يثير اغتيال الزعيمة الباكستانية بينظير بوتو- أصغر وأول رئيسة وزراء لدولة إسلامية- تساؤلات عميقة حول مدى صلاحية النظام الديمقراطي لمجتمعات موبوءة بالعنف والتطرف الديني من جهة وانقسامات سياسية وطائفية وعرقية وقبلية من جهة أخرى!
عادت "بوتو" من منفاها الآمن في دولة الإمارات بعد 8 سنوات إلى وطنها باكستان يحدوها الأمل في أن تساعد - وهي صاحبة الشعبية الكبيرة في بلدها وسليلة لعائلة سياسية مرموقة وزعيمة لحزب "الشعب" الكبير - في عودة الحياة الديمقراطية والاستقرار إلى بلدها المنكوب بطغيانين: طغيان المؤسسة العسكرية وطغيان الجماعات الأصولية المتشددة الساعية إلى "طلبنة" باكستان.
عادت هذه المرأة المجاهدة من ملاذها الآمن بعد تفاهمات بينها وبين مشرّف الذي منحها عفواً وأسقط جميع التهم السياسية والجنائية عنها بموجب قانون المصالحة الوطنية- وبرعاية أو تسهيل من واشنطن لهذا الاتفاق- لتكون عوناً صادقاً في كبح جماح التطرف وتحجيم الاستبداد. وكانت كافة الدلائل والمؤشرات تنبئ بفوز حزبها في الانتخابات التي كان مزمعاً إجراؤها في 8 يناير ولتتولى رئاسة الحكومة للمرة الثالثة، لكن قوى الظلام والتطرف الديني كانت لها بالمرصاد، فهي تدرك تماماً مدى خطورة عودة بوتو وتدرك تماماً مدى تصميمها على مواجهة مشروعاتها وخططها الرامية إلى زعزعة الأوضاع وبث الاضطرابات والفوضى عبر تكثيف العمليات التفجيرية والانتحارية تمهيداً للاستيلاء على السلطة وتكوين دولة دينية على نمط دولة "طالبان" المنهارة - الدولة الحلم لكل الجماعات الدينية المتطرفة- ولذلك سارعت هذه القوى فور وصول "بوتو" إلى كراتشي في 18 أكتوبر الماضي إلى تدبير استقبال دموي كبير لتفجير موكبها بقنبلة، وكان من الممكن أن تُقتل "بوتو" في تلك العملية التي عُدّت هي الأكبر دموية بسبب كثرة ضحاياها - 139 قتيلاً و500 جريح- لكنها نجت بمحض الصدفة حيث هبطت لتستريح قليلاً داخل سيارتها المدرعة قبل أن تواصل تحية الجماهير حين وقع التفجير، لكن قوى الظلام لم تيأس فقد اتخذت قرارها بتصفية "بوتو" مهما كان الثمن، فانتهزوا مناسبة التجمع الانتخابي الحاشد وأرسلوا انتحارياً هذه المرة ليفجر نفسه في موكبها في "روالبندي" يوم 27 ديسمبر 2007 لتذهب "بوتو" ضحية للإرهاب الغادر وليتبدد الأمل في التحول الديمقراطي المنشود.
رحم الله "بوتو"، ويبقى على حزبها الكف عن المتاجرة بقضيتها وتسييسها عبر توزيع اتهامات غير مسؤولة لمشرّف، فذلك أمر غير لائق.
لماذا استهدف الإرهاب "بوتو" بالذات بعمليتين خلال شهرين فقط؟ "بوتو" شخصية ذات إرادة حازمة لا تقبل المساومات أو المهادنة مع قوى التطرف الديني، لذلك شكلت خطورة أعظم من شخصية "مشرّف" الذي كان يهادن هذه القوى تارة ويتشدد معها تارة أخرى، لكنه لا يمضي إلى النهاية معها، وذلك وفقاً لتوازنات داخلية معينة من جهة وتوازنات خارجية في تلبية مطالب أميركية من جهة أخرى. لذلك يقول أحد المسؤولين العسكريين الأميركيين "مشرّف يلجأ إلى التظاهر بشن حملات ضد المقاتلين الإسلاميين، لكنه لا يواصلها إلى النهاية" "بوتو" شخصية مختلفة تماماً، وهي قادمة ولديها مشروع طموح لمواجهة قوى التطرف الديني، وقد صرّحت "بوتو" عدة مرات قبل قدومها بأن أكبر تهديد يواجه باكستان هو تنامي قوى التطرف والإرهاب ولذلك، فهي صاحبة خطة استراتيجية لتجفيف منابع التطرف الديني بدءاً من المدارس، وإذا عرفنا أن "القاعدة" بدأت تخسر معقلها الأساسي في العراق بسبب انتفاضة العشائر السُنية ضدها وتطهير مناطق السُنة من بقايا "القاعدة"، إضافة إلى انحسار شعبية "القاعدة" وزعيمها في الساحة العربية وفقدهم التعاطف الشعبي والبريق الإعلامي كان من الطبيعي أن تستجمع "القاعدة" والقوى المتحالفة معها في باكستان كل ما يمكنهم للتعويض عما خسروه في الساحة العربية وللظهور بمظهر القوة القادرة على العمل والتحدي، لذلك رأينا تصاعد العمليات الإرهابية على امتداد الشهور والسنة الأخيرة في باكستان وكثافتها، وقد وصلت إلى 44 عملية وضحاياها 760 ضحية غير الجرحى. لكن عودة "بوتو" مؤخراً شكلت نذر خطر كبير على مخططات "القاعدة" والقوى المتحالفة معها، وبخاصة أن مشروع "بوتو" كان سيصيب قوى التطرف في أهم معاقلها، وهي "المدارس الدينية" المنتشرة في باكستان انتشار الفطر المسموم عبر 50 ألف مدرسة تقوم باحتضان الأطفال منذ نعومة أظفارهم، وتقدم لهم الزاد والمأوى وتلقنهم ثقافة تعصبية متطرفة وتدربهم عملياً على "الجهاد"، وأبلغ مثال ما حصل عندما تحصّن طلاب "المسجد الأحمر" لدرجة الموت، ولم يتمكن الجيش من اقتحام الجامع إلا بعد مقتل 100 منهم مع أستاذهم عبد الرشيد.
