اذا كانت الهند درة التاج البريطانى الذى كان يملك ويحكم الامبراطورية صاحبة الارض التى لا تغيب عنها الشمس، فان امريكا كانت الابن الذى شب عن الطوق وتجاوز اباه واقام لاحقا عليه الحجر، بعد ان جرده تدريجيا من كل صلاحياته،
خاصة وان الارض الجديدة التى عمل عليها الابن والتى ترعرع فيها قد منحته افاقا جديدة وقدرات بكرا غير مستهلكة استثمرها بادوات حديثة استأنف بها وبسرعة فائقة دورة التراكم المعرفى والتكنولوجى وجعلها غير منغلقة بل تاخذ شكلا متصلا من الدورات الحلزونية المتواصلة والتى تستوعب الارض وما عليها وما تحتها مندفعة نحو الكون كله!
قرنان مرا على مرحلة الاستقلال المادى والروحى الناجز كليا للولايات المتحدة الامريكية عن امبراطورية المملكة المتحدة اختصرت خلالهما مسارات كل من سبقها من امبراطوريات كانت قد مرت على البشرية من ـ الاسكندر ذو القرنين الى التاج البريطانى ـ بتميزها بقرنها الكونى الجديد، اى انها تجاوزت مراحل الامبراطورية العابرة للقارات والامبراطورية الارضية الى حالة نوعية جديدة بتحولها نحو امبراطورية كونية زمنها متواصل مع عمرها الامبراطورى الاول اى ان قرنها الثالث القرن الواحد والعشرين هو محطتها الاخيرة نحو حلمها هو مجالها لتحقيق ذاتها بامبراطورية كونية لا امبراطورية بعدها.
بعد ثورة وحرب الاستقلال التى قادتها طبقة الراسمالية المحلية الامريكية العليا بالتحالف مع الراسمالية المتوسطة والصغيرة، تحققت من تفاعل هذه الخلطة الطبقية انجازات ديمقراطية برجوازية التف حولها جمهور العمال والمزارعين والمعدمين وحققت فى بدايتها مكاسب تؤطر لانطلاقة واثقة وغير محددة بقيود، وكان حينها للتنازع الاستعمارى الانكليزى الفرنسى دورا ايجابيا لمصلحة التطلع الامريكي، الذى اخذ شكله التنازعى بعدا اخر بعد نجاح الثورة الفرنسية فى 14 يوليو- تموز 1783 فكانت المضامين الثورية والشعارات البراقة للثورة ـ الحرية، العدالة، الاخاء، المساواة ـ تلعب دورا فى اعطاء زخم من التضامن البرجوازى الديمقراطى الذى وضع الثورة الامريكية فى بؤرة تعاطف القوى الصاعدة فى اوروبا كلها.
ثورات برجوازية ديمقراطية تعلن انفراد الراسمالية المحلية الكبيرة بالسلطة على حساب النفوذ السياسى للاقطاع وبقاياه، بعد ان اعلن ومنذ زمن افلاسه الاقتصادي، يقابله تحديث وانتشار بكل الاتجاهات للنهب والاستلاب الاستعمارى الامبريالى والاستعبادى وبشكل لم يسبق له مثيل ـ الثورة الفرنسية والامريكية ومن ثم الالمانية ـ لشعوب العالم الاخر العالم "غير المتحضر" بحسب الرؤية المركزية للامبريالية ومراكز ثقلها فى ذالك الحين بريطانيا وفرنسا ومن ثم امريكا والمانيا واليابان.
لم تكن المسافة الزمنية كبيرة بين استقلال امريكا كليا وبين انطلاقتها الامبراطورية الاولى ـ امبراطورية عابرة للقارات ـ بل لم يمر عام واحد على استقلالها حتى اخذت الراسمالية التجارية الامريكية بالتحرك نحو الشرق وذلك بارسال سفنها التجارية مطالبة بنصيبها فى التجارة الدولية الرائجة والمدهشة بارباحها الخيالية، اضافة الى دور سفاراتها وقنصلياتها وبعثاتها التبشيرية لتى اخذت تجوب بلدان الشرق من اليابان والصين وكوريا والفلبين الى الشرق الاوسط ناهيك عن حدائقها الخلفية فى امريكا الجنوبية، اما الجيوش الامريكية فقد كانت مشغولة لتوحيد الولايات غير المتحدة باتجاه الغرب الامريكى وما ان وصلت جيوش الولايات المتحدة الى شاطيء المحيط الهادى حتى ابتدأ الدور الامريكى ينشط عسكريا ايضا فى شؤون الشرق الاقصى كحليف ومنافس للدول الاستعمارية التى سبقته الى افاق المنجم الامبراطوري.
