انتهى المؤتمر الحواري في ضاحية سان كلو، بالقرب من باريس، بين ممثلي القوى السياسية اللبنانية، وتحت رعاية وزير الخارجية الفرنسي، دون صدور بيان أو التوصل إلى تفاهمات رسمية محدّدة
في المقابل، يطرح التساؤل نفسه عن مصير الجهود العربية، التي بذلها الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى قبل أقل من أسبوعين، لحل الأزمة اللبنانية والتوصّـل إلى اتفاق يضع البلاد على بداية طريق الالتزام الحرفي بالدستور واستحقاقاته الرئاسية المنتظرة، ومن ثم إخراج لبنان من الدوامة التي يعيش فيها برغبة بعض قياداته وإصرارهم على إبقاء الأمور على حالها من الجمود والتراجع.
والتساؤل بهذا المعنى، لا يطرح المنافسة والتضاد المعتاد بين تعبيري التعريب والتدويل وحسب، ولكنه يطرح أيضا المزيد من التساؤلات حول الطريقة التي يدير بها البعض في لبنان أزمته السياسية، وكيف يستغلها آخرون في وضع البلاد على شفا حفرة من الهلاك المؤسسي، الذي سيصعب ترميمه لاحقا.
وإذا كان من الصّـعب اليوم التعامل مع القضايا العربية، بمعزل عن التدخلات والتأثيرات الدولية والإقليمية، فإن الخيار المطروح دائما، أي البوابتين، أفضل للخروج من المآزق، البوابة العربية أم البوابة الدولية؟ وهو تساؤل سيظّـل مطروحا دوما في لبنان، كما في فلسطين ودارفور وغيرهم، وستظل الإجابة عليه مرهونة برغبة الأطراف المعنية، وليس برغبة أو بقدرة الجهة القائمة بالدور.
مآخذ معتادة.. ولكن!
فمن المآخذ، التي تقال عادة في عدم فاعلية دور الجامعة العربية، أنها لا تستطيع أن تحل الأزمات العربية ولا يمكنها أن تدافع عن المصالح العربية الجماعية أو القُـطرية وأنها لا تقوم بالجُـهد المناسب لمساعدة بلد ما للخروج من أزمة كبيرة يتعرض لها.
هذه المآخذ حقيقية في مُـجملها، ولكنها غير منصِـفة في تفاصيلها. فحين تُـحاول الجامعة مساعدة لبنان واللبنانيين على الخروج من أزمتهم المستمرة منذ أكثر من عامين، فلا غبار عليها إن فشلت أو تعثّـرت، وإنما الغُـبار كل الغُـبار، هو على المسؤولين اللبنانيين، الذين آثروا عدم التجاوب مع المقترحات والجهود، التي بذلتها الجامعة العربية.
إن نظرةَ تمعُّـن في تطورات الحالة اللبنانية، تكشف عن وجود أكثر من بوابة، فهناك البوابة العربية، ممثلة في جهود عمرو موسى، أمين الجامعة العربية، والبوابة الأوروبية، ممثلة في الدور الفرنسي، الراعي للقاء الحواري في سان كلو، والبوابة الإقليمية، ممثلة في الدور الإيراني، الذي يتفاعل مع أطراف محلية لبنانية وأخرى عربية ودولية على السواء، وفى كل من هذه البوابات، ثمة ثَـغرات كُـبرى تعوق إمكانية الانفراد برعاية الحل المنشود، وهى بوابات متداخلة ومتناقضة ومتكاملة في آن واحد.
السيد عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية
أولويات عربية مختلفة
فعربيا، ورغم أن عمرو موسى يبدو ممثلا للعرب أجمعين، بحكم منصبه الرسمي، لكن الأمر عمليا غير ذلك. فطبيعة ما يقوم به من جُـهد، ليست محلّ اتفاق، لا من حيث الطريقة ولا من حيث الهدف، وهو ما يبدو في طريقة تعامل أطراف عربية مؤثِّـرة، كسوريا والسعودية، مع ما يقوم به من جُـهد أو ما يقدِّمه من أفكار وأولويات.
