هذه الفوضى العبثية المدمرة التي تجري في الساحة العربية وتسيء إلى الصورة الحضارية للعرب والمسلمين عامة وتشوه مبادئ الإسلام أمام أنظار العالم، تُوجب علينا طرح تساؤلات عديدة حول أسباب هذه الظاهرة الخطيرة وكيفية مواجهتها وتفكيكها.
ما الذي أوصلنا إلى هذه الحالة؟ ولماذا أصبحنا نقاتل بعضنا بعضاً؟ ولماذا أصبحنا أساتذة في (صناعة الموت) و(القنابل البشرية) لا في (فن الحياة) وصناعة الإبداع؟ لماذا أصبح (الانتحار) و(تفجير النفس) ثقافة مقبولة في مجتمعاتنا؟ لماذا أصبح بعض شبابنا ناقماً على الحياة والعصر والمجتمع؟ لماذا أصبحت الحياة في نظرهم مأسوية يودون التخلص منها؟ لماذا انقلبوا علينا وأصبحوا مصدر قلق للعالم أجمع؟ لقد وصلت الحالة العربية إلى أن الجماعات الإرهابية أصبحت لا تقيم وزناً لكرامة وحرمة الميت، العنف في العراق يشهد الآن ظاهرة الجثث (المفخخة) أصبحوا لا يتورعون عن استهداف جنازات الموتى لقتل الأقارب الحزانى!! جماعة (فتح الإسلام) في مخيم نهر البارد، يقومون بتفخيخ جثث قتلاهم والقتلى الفلسطينيين حتى تنفجر في سيارات الإسعاف لتقتل رجال الإسعاف!! لقد أصبحت تلك التنظيمات تمتلك أسلحة لا تخطر على البال باسم (المقاومة والجهاد) فاستأسدت على الدولة وتجرأت على محاربة الجيش ومنازلته بأسلحة ثقيلة ليس هذا في لبنان فحسب بل في العديد من الدول العربية: الجزائر، اليمن، العراق، السعودية، مصر، لقد تحول سلاح المقاومة إلى الداخل العربي بعد أن عجز عن مقاومة المحتل فأصبح هدفه، هو الوصول إلى السلطة بأي ثمن، ومصداق ذلك ما نشاهده في لبنان. وفي فلسطين بين حماس وفتح، وفي اليمن ـ جماعة الحوثيين ـ والجماعة السلفية في الجزائر والمحاكم في الصومال، لقد تحولت المخيمات الفلسطينية في لبنان إلى ملاذ آمن للعصابات الإرهابية بفضل اتفاقية القاهرة (1969) التي حظرت على الجيش اللبناني دخولها، وأصبحت أداة في الصراعات السياسية اللبنانية والعربية وانقلبت قضية فلسطين إلى تجارة قومية ودينية لا تبور. تساءل الكاتب القطري د. أحمد عبدالملك: ماذا يجري للعرب؟ والجواب باختصار، أن ما يجري هو (حصيلة) نصف قرن لنضالات سياسية وطروحات فكرية لتيارين سياسيين رئيسيين في الساحة هما: التيار القومي ممثلاً في (الناصرية والبعث) والتيار الديني ـ الإسلامي السياسي ـ ممثلاً في (الإخوان) لقد كانت المحصلة النهائية للنضال الفكري والسياسي القومي والديني، ثماراً مرة، تعاني مجتمعاتنا ـ حالياً ـ مرارتها على كافة أوضاعها وأحوالها: السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والإعلامية والتعليمية. لقد كان الحصاد النهائي لجهود القوميين والإسلاميين بعد أكثر من نصف قرن هو (ثقافة الكراهية والإقصاء) و(نظرية المؤامرة) غذينا بهما أولادنا عبر الخطاب الديني والتعليمي والإعلامي، ليثأروا لنا من العالم، ففعلوا ولكنهم انقلبوا علينا في النهاية! هؤلاء ضحايا ثقافة قومية ودينية استمرت نصف قرن ولا تزال، هي (ثقافة سياسية) ترفض المساءلة والنقد والمحاسبة وتتهرب منها وتلقي بمسؤولية سلسلة الهزائم المنكرة وكل إخفاقات مشاريع التنمية العربية المزمنة على الخارج وتُعفي ذاتها من أي لوم، فنحن (جيل