الطفرة الامبراطورية
لقد تحققت كل عوامل الطفرة الامبراطورية لدى الولايات المتحدة الامريكية فلكل نوع امبراطورى جديد عوامل وخصائص. بريطانيا كان لها عوامل الريادة فى الثورة الصناعية بوفرة خامات الحديد والفحم اضافة للموقع العبقرى والقدرة العسكرية البحرية التى لا تضاهيها قدرة، وكل الامبراطوريات الاخرى وعلى مر التاريخ من الطراز القارى الى العابر للقارات الى العالمية السائدة اى التى تملك وتحكم زمام الارض ببرها وبحرها وجوها، تشترك بخصائص مشتركة منها: 1 ـ تناقضات المركز والاطراف، 2 ـ القدرة على تجنيد من يخوض حروبا بالانابة عنها، 3 ـ القدرة البشرية والتنظيمية على تجهيز الحملات المتتابعة . 4 ـ وجود مصادر قوة تروى التفوق الامبراطورى او تكون هى ذاتها حافزا امبراطوريا ـ مواقع تجارية اجبارية، خامات معدنية كالذهب والحديد اوالنفط او زراعية كالقطن والتوابل والقهوة والكاكو والاخشاب، تفوق عسكرى يؤدى للاستحواذ على الثروات، تفوق معرفى وتكنولوجي. 5 ـ لا امبراطورية دون جيوش تختزل كل انواع الحداثة فى عصرها. 6 ـ كل مراكز الامبراطوريات هى مراكز اشعاع بخصائص مختلفة وهى مراكز جذب عالمية لكل قدرات الاطراف، 7 ـ كل تآكل امبراطورى يبدا بالاطراف وينتهى بسقوط المركز.
امريكا تشكل بانتقالتها الى مرحلة التفرد الامبراطورى بالعالم والمأخوذ بالنزعة الكونية التى تسبغ على امبراطوريتها كيفية لم تعهدها اى امبراطورية اخرى فى كل مراحل البشرية تطورا تكون قد انجزت طفرة امبراطورية تشبه النقلات النوعية التى تحصل بالصبغات الوراثية والتى لا بد من توافر تراكمات كمية مصحوبة بعوامل مساعدة لتحققها، واذا تابعنا مسلسل ولادتها ومناخ رحم تلك الولادة وتراكمات مسارها التاريخى والاقتصادى والسياسى والاجتماعى والفكرى وحالتها الحاضرة ومؤشرات عملها المستقبلى سنجد حتما اجابات لعلها شافية لهذه التقييمات والتصنيفات التى تزكيها قراءة الحاضر غير المجتزئة عن الماضى القريب والبعيد.
امريكا امبراطورية قارية اولا: اى انها سيدة على كل الاقليم القارى التى تنتمى اليه وباشكال متعددة وهى متمددة على حساب جيرانها عسكريا واقتصاديا وثقافيا وسياسيا من هاواى الى غرينادا الى الاسكا الى خضوع واملاءات سياسية وتدخلات واضحة فى كل شؤون دول الحديقة الخلفية لها الى هيمنة استثماراتها عليها او تزاوجها كما الحال مع كندا مثلا.