فبعيدا عن التمنِّـيات الطيِّـبة، التي يقوم بها مسؤولو البلدين، فمن الواضح أن أولويات الرياض تختلف تماما عن أولويات دمشق، كما أن التفاهمات التي توصَّـل إليها السعوديون مع إيران بشأن إخراج لبنان من دوامته، لا تَـجد صدى مُـناسبا لدى دمشق، التي ترنو إلى مكاسب معينة، لابد أن يتضمّـنها أي حل ممكن في لبنان أو على الأقل، أن لا يتضمن أي حل للأزمة اللبنانية، ما يُـمكن ان تعتبره سوريا خسائر إضافية أو ضغوطا محتملة في المستقبل القريب، خاصة بشأن محاكمة مُـشتبه فيهم بالمشاركة في اغتيال رفيق الحريري، ناهيك عن رفض سوريا انتخاب رئيس لبناني جديد، يكون مناوِئا جُـملة وتفصيلا لعلاقة سورية لبنانية، تلاحظ المصالح السورية "المشروعة"، بما في ذلك بعض النفوذ، ذي الأصل التاريخي.
أما الرياض، فمنطلقها تسوية تحفظ مصالح ونفوذ القوى المحسوبة عليها، وفي المقدمة، تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري وحلفائه، كوليد جنبلاط والقوى المسيحية المنضوية تحت لواء الأكثرية.
الحرث في البحر
اختلاف الأولويات العربية جعل بالفعل من مهمة عمرو موسى مهمة شاقة، فبدلا من التركيز وحسب على دفع الأطراف المحلية اللبنانية على طريق التفاهم والحوار وقبول الحلول الوسط المستندة إلى روح ونص الدستور اللبناني واتفاق الطائف، كان لابد من التعامل أيضا مع الهواجس السورية والتأثيرات الإيرانية، بنفس القدر من الاهتمام، جنبا إلى جنبِ المطالِـب الأمريكية والفرنسية، التي تلتزم بها أطراف لبنانية، دون مناقشة.
وبالرغم من أن الجُـهد الكبير، الذي بذله عمرو موسى، طال بعض مراكز النفوذ والتأثير الإقليمي في لبنان، لكنه لم يكُـن مسلَّـحا بقدرة الضغط السياسي من ناحية، ولا بقدرة الترغيب من ناحية أخرى، وكل ما اعتمد عليه، هو القدرة على الإقناع والمنطِـق السَّـليم والحِـرص على بقاء لبنان المتوازن والقادر على العطاء لشعبه ولجيرانه، لكن زمن المبادئ لم يعد موجودا، فباتت المهمة كمن يحرث في البحر.
ولذا، وجدنا قيادات لبنانية تشكِّـك في مهمة عمرو، حتى قبل أن تبدأ، وأخرى تعلِـن أن موسى ليس لديه ما يقدِّمه للبنان، وثالثة ترى أن ما طرحه موسى كخطة لحل الأزمة اللبنانية، غير واضح المعالم، وذلك رغم أن الوفد العربي حمل معه أفكارا واضحة، استندت إلى اتصالات سابقة بكل الفرقاء اللبنانيين، وتقوم على البحث المتزامن في تشكيل حكومة وحدة وطنية وإبعاد خيار تشكيل حكومة ثانية، تناوِئ حكومة السنيورة القائمة، والتوافق على رئيس جديد، على أن يلتزم الجميع بالمواعيد التي يحددها الدستور.
أصل الداء
هذا التشكيك السابق واللاحق للمهمة العربية، عكس بدوره قرار معظم القوى اللبنانية التعامل مع الدور العربي باستخفاف وعدم مسؤولية، وعكس أيضا رغبة قوى لبنانية معيّـنة، ذات اتصالات مفتوحة مع واشنطن، في إفشال المسعى العربي، حتى لا يقال أن لبنان وجد دواءه لدى بيت العرب، وفى الحالتين، عبر السلوك اللبناني المُـعلن والمضمر، عن أن قرار القوى اللبنانية، ليس بيدها، وإنما في مراكز كُـبرى، هنا وهناك.
وبهذا المعنى، فإن مهمة الوفد العربي لم تفشل في حد ذاتها، وإنما أفشلها اللبنانيون أنفسهم، وقد كان البطريرك نصر الله صفير واضحا في تقييمه لحال التعثر الذي أصاب الوفد العربي، حين قال صراحة بعد يومين من مغادرة الوفد العربي لبيروت في 24 يونيو الماضي، "إن موسى جال على جميع الفاعليات، محاولا تقريب وجهات النظر، ولكنه حاول عبَـثا، لأن مَـن في يدهم مفتاح الحل والربط، ليسوا في لبنان، وهذا هو أصل الداء، ليتنا نعِـي أننا أصبحنا غير ما يجب أن نكون، وأن غيرنا لا يسعى في سبيل تحقيق مصلحتنا ولن يقدّمها على مصلحته الخاصة، مهما كان متجردا".