الفشل) بامتياز كما قال د. فاروق الباز «فشل جيلي فشلاً ذريعاً في تحقيق آمال الشعب العربي في الوحدة، وتحرير فلسطين، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ومحو الأمية». لقد مرّت الذكرى الأربعون للهزيمة الكبرى (67) من دون أن يساءل أصحابها أو يحاسبوا، مازالوا ينظرون ويبررون ويتهمون، وما زال رمز الهزيمة الأكبر يطل علينا من شاشات الفضائيات متحدثاً عن الموتى بوثائقه التي لا يأتيها الباطل! لا تزال ديناصورات الفكرين القومي والإسلامي السياسي تتسيّد الساحتين الثقافية والإعلامية من دون أية مراجعة أو إعادة نظر في مجمل المنظومة الفكرية التي أورثتنا هذه الأوضاع المأساوية الفوضوية. لم يحاسب الناصريون عبدالناصر حتى بعد 40 عاماً من الهزيمة، وقد كان قرار التنحي لعباً بالمشاعر، وهروباً من المحاسبة! كما لم يراجع الإخوان الطرح الفكري لمؤسس تنظيمهم الشيخ البنا، وحدهما «الجماعة الجهادية» و«الجماعة الإسلامية» في مصر، راجعتا واعترفتا بالأخطاء، وذلك على مستوى كل التنظيمات الإسلامية والسياسية العربية. لقد كانت 50 عاماً من الفشل لكل مشاريع جماعات الإسلام السياسي طبقاً لخالد الحروب، نقلاً عن (أوليفيه روا) الباحث الفرنسي (الحركات الإسلامية لم تقدم أي مشروع اجتماعي اقتصادي خلاّق) ونجحت في شيء واحد فقط هو إدخال (صناعة الموت) في العمل والصراع السياسي، طبقاً لخليل حيدر ـ الكاتب الكويتي ـ الذي يضيف «ان الحركات الإسلامية وضعت ثقافة الجهاد وصناعة الموت في خدمة جماعات الإسلام السياسي، ودمرت مؤلفات واجتهادات هذه الحركات على امتداد عشرات السنين كل عناصر الاستقرار السياسي والحداثة والثقافة الإنسانية في عقول أجيال متلاحقة من الشباب». نعم هذه الأدبيات التي تزخر بها المكتبات تحرّض الشباب على جهاد (الموت) في سبيل الله، لا جهاد الحياة والتنمية والإنتاج والإعمار في سبيل الله، وقد أخفقت مناهج التعليم التي أشرف عليها هؤلاء، وكذلك الفكر القومي من تحصين شبابنا ضد آفات التطرف، كما فشل دعاة الوسطية والاعتدال رغم سيطرتهم الطويلة على المراكز الدينية والتوجيهية في البلاد العربية والغرب عن تقديم الصورة الحضارية للإسلام! كما كانت ـ أيضاً ـ خمسون سنة مريرة لكل مشاريع الأحزاب القومية رغم وصولها للسلطة، فشلت في تكريس مفهوم (المواطنة) وفي التنمية والتعليم، لكنها نجحت في شيئين: إشاعة ثقافة (التخوين) ضد المخالفين، حيث ربطت «الوطنية» بعداوة الغرب وأميركا، وكرّست فكرة الزعيم «الملهم» والقائد الضرورة. كما نجحت في دفع الجماهير للهتاف بحياة الزعيم مهما عظُمت خطاياه ولتبكي على موته، وطبقاً للكاتب القطري ـ عبدالعزيز الخاطر ـ تلك الثقافة تختزل الأمة في رجل، والنصر في زعيم، والحقيقة في فكر واحد»، الآن ـ بعد الفشل ـ يلتقي العدوان اللدودان في مؤتمرات سنوية «المؤتمر القومي الإسلامي» ليعيدا إنتاج فكر انتهت صلاحيته. لا أمل في مستقبل أفضل إلا بتجاوز هذا الفكر ومحاكمته والقطيعة معه وإلقاء رموزه خارج التداول الثقافي والسياسي طبقاً لمشاري الذايدي، وإذا كانت العبرة بالخواتيم فإنها سنوات طويلة ضاعت فيها «التنمية» باسم القومية، وضعُفت «الدولة» لصالح المقاومة والجهاد.