رغم كل ما قيل وما كتب عن حوار وتعايش الحضارات والثقافات فإن الحوار والتعايش تتبدد آفاقهما يوماً بعد يوم، وعلى الأخص بين الحضارتين الاسلامية والغربية،
مع اتساع فجوة توازن القوة والمكانة بين الحضارتين. هذه الفجوة التي تزداد اتساعاً بين الحضارتين والثقافتين تضع إحداهما في مكانة المهمين والمسيطر وتضع الأخرى في موقع التابع والخاضع والذليل، ويستحيل في ظل هذه الوضعية “الطبقية” أن يكون هناك حوار بين من يرى نفسه سيداً ومن يرى الآخر عبداً.
هذا يعني أن المدخل الحقيقي لتأسيس حوار وتعايش لهما احترامهما بين الحضارتين والثقافتين الاسلامية والغربية بالتحديد هو النهوض بوضعية الحضارة والثقافة الإسلامية من حالة الدونية والضعف التي هي فيها إلى حالة أخرى من تكافؤ أو توازن القوة والمكانة مع الحضارة الأخرى الاستعلائية التي لا تعرف ولا تريد ان تعرف غير لغة القوة والهيمنة والسيطرة وإملاء الشروط وفرض إيديولوجيتها وثقافتها على الآخرين ليس بدافع دمجهم داخلها ولكن بدافع الإخضاع كوسيلة وحيدة للسيطرة.
بهذا المعنى لا يمكن تصور أي فائدة حقيقية من عقد لقاءات وحوارات ومؤتمرات وندوات للتقريب بين الحضارتين أو الثقافتين لأن مثل هذه المؤتمرات والندوات ليست الا مجرد استجداء لعطف طرف لطرف آخر، أحدهما قوي ويعرف انه قوي والآخر ضعيف ويدرك أنه ضعيف، والأسوأ أنه رضي ان يبقى ضعيفاً.
أكبر دليل على ذلك أن الحضارة الأوروبية الأمريكية أي الحضارة الغربية لا تتعامل، لم تعد تتعامل هكذا بغطرسة واستعلاء مع حضارتين شرقيتين أخريين كانتا، حتى سنوات قريبة، في مستوى من القوة قريب من الحضارة العربية الاسلامية وهما الحضارتان الصينية والهندية. حدث التغير من جانب الحضارة الغربية بعد أن استطاعت هاتان الحضارتان ان تعدلا من موازين القوة وان تحققا قدراً من التكافؤ والتوازن في القوة والمكانة مع الحضارة الغربية. هاتان الحضارتان هما الآن شريكان فاعلان مع العالم الغربي فيما يعرف ب “النظام العالمي” وكل منهما لديه طموحات لأن يكون طرفاً في قيادة عالمية جماعية للنظام العالمي وتأسيس نظام متعدد الأقطاب بديلاً لنظام الأحادية القطبية الذي لم يعد يعبر عن حقيقة موازين القوة في العالم.
هناك دليل آخر على جدية ورجاحة الفكرة التي نتحدث عنها، وهي أن تكافؤ وتوازن القوة والمكانة هو الشرط الاساسي لأي حوار وتعايش له احترامه بين الحضارات والثقافات في العالم وهو أن أياً من الحضارتين الصينية والهندية لا تتعاملان مع الحضارة العربية الاسلامية على نحو ما تتعامل معها الحضارة الغربية. قد يكون للموروث التاريخي الايجابي بين هذه الحضارات الثلاث دوره المهم، لكن الفجوة المحدودة في توازن القوة والمكانة بين الحضارة العربية الاسلامية والحضارتين الصينية والهندية هي العامل الأهم.
هذا يعني أن الحضارة العربية الاسلامية مطالبة الآن بالنهوض وبأسرع وقت ممكن ليس فقط للحد من غطرسة القوة لدى الحضارة الغربية ولكن أيضاً لتأمين مستقبل له احترامه في العلاقة بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارتين الصينية والهندية، فأي اتساع في فجوة القوة والمكانة ينعكس مباشرة على مستوى العلاقات والتفاعلات بين الحضارات الثلاث.
متابعة سريعة لردود الفعل الأوروبية على إفراج ليبيا عن الممرضات البلغاريات، وعلى فوز حزب العدالة والتنمية التركي في الانتخابات التشريعية الأخيرة تؤكد ان الاستعلاء الأوروبي ليست له حدود، وأن الأوروبيين غير مستعدين لتقديم تنازلات مجانية في التعامل مع أي من رموز الحضارة العربية الاسلامية.