امبراطورية عابرة للقارات ثانيا: كانت اول مواجهة عسكرية امريكية خارج حدود اقليمها القارى هى تلك الحملة التى نفذت على امارة طرابلس الليبية عام 1803 تحت ذريعة القضاء على القرصنة البحرية التى تنطلق من السواحل الليبية، علما ان امريكا جاءت الى البحر المتوسط ولم يكن لديها بعد اسطول قوى لكن تجارها وقادة بعثاتها التبشيرية كانوا يستعينون بالحماية البريطانية وقت اللزوم، وعندما حصلت مشاكل واحتكاكات بين البحارة الامريكان وخفر سواحل الامارة حاول القنصل الامريكى فى الاسكندرية بالاتفاق مع حماية الاسطول الامريكى التجارى الصغير تجهيز حملة عسكرية ضد طرابلس بدعم بريطانى خفى بهدف تغيير حاكم الامارة وتنصيب احد اقربائه كى يكون خاتما طيعا للمصالح الامريكية وفعلا سارت الحملة لمحاصرة طرابلس لكن انصار الامير يوسف باشا الطهرومانى استطاعوا السيطرة على اكبر سفن الحملة واسروا اكثر من 300 من بحارتها، وعمل يوسف باشا على تشكيل اسطول صغير للتصدى للحملة ساعده على تبديد الحصار المفروض عليه، وعندما وصلت الاخبار الى وشنطن اصدر الرئيس الامريكى جيفرسن اوامره بايقاف الاعمال العدائية ضد الامارة وسحب السفن الامريكية الى الاسكندرية والشروع بمفاوضات مع الامير يوسف باشا. وتجاوب الامير يوسف مع هذه الخطوات موضحا انه ليس لامريكا او غيرها التدخل لتغيير حكام الاقليم وطالبهم بالتخلى عن دعمهم لاحمد باشا الطامع بالحكم، وفعلا كانت النهاية دبلوماسية تعلمت امريكا منها ولكنها لم تتعض. كما يقول هيغل: اننا نتعلم من التاريخ واننا لا نتعلم منه.
كانت النتائج الميدانية قد تحققت بالتمام عام 1805 حيث تم اطلاق سراح البحارة الامريكان مقابل فدية مالية، واقامت تمثيل قنصلى لها أمريكى طرابلس، وتعهد بعدم التدخل بشؤون الحكم.
اما النتائج العامة للحملة فهى ان امريكا اندفعت بعدها لانشاء اسطول بحرى عسكرى قوي، وحرصت على التغلل الدبلوماسى على طول وعمق الشريط الساحلى للبحر المتوسط، تزايد فضول الامريكيين فى التعرف والاحتكاك والتدخل بشؤون شعوب العالم الخفى ومجاهيله ـ العالم غير المتحضر ـ بعد ان انتشرت كتابات وقصص واساطير الاسرى الامريكيين فى كل انحاء امريكا وقتها، حسب ماذكره المؤرخ الامريكى آرثر جيرنستون.
اما الشرق الاقصى فحدث ولا حرج لان الامر فيه اخذ طابعا عسكريا مباشرا وشاملا لم يسبق ان رأى مثله الشرق الاوسط او غيره من بقع ومناطق النفوذ والاستعمار، فما ان استقرت الامور للجيوش الامريكية على سواحل الضفة الاخرى من القارة الامريكية اى سواحل المحيط الهادى حتى توالت الحملات. وهنا سنستعرض قائمة مأخوذة من نشرة وزارة الخارجية الامريكية الصادرة فى 31 يوليو 1950 نشرت وقتها كتبرير للتدخل المسلح فى كوريا، وتشمل القائمة 43 غزوة فى اسيا والمحيط الهادى جاء بيانها كما يلي، حسب المكان، السنة، والغرض من الحملة:
- جزيرة سومطرا، 1832، لمعاقبة الوطنيين بسبب هجومهم على سفينة امريكية والاستيلاء عليها وقتل بحارتها.
- جزر فيجي، 1840، لمعاقبة الامريكيين بسبب هجوم شنوه على الامريكيين.
- ساموا، 1841، لمعاقبة الوطنيين بسبب مقتل رجل ابيض.
- اليابان، 1852، لعقد معاهدة تجارية.
- الصين، 1854، قامت القوات الامريكية والبريطانية بعمل مشترك اثناء الحرب الاهلية فى الصين لحماية الرعايا الامريكيين والبريطانيين.
- جزر فيجي، 1855، لحماية ارواح الامريكيين.
- الصين، 1856، لمنع الحاق الضرر بالمصالح الامريكية.
- جزر فيجي، 1858، لمعاقبة الوطنيين بسبب مقتل امريكيين.
- الصين، 1859، لاعادة النظام فى شنغهاي.
- اليابان، 1863، للحصول على تعويض بسبب هجوم مفاجيء على زورق امريكي.
- اليابان، 1864، لفتح مضايق شيمونوسيكى بالاشتراك مع دول اخرى.
- فورموزا، 1867، لمعاقبة الوطنيين الذين قتلوا بحارة سفينة امريكية كانت قد غرقت .
