في البدء كانت الكلمة وكانت - العنصرية - نزوعاً بشرياً خالياً من الروح والقيم الإنسانية ، لأنها كانت ولازالت تعبر عن أصطفافات سلبية في فهم الحياة والتعايش والعيش المشترك ، وفي الإستقصاء المعنوي لها تعتبر العنصرية منحنيات في الحياة غير منتظمة تعبر عن الشهوة والغريزة والأنا السلبي ، ولذلك كانت وتكون مفاعليها وأثارها خطيرة على الحياة والعيش والتفاهم والشعور بالوحدة الإنسانية .
والعنصرية حسب تعريفنا : ( