المطلوب، وينصرف معناه إلى "الحزم". ومن هنا عبارة "المستبد العادل" التي رُفعت أحياناً كشعار للحكم الصالح، وفي هذا المعنى قيل لا يصلِح أمر هذه الأمة إلا "مستبد عادل"، أي عادل حازم، وهنا يُذكر عمر بن الخطاب كنموذج...
بعد هذا الاستطراد نعود إلى ابن رشد وطريقته في حكاية أقوال أفلاطون عن الحكم الاستبدادي.
يقول عن "الطاغية" بالاصطلاح اليوناني و"وحداني التسلط" باصطلاحه هو: "ولهذا يعظم هذا الفعل منه على الجماعة فيرون أن فعله هو عكس ما قصدوه من تسليمه الرئاسة، لأنهم إنما قصدوا بذلك أن يحميهم من ذوي اليسار و[يقربهم من] ذوي الفضائل والخير وأمثالهم من أهل المدينة -لما كان هو من أصحاب الحكم والسلطان- ليستتب [أمرهم] بسياسته وسياسة خدامه. ولذلك تسعى الجماعة الغاضبة الثائرة إلى إخراجه من مدينتهم، فيضطر هو إلى استعبادهم والاستيلاء على عتادهم وآلة أسلحتهم، فيصير حال الجماعة معه كما يقول المثل: كالمستجير من الرمضاء بالنار. وذلك أن الجماعة إنما فرَّت من الاستعباد بتسليمها الرئاسة إليه، فإذا هي تقع في استعباد أكثر قسوة. وهذه الأعمال هي جميعاً من أعمال رئاسة وحدانية التسلط، وهي شيء بين في أهل زماننا هذا ليس بالقول فحسب، ولكن أيضاً بالحس والمشاهدة".
حرص الكُتاب في "السياسة" على التمييز بين الاستبداد المطلق وهو المُدان، و"الاستبداد المقيَّد" وهو المطلوب، وينصرف معناه إلى "الحزم". ومن هنا عبارة "المستبد العادل".
وأيضاً: "ولمكان هذا (بسبب هذا) فوحداني التسلط أشد الناس عبودية، وليس له حيلة في إشباع شهواته، بل هو أبداً في حزن وأسىً دائمين. ومَنْ هذه صفته فهو ضعيف النفس، وهو حسود وظالم لا يحب أحداً من الناس. وذلك أن هذه الصفات لما كانت موجودة فيه قبل الرئاسة، فهي ألزم به بعدها. وبالضرورة لا ريب أن يكون اليوم الذي يواجه فيه مآله ومصيره يوماً عسيراً، لأن من يركب البخت والاتفاق (والمصادفة)، كثيراً ما يستخف به. وهذا كله بيِّن وجليٌّ من هؤلاء، كما قلنا مراراً، لا بالقول [وحسب] ولكن بالمشاهدة [أيضاً].
مشاهدة مَن؟
هل يتعلق الأمر بالمنصور الموحدي عند جنوحه إلى الاستبداد، وهو الذي انتزع الخلافة عند استشهاد أبيه في إحدى المعارك لتحرير مدينة شنترين من يد ملك قشتالة؟ لقد حض في المعركة، وعندما استشهد أبوه أخفى خبر وفاته حتى فرض نفسه كأمر واقع، "وكان له من إخوته وعمومته منافسون لا يرونه أهلاً للإمارة لما كانوا يعرفون من سوء صباه" كما يقول المؤرخون. وإذن فالإشارة بقوله: "وذلك أن هذه الصفات لما كانت موجودة فيه قبل الرئاسة، فهي ألزم به بعدها"، قابلة للتأويل: قابلة لتفسر على أنها إشارة مباشرة إلى يعقوب المنصور!