إنها شهادة رمز كبير من رموز لبنان الروحية والسياسية في آن، وهل هناك بعد تلك شهادة؟
ماذا يعنى الجهد الفرنسي؟
أخذا في الاعتبار هذه الملابسات، التي أحاطت بالمهمة العربية، يمكن التطرق إلى الجهد الفرنسي، الذي بدا ناجحا، نِـسبيا في أولى خطواته، التي جمعت ممثلي الفرقاء اللبنانيين من الصف الثاني للمرة الأولى، بعد تباعُـد وتنافر لمدة ثمانية أشهر، وهنا يلاحظ المرء ما يلي:
· أن الجهد الفرنسي يعكِـس سياسة فرنسية جديدة في عهد ساركوزى تُـجاه لبنان، تقوم على الاعتراف بأدوار كل القوى السياسية ومحاولة جذبها معا، لتكون جزءا من عملية الحل، وهو أمر لا يختلف في جوهره عن المسعى العربي، الذي لم يستبعد طرفا لبنانيا لحساب أطراف أخرى.
· أن الجهد الفرنسي بدأ واقعيا وحدّد مهمته في كسر الجليد بين القوى السياسية اللبنانية، وإتاحة الفرصة للتوصل إلى مبادئ عامة يتمسك بها الجميع، وفي ذلك أيضا، لا خلاف مع جوهر المهمة العربية.
· أن الجهد الفرنسي نسّـق جزئيا مع طهران والسعودية، واستبعد دمشق، وهو ما لم تفعله المهمة العربية، وللإنصاف، فإن تصريحات وزير الخارجية الفرنسية كوشنير، بعد لقاء سان كلو، توفر الانطباع بأن دمشق ستدخل حلَـبة الاتصالات الفرنسية لاحقا، لأن من الواقعية الفرنسية، تقتضي الاعتراف بالدور والنفوذ السوري، وفى ذلك تتفوّق المهمة العربية، التي أدركت ذلك من قبل.
· أن الجهد الفرنسي، يبدو مصمّـما على أن يكون عملية متدرجة، بمعنى خطوة تلحقها أخرى وهكذا، دون وضع سقف عالٍ للنتائج المنتظرة من كل خطوة، وفى هذا تتفوق المهمة الفرنسية عن مثيلتها العربية، التي بدت أكثر طموحا، وإن بتحفظ، والمنتظر، أن تفتح زيارة كوشنير لبيروت في نهاية يوليو الجاري، عمليا، المرحلة الثانية في المسعى الفرنسي، هذا إن استقرت أمور لبنان على حالها.
· أن الجهد الفرنسي يرنو إلى الحفاظ على مصالح فرنسا وأوربا معا، وكذلك مصالح أمريكا، وفي ذلك قوة مزدوجة لا تبدو متوافرة في مهمة الوفد العربي.
وأخيرا، يمكن القول باطمئنان وصراحة، أن القوى السياسية اللبنانية التي تجاوبت مع الجهد الفرنسي، لم يدفعها إلى ذلك الحِـرص على مصالح لبنان بقدر حِـرص كل منها مُـنفردا على تحقيق نِـقاط فى علاقاته مع باريس.
يبدو هنا موقف حزب الله بارزا، الذي استطاع أن يوظف المسعى الفرنسي في الخروج من عباءة لائحة المنظمات الإرهابية الأوروبية، وأيضا القوى ذات الصلة بواشنطن، التي أرادت أن توسِّـع خياراتها وأن تكسب دعما دوليا جديدا.
من حيث الجوهر، لا يبدو الجهد الفرنسي مختلفا عن مضمون وجوهر المسعى العربي، ووفقا لما قاله كوشنير، فإن أطراف الحوار اللبناني اتّـفقت على التمسّـك بأسُـس الدولة اللبنانية ورفض أي وصاية خارجية واحترام الدستور وميثاق 1943 ودعم الجيش وعدم اللجوء إلى العنف السياسي وضرورة إبقاء التواصل وضبط النفس في الأداء الإعلامي، وعدم تعطيل المؤسسات الدستورية وتشكيل حكومة إنقاذ وطني، تمثل كل المجموعات اللبنانية، واحترام الاستحقاق الرئاسي المقبل.
وإذا كان اللبنانيون متَّـفقون على كل هذه المبادئ، وهي التي أقرّوها في لقاءاتهم مع الوفد العربي سابقا، فلماذا لم يتجاوبوا مع موسى والجامعة العربية بنفس القدّر من السلاسة والانفتاح، الذي أبدوه تجاه باريس حتى الآن؟ قد تكون الإجابة بسيطة جدا بنظر البعض وتتمثل في أن بعض اللبنانيين لا يريدون لبنانا عربيا أو عروبيا، بل يريدونه غربيا بامتياز.