قام د/ ياسر قنصوه بتأليف كتاب «الليبرالية .. إشكالية مفهوم» منذ ما يربو على عامين، وقام بطبعه على نفقته الخاصة، ولم يجد ناشرا له، وليجسد بذلك أزمة بعض الاكاديميين فى صعوبة التعامل مع آليات النشر، وقد تقدم بالكتاب للحصول على جائزة الدولة التشجيعية، وبالفعل حصل عليها هذا العام، بعد خمس سنوات من حجب الجائزة
() الكاتب الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية فى العلوم الاجتماعية
قام الباحث بممارسة نوع من الحفر المعرفى الدقيق لمفهوم الليبرالية، محاولا البحث عن حقيقة مفهوم الليبرالية، مرتكزا على دعامتى الليبرالية (الفردية، والحرية) عارضا لتطور مفهومى الفردية، والحرية عبر تاريخ الثقافة الغربية، وموظفا بذلك عمق إلمامه بتاريخ الفكر الفلسفى عامة، والفكر السياسى بصفة خاصة.
اتسمت معالجة الباحث بالعمق فى المعالجة، حيث استطاع معالجة المفاهيم الليبرالية من خلال تضافر السياسى بكل من الأخلاقى والاقتصادى، فقد ربط بين المفاهيم السياسية حول الليبرالية ومفاهيم الأخلاق حول المنفعة، والأنانية، والقيمة، وكذا ربط بين المفاهيم الليبرالية من خلال ارتباطها ومفاهيم الاقتصاد الحر، والملكية الفردية، ولهذا فقد اتسمت المعالجة بالرؤية النسقية، والطرح الكلى لطبيعة مفهوم الليبرالية فى الثقافة الغربية.
استطاع الباحث أن يجيب على تساؤل هام : لماذا استطاعت الأفكار الليبرالية أن تنتظم فى الحضارة الغربية إلى الآن ؟ حيث كانت إجابة الباحث : بأن مفهوم الليبرالية قد امتلك القدرة على الملاءمة، والمواءمة للظروف والمستجدات المتغيرة على نطاق الواقع الغربى. وإن كان الباحث قد أغفل أثر الداروينية على الفكر الليبرالى الغربى، وذلك لأن بقاء الليبرالية إلى الآن هو بالأساس استلهام لمبادئ الداروينية حول البقاء للأصلح، وضرورة التكيف مع المستجدات حتى يتم التمكن من الاستمرار.
وكشفت الدراسة عن أن الفكر السياسى هو طريق للتقدم/ التأخر، والحركة/ الثابت. وذلك لأن الليبرالية السياسية قد أسهمت فى حدوث تغيير فى الواقع الفرنسى، وحدوث الثورة الفرنسية.. فى حين أن الليبرالية السياسية فى إنجلترا قد أسهمت فى ترسيخ أوضاع الطبقة البرجوازية فى مرحلة، وفى مرحلة أخرى ترسيخ أوضاع النخبة المالكة - رجال الأعمال- وحمايتها.
وامتلك الباحث أدواته فى البحث حيث وظف العديد من الثنائيات الفرد / المجموع، الفرد/ الدولة، السلب/ الإيجاب، الانانية/ الغيرية ... الخ، وقد أسهمت هذه الثنائيات فى تفجير رؤى إبداعية فى مساحات كبيرة من العمل
ولكن على الرغم من الإيجابيات العظيمة للعمل الا أن هناك بعض الملاحظات النقدية على العمل.
انتظم الباحث داخل تراث الفكر الغربى بوعى شديد، وقد مارس النقد أحيانا بعيون المحب العاشق، ولكن المفارقة أن ياسر قنصوه - الباحث العربى المهموم بهموم وطنه - لم يعكس تجليات الأوضاع العربية فى مؤلفه، ولهذا فإن من يقرأ الكتاب بدون وضع اسم المؤلف عليه، سيحكم على أن مؤلف الكتاب غربى وليس عربىا.
بدأ الباحث عمله بمسلمة افتراضية مثالية يوتوبية - فى ذهنه - عن تصور معين للفردية والحرية، شكلت هذه المسلمة مقياسا للحكم النقدى على تطور مفاهيم الفكر الغربى حول الليبرالية، وقد أسهمت هذه الفرضية المثالية بخلق مساحات إبداعية فى العمل، ولكن الباحث جسد فى نفس الوقت أزمة الفكر السياسى - بصفة عامة - فى وضوح المساحة الكبيرة الفاصلة بين النظر / التطبيق، والفكر / الممارسة.
قام الباحث فى عمله بفصل إجرائى بين المفاهيم الليبرالية بعضها والبعض الآخر، ففصل بين الفردية والحرية، وبين الليبرالية والديمقراطية... الخ، وهذا الفصل وإن كان ممكنا على مستوى البحث النظرى ولكنه مستحيل على مستوى رؤية الواقع فى الظاهرة السياسية. فالبحث فى الظاهرة السياسية يستلزم الرؤية الكلية - تماما مثل كل العلوم الإنسانية - وليس الفصل الجزئى بين مفاهيم لا يمكن الفصل بينها على الإطلاق.