- اليابان، 1868، لحماية المصالح الامريكية اثناء حدوث اضطرابات محلية .
- كوريا، 1871، لاحتلال قلاع كورية بعد ان هوجمت وبشراسة بعثة للمساحة كان قد سمح لها بالقيام باعمال مسح لصالح العلم والتجارة.
- هونولولو، 1874، لاخماد فتنة فيها تلبية لطلب السلطات المحلية.
- كوريا، 1888، لحماية الجالية الامريكية.
- ساموا،1888، لاقامة حكومة مستقرة؛ وهو عمل مشترك قامت به الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى والمانيا.
- هاواي،1892، لحماية الارواح والممتلكات اثناء تنصيب الملكة هناك.
- كوريا، 1894، لحماية المفوضية الامريكية.
- ساموا، 1899، للمعاونة على تسوية النزاع الناشب بشأن وراثة عرش ساموا.
- الصين، 1900، لحماية الارواح والممتلكات اثناء وقوع ثورة "الملاكين".
- الصين،1911، لحماية القنصلية الامريكية والرعايا الامريكيين فى فوشاو.
- الصين،1911، لحماية القنصلية الامريكية والرعايا الامريكيين فى شينكيانج.
- الصين،1911، لتعزيز الحراسة على المفوضية الامريكية فى بكين .
- الصين، 1912، للاحتفاظ بالخط الحديدى بين بكين والبحر مفتوحا .
- الصين، 1912، لزيادة الحماية.
فضلا عن سلسلة تدخلات فرعية فى مدن صينية بين 1912 فى سواتاو لانقاذ أمراة وبعض الاطفال وتامين سلامتهم، وصولا الى شنغهاي، 1932، لتقديم القوات الموجودة فى شنغهاى كاجراء لحماية ارواح وممتلكات الرعايا الامريكيين. "مصدر القائمة : كتاب من هيروشيما الى باندونغ، تاليف ل . ناتاراجان، ترجمة وتقديم محمد محمود الاهواني، دار الاجيال دمشق 1970".
امبراطورية سائدة عالميا ثالثا: لقد استقبلت الولايات المتحدة الامريكية القرن العشرين وهى قوة استعمارية كبرى فى المحيط الهادى والشرق الاقصى، ولا يقتصر الامر على هذين النطاقين الشاسعين لانها كانت قد تغلغلت فى كل بقاع المعمورة التى سبق وان تغلغل فيها مستعمرون اوائل لقد اصبحت امريكا كظل يلاحق المستعمرات والمستعمرون اينما وجدوا واخذت تعمل لتكون هى لاغيرها من يستعمر ويتحكم بالشعوب المستعمرة.
ان امريكا سخرت كل النظام الاستعمارى القديم لخدمة هيمنتها القادمة لقد كتب اوين لاتيمور عام 1943 فى كتابه "امريكا واسيا" قائلا: "لقد انغمسنا نحن الامريكيين بعمق مماثل لما وصل اليه البريطانيون فى نظام اقتصادى عالمى يستخدم العمل الرخيص فى المستعمرات ـ الذى لا يحميه حق الانتخاب ـ فى استخراج المواد الخام الرخيصة التى يجرى تحويلها، بعد ان تجلب الى المناطق الصناعية فى بريطانيا وامريكا، وباستخدام وسائل الانتاج بالجملة، الى سلع جديدة يعاد تصديرها الى المناطق المستعمرة لتباع تحت حماية نظام التعريفة الاستعمارى .
ونحن "الامريكان" لانستخدم تماما نفس الوسائل التى يتبعها البريطانيون، ولكننا نستخدمها بدرجة من العمق تكفى لان تجعلنا ننتمى الى نفس النظام". "نفس المصدر السابق: "من هيروشيما الى باندونغ"".
لقد سبق لجواهر لال نهرو ان عبر عن هذا المضمون برسالة كان قد وجهها الى ابنته انديرا غاندى فى 3 يناير-كانون الثانى 1933 حيث كتب قائلا: "لا تتصورى ان امبراطورية الولايات المتحدة مقصورة على جزر الفلبين، ويبدو فى الظاهر ان هذه هى امبراطوريتهم الوحيدة، ولكنهم افادوا من خبرة الدول الاستعمارية الاخرى والمتاعب التى لاقتها، فحسنوا الوسائل القديمة.
انهم لا يتجشمون عناء ضم احد البلدان، كما قامت بريطانيا بضم الهند؛ فكل ما يعنيهم هو الربح، وعلى ذلك فهم يتخذون الخطوات التى تمكنهم من السيطرة على ثروة البلد، ومن خلال السيطرة على الثروة يكون من السهل جدا السيطرة على شعب البلاد وعلى الارض نفسها فى الحقيقة.
وعلى ذلك فهم يسيطرون دون ان يتكبدوا متاعب كبيرة او كثيرة او يحتكوا بالقومية المتحفزة، على البلاد ويتقاسمون ثروتها، هذه الوسيلة الفريدة تسمى الاستعمار الاقتصادي، وهى لا تظهر على الخريطة.
فقد تبدو احدى البلدان، اذا ما استرشدت بعلم الجغرافيا او الاطلس، حرة مستقلة. ولكنك اذا نظرت خلف الستار، فستجدينها فى قبضة بلد اخر، او على الاصح فى قبضة اصحاب البنوك ورجال الاعمال الكبار فيه. هذه الامبراطورية الخفية هى التى تمتلكها الولايات المتحدة الامريكية" "جواهر لال نهرو : "لمحات من تاريخ العالم"، نفس المصدر السابق".
وبحلول الحرب العالمية الاولى كانت الولايات المتحدة الامريكية قد نفذت برنامج امبراطوريتها الخفية وخاصة فى المجال الحيوى العالمى الذى اخذ يحل محل دور الفحم الحجرى انه النفط فى الشرقين الاقصى والاوسط.
كان لقانون تفاوت التطور بين البلدان الامبريالية ذاتها احد اهم اسباب قيام الحرب العالمية الاولى التى لم تنجر لها امريكا بل استثمرتها وحلبت تجارتها لمصلحة امبراطوريتها التى لم تعلن عن نفسها الا بعد الحرب العالمية الثانية.
ولقد زايدت امريكا على الدول المتحاربة وقدمت نفسها فى مؤتمرات الصلح فى فرساى وغيره وقبله وبعده خاصة فى ما تضمنه الخطاب الشهير للرئيس الامريكى ولسن الى كل شعوب وحكومات العالم والذى تضمن مباديء تدعو لحق تقرير المصير لكل شعوب العالم الخاضعة للاستعمار واهمية التعاون واحترام سيادة الدول وعدم الاعتداء عليها وحل النزاعات بالطرق السلمية ومطالبته بتشكيل عصبة دولية تجمع كل دول العالم المستقلة! لم لا، ما دامت الامور سائرة لمصلحة امبراطورية الامبراطوريات والتأهيل السياسى لنتائج الحرب بالمحافظة عليها واستثمارها ولمرات عدة امر يخدم المصلحة العليا الامريكية التى مازالت تلعب من وراء الستار المخملى والمغرى احيانا؟
لقد تكرس التفاوت بين امريكا وكل البلدان الامبريالية الاخرى، وكان لقيام الدولة الاشتراكية فى روسيا ثم الاتحاد السوفياتى عامل ضغط كبير على المعسكر الامبريالى واستثمرته امريكا ايضا خير استثمار لتضع كل دول اوربا الغربية تحت جناحها بعد ان امتصت مصادر قوتها ـ الهيمنة على اقتصاد المستعمرات ـ وما ان شب حريق الحرب العالمية الثانية حتى دخلتها امريكا وهى الاقوى اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، وخرجت منها منتصرة مع الحلفاء لتكون الامبراطورية العالمية الاقوى والتى توجد قواعدها العسكرية فى قلب اوروبا العجوز لحمايتها وبخطة مارشال لتعيد صياغتها وعلى الطريقة الامريكية.
حتى تلك اللحظة لم تنس امريكا حلمها فهى سائرة لتحققه تدريجيا واصبحت طريقها مشرعة للانطلاق نحو الامبراطورية الكونية، قبل ان تجد نفسها تغرق فى آخر المطاف بمستنقع العراق الذى كان مقبرة لكل الامبراطويات الأخرى: الفارسية والرومانية والعثمانية والبريطانية. وهو ما يستحق قراءة أخرى.
كاتب عراقى مقيم فى السويد