لقد تحولت هذه المدارس إلى مصانع للتطرف والإرهاب، وشكل خريجوها الجنود الاحتياطيين المؤهلين للانضمام لجماعات الإرهاب. وكان الحصاد المر للمناهج الدينية التعصبية شيوع العمليات الإرهابية ضد الجيش الباكستاني ورموز السلطة وزعماء الأحزاب السياسية بوصفهم شخصيات علمانية متغربة معادية للدين، متعاونة مع العدو الأميركي يجوز استهدافهم. يقول "غسان الإمام": "المدرسة الدينية الباكستانية تشكل قطيعة تامة مع العصر والتعليم والشباب والمأوى والكتب بالمجان، لكن لا موسيقى لا رياضة لا صور لا علوم اجتماعية أو اقتصادية حتى الطب يتوقف تدريسه عند الطب القديم، الدراسة كلها تتمحور حول تحفيظ القرآن من دون فهم أو بصيرة وتدريس الاجتهاد الحربي في العصور الوسيطة من دون مراجعة أو نقد"، لقد شكلت هذه المدارس القاعدة الخلفية للمجاهدين الأفغان، كما يقول "صالح القلاب" ويضيف قائلاً "والمعروف أن هذه المدارس بالتعاون والتنسيق مع الاستخبارات العسكرية الباكستانية هي التي اخترعت وصنعت حركة "طالبان"، وهي التي شكلت ولا تزال تشكل حاضنة لـ"القاعدة" ولأسامة بن لادن والظواهري"، ومنها تخرّج أو درس إرهابيو مترو أنفاق لندن وغيرهم، ولطالما انتقدت "بوتو" "مشرّف" على تساهله في أمر هذه المدارس وفشله في إصلاح مناهجها، ولطالما تحدّت هذه المدارس "مشرّف" عندما أصدر أمراً بمغادرة الأجانب الذين يدرسون في هذه المدارس للبلاد عام 2005.
لقد كانت "بوتو" من أشد الناس معارضة لمناهج هذه المدارس من غير مساومة، وقد قالت في إحدى خطبها "هناك المدارس الدينية السياسية التي تعلم تلاميذها كيف يصنعون القنابل وكيف يستخدمون البنادق، وكيف يقتلون النساء والأطفال والشيوخ، وهذه المدارس تعتبر ماكينات تفريخ الإرهابيين الصغار الذين سرعان ما ينضوون تحت لواء "القاعدة" وفي صفوف "طالبان" حيث لا عمل لهم غير هذا" لذلك كانت "بوتو" مصممة في حالة وصولها إلى السلطة أن تضع حداً لدور هذه المدارس في تغذية الفكر المتطرف.
ومن هنا كانت خطورة "بوتو" الأعظم على قوى التطرف الديني، لأن فوز "بوتو"، معناه ببساطة حرمان تلك القوى من مواردها البشرية التي تشكل الوقود الحيوي لاستمرارها وتنامي نفوذها بل وبقائها وحياتها.
لقد كانت المواجهة بين "بوتو" والجماعات المتشددة صفرية إما أن تكون حاكمة أو مقتولة وقد تمكنوا منها - رحمها الله - لذلك تبدو - سذاجة - بعض السيناريوهات واضحة في اتهام جهات أخرى غير قوى التطرف الديني. مثل ذلك السيناريو الذي افترض أن عناصر في الاستخبارات الباكستانية متعاطفة مع "بن لادن" يضعون صورته في كمبيوتراهم هي وراء العملية أو هؤلاء الذين قالوا إن أنصار الجنرال الراحل "ضياء الحق" هم المسؤولون لأنهم انزعجوا من تصريحات "بوتو" بأنها ستسمح للمخابرات الأميركية باستجواب - عبد القدير خان - الذي باع الأسرار النووية للعديد من الجهات والدول- سوريا صرّحت بأنها رفضت ذلك - أو الذين اتهموا "مشرّف" نفسه بالتورط لأن "بوتو" كانت ستفضح خطة مشرف في تزوير الاقتراع، بل وصول جنون الارتياب إلى حد اتهام واشنطن بأن لها يدا في العملية لأن عملية الاغتيال وما ستخلفه من اضطرابات أمنية وسياسية متوقعة هذا العام ستخدم الأجندة الأميركية لتثير واشنطن الذرائع الواقعية المتمثلة في تلك الاضطرابات للسيطرة على المنشآت النووية الباكستانية بالقوة.