على الرغم من التضافر العميق بين السياسة وكل من : الأخلاق، والاقتصاد فى دراسة مفهوم الليبرالية، إلا أن الدراسة أغفلت - بشكل كبير - دور العلم فى تشكلات الليبرالية، ولم تجب الدراسة على تساؤل هام هو : لماذا حمل فلاسفة العلم - مثل مل، وكارل بوبر - لواء الليبرالية ؟ فلقد كان للعلم دوره البارز فى تشكيل المفاهيم الليبرالية عن الحرية، والفردية، والملكية ... إلخ، كما كانت الليبرالية هى الأيديولوجيا التى تقدم فيها العلم والفكر، وكذلك فقد أغفلت الدراسة دور الأيديولوجيا فى إحداث تشكلات، وتغييرات فى الخطاب الليبرالى، ولعل أهم الأيديولوجيات التى أهملها الباحث هى الإيديولوجيا الماركسية والتى كانت تشكل الخطاب النقيض لليبرالية، الذى أسهم فى تعريض الليبرالية إلى ضغوط كثيرة، أدت فى كثير من الأحيان إلى تطوير وتغيير المواقف من المفاهيم الليبرالية.
وقد حاولت الدراسة فى أثناء عرضها لمفهوم الفردية أن ترى المرحلة المسيحية فى العصور الوسطى كجزء من تطور الليبرالية، وهذه أغلوطة كبيرة، لأن التراث الليبرالى الحديث قد قطع مع التراث المسيحى، وتواصل مع التراث اليونانى، تماما مثلما قطع التراث المسيحى مع التراث اليونانى، فقد حكم التراث المسيحى الاتصال الواضح بين الروحى والزمنى، ولهذا ظهر عرض الطرح الدينى المسيحى كنغمة نشاز فى معزوفة سيمفونية رائعة.
فقد كان من الضرورى للدراسة أن تكشف عن تمايز المرحلة الحديثة عن المرحلة الدينية المسيحية، وتواصلها مع المرحلة اليونانية.
وعلى الرغم من عرض الدراسة للوجه المضىء لليبرالية الغربية، والمشروع الحداثى الأوروبى إلا أنه جسد أزمة الليبرالية الغربية حين قال بأنها إما أن تنتهى إلى احتكار طبقة، أو احتكار رجال الاعمال لأزمة السلطة، دون إدراك لأهمية المجموع وحريته فى الاختيار، ... ولكن الدراسة لم تكشف أيضا عن الوجه القبيح للمشروع الحداثى الليبرالى تجاه العالم الثالث والذى يستند على الاستعمار، ومص ثروات الشعوب، فالليبرالية وإن كانت مأزومة - بشكل ما - على مستوى الواقع الأوروبى؛ فإنها مأزومة بشكل أكبر إزاء موقفها من العالم الثالث... ولتكن أزمة الخليج، وفلسطين أكبر دليل على أزمة المشروع الليبرالى الغربى.
انتهى الباحث من دراسته إلى القول بسراب مفهوم الليبرالية، وذلك لأننا لا نجد مفهوما واحدا لليبرالية، فهل هى ليبرالية فرنسية، أم إنجليزية، أم أمريكية ؟ وكذلك اختلاف تصور الليبرالية على مدار تاريخها حول مفهومى الفردية والحرية.
إذا كان الباحث قد انتهى فى مؤلفه إلى الإقرار بسرابية مفهوم الليبرالية، فالسؤال المهم : كيف نوصف التجارب الليبرالية المختلفة فى أوروبا وأمريكا؟ الإجابة - من وجهة نظرى - أننا سنطلق عليها تجارب ليبرالية، ليس أمامنا سوى ذلك؛ ذلك لأن تتعدد المواقف الليبرالية، وتتعدد الرؤى النظرية، لابد أن يعكس تعددا فى التطبيقات الليبرالية، ولعل هذا يعكس عظمة الثقافة الغربية فى قبولها للتعددية فى ضوء ملامح عامة كلية. ولعل هذا أيضا ما يثبت عمق فكرة الباحث عن ملاءمة مفهوم الليبرالية للمستجدات والظروف المتغيرة.
لاينبغى أن يتعدى إيضاح الباحث لأزمة مفهوم الليبرالية حدود النسق الغربى ولا يتخذ هذا من قبل الثقافة العربية وسيلة لرفض الليبرالية، فعلى الثقافة العربية أن تتعامل مع الليبرالية كجهد بشرى خلاق أثبت نجاحات عظيمة على مستوى الواقع والتطبيق، وينبغى أن نسعى، إلى إرساء الليبرالية فى حياتنا السياسية، والثقافية، والاجتماعية فلا تعنى أزمة الليبرالية الغربية رفضها كلية، وأن نوارى أعيننا عنها.
وأخيرا فمن كل ما سبق تتضح قيمة كتاب «الليبرالية ... إشكالية مفهوم» والذى يشكل أحد الكتب الرئيسة فى التعريف بالليبرالية فى ثقافتنا العربية.