فهل نحتاج إلى البحث عن سبب لنكبة ابن رشد خارج هذا الكتاب؟
ويواصل ابن رشد توجيه الخطاب المباشر إلى أهل زمانه، وبالدرجة الأولى إلى الأمير الذي طلب منه "كتاباً في السياسة"، فينفصل عن يأس أفلاطون من إقامة المدينة الفاضلة على أرض الواقع ليعلن إمكانية ذلك، ليس استناداً إلى مجرد الرغبة والتخمين بل اعتماداً على ما يعطيه "العلم". كان أفلاطون قد حلل الكيفية التي تتحول بها المدن الخمس (مدينة الملكية الدستورية، مدينة الكرامة، مدينة الأقلية من الأغنياء، المدينة الجماعية، المدينة وحدانية التسلط)، ذاهباً إلى أن هذا التحول وعلى هذا الترتيب يتم حتماً وبشكل دوري، فلا مناص منه.
ولا شك أن ابن رشد الذي كان يفكر في الإصلاح السياسي قد صدمه هذا الذي ذهب إليه أفلاطون، فأورد اعتراضاً علمياً مفاده أن التحول من حالة إلى أخرى تحولاً ضرورياً إنما يكون في الظواهر الطبيعية حيث السيادة للسببية والحتمية. أما في ميدان الظواهر الإنسانية، "وهي إرادية كليّاً"، فالأمر يختلف. ولذلك فـ"الذي قاله أفلاطون لاشك أنه ليس ضرورياً، إنما هو الأكثر. وسبب هذا هو أن السياسة القائمة لها أثر في إكساب الناشئ عليها خلقاً ما، وإن كان منافياً لما طبع عليه من التهيؤ للأخلاق، ولذلك صار ممكناً أن يكون معظم الناس فاضلين بالفضائل الإنسانية، ونادراً ما يمتنع ذلك. وقد تبين هذا في الجزء الأول من العلم المدني (الأخلاق)، إذ قيل هناك إن طرق بلوغ الفضائل العملية هي التعود، كما أن طريق بلوغ العلوم النظرية هو التعليم. ولما كان ذلك كذلك، فإن تحول الإنسان من خلُق إلى خلُق إنما يكون تابعاً لتحول السُّنن ومرتباً على ترتيبها. ولما كانت النواميس، وخاصة في المدينة الفاضلة، لا تتحول من حال إلى حال فجأة، وهذا أيضاً من قبل الملَكات والأخلاق الفاضلة التي صار على نهجها أصحابها وربوا عليها، وإنما تتحول شيئاً فشيئاً، وإلى الأقرب فالأقرب، كان تحول الملكات والهيئات بالضرورة على ذلك الترتيب، حتى إذا فسدت النواميس غاية الفساد، برزت هناك الأخلاق القبيحة غاية القبح".
ويضيف فيلسوف قرطبة قائلاً: "ويتبين لك ذلك مما عندنا (في الأندلس) من الملكات والأخلاق الطارئة بعد العام الأربعين (540 هـ: تاريخ استيلاء الموحدين على قرطبة) لدى أصحاب السيادة والمراتب. وذلك أنه لما انقطعت أسباب السياسة الكرامية التي نشأوا عليها، صار أمرهم إلى الدنيويات التي هم عليها الآن، وإنما يثبت منهم على الخلق الفاضل من كانت به فضيلة الشريعة القرآنية، وهم فيهم قلة"! وهذه القلة هي التي يقع على عاتقها التغيير والإصلاح.
تلك كانت نماذج من "كلام" ابن رشد عن الواقع العربي كما عاشه وخبره. وكما رأينا فلم يكن ابن رشد يخوض في شؤون هذا الواقع بـ"القصد الأول"، وإنما جاء كلامه نتيجة لعاملين اثنين: أولهما الاستجابة لطلب صديقه الأمير الموحدي الذي كان يعد نفسه لاستلام الخلافة، كما بينَّا ذلك قبل. وثانيهما اضطراره إلى اعتماد أفلاطون بدل أرسطو، لكونه لم يعثر على أثر لكتاب هذا الأخير في السياسة.
أما الشخص الذي تكلم عن الواقع العربي جملة وبـ"القصد الأول" والذي سيكون علينا الاستماع له فهو... ابن خلدون.