واضح أن هذه الاتهامات تتجاهل أو تريد القفز على جملة من الحقائق الأساسية منها: أنه من غير المنطقي أن تكون لأميركا أو لمشرّف يد في الموضوع لأنهم أكبر الخاسرين من تصفية "بوتو". فمشرّف بنفسه هو الذي سعى إلى "بوتو" في منفاها لإبرام صفقة معها تضمن عودتها لتتقاسم معه السلطة ولتضفي على حكمه وجهاً ديمقراطياً يواجه به الضغوط الخارجية المطالبة بتأهيل النظام العسكري ديمقراطياً كما سيخفف الضغوط المطالبة بمغادرته السلطة، إضافة إلى أن غياب "بوتو" يعطي الفرصة لخصم أقوى هو - نواز شريف - ضد مشرّف، لأن المعارضة الآن ستتحد تحت شريف ضده بعد أن كانت مقسمة بينه وبين "بوتو" لذلك قال مشرّف عندما سئل عن الاتهامات التي رددها أنصار "بوتو" خلال تظاهراتهم "أيدي مشرّف ملطخة بالدماء" قال "بصراحة أعتبر هذا السؤال إهانة لكنني سأرد عليه... لقد نشأت في عائلة متحضرة ومثقفة وعلى قيم تحرم القتل أو الاغتيال والمكائد"، كما نفى مشرّف أن تكون حكومته وأجهزتها الاستخبارية قد حاولت إخفاء "أسرار" حول اغتيال "بوتو"، وإلا عبّر عن عدم رضاه عن التحقيق، وبخاصة مسارعة عمال البلدية بتنظيف موقع الجريمة ولذلك طلب مشاركة شرطة "اسكوتلانديارد" في التحقيق.
أما بالنسبة لأميركا، فهي الخاسرة الكبرى لأن "بوتو" حليفة قوية لأميركا لدرجة إعلان مصطفى أبو اليزيد - زعيم "قاعدة الأفغان - "لقد قضينا على أغلى رصيد أميركي- بوتو - التي أعلنت عن عزمها إلحاق الهزيمة بالمجاهدين" فضلاً عن أن أميركا هي التي ضغطت على مشرّف لتسهيل عودة "بوتو" كما أصرّت على عودة "شريف" للمشاركة في العملية الانتخابية، صحيح أن "مشرف" حليف لأميركا، ولكن أميركا في النهاية تريد من مشرف إصلاحاً سياسياً يضفي بعض المصداقية على رغبتها في نشر الديمقراطية عبر إجراء انتخابات حرة ونزيهة تشارك فيها كافة الأحزاب السياسية، كما أن اتفاق تقاسم السلطة مع "بوتو" لم يكن ليحصل لولا إصرار الولايات المتحدة.
كما أن اغتيال "بوتو" تسديد "هدف قاعدي" في مرمى أميركا كما يقول شاكر النابلسي، كما يتناسى هؤلاء المرتابون أن الهجوم الانتحاري هو أسلوب قاعدي بامتياز لا يلجأ إليه إلا صاحب "عقيدة دينية" يرى في تفجير نفسه في عدوه "شهادة" يدخل بها الجنة فالعمليات الانتحارية هي إحدى بصمات "القاعدة" والقوى الدينية المتحالفة معها فحسب، أما أجهزة الاستخبارات فقد تستأجر قتلة يفجرون لكنهم لا ينتحرون كما أن الاستخبارات إذا أرادت اغتيال "بينظير"، فربما نظمت انفجاراً مثل ما حصل في مقتل الحريري.
أما إلقاء اللوم على الأجهزة الأمنية لأنها لم تستطع حماية "بوتو" فهؤلاء- أيضاً - يتناسون أن الأمن لا يستطيع توفير الحماية اللازمة لشخصية مثل "بوتو" التي أصرت أن توكل مهمة حمايتها إلى فريقها الخاص فضلاً عن أنه لا توجد قوة أمنية قادرة على حماية شخصية جماهيرية تطل برأسها من سيارتها لتحيي الجماهير مهما كانت سيارتها مصفحة. رحم الله "بوتو" ويبقى على حزبها الكف عن المتاجرة بقضيتها وتسييسها عبر توزيع اتهامات غير مسؤولة لمشرّف، فذلك أمر غير لائق أخلاقياً فضلاً عن أنهم يقدمون خدمة مجانية لأعداء زعيمتهم وأعدائهم! إنه الغباء السياسي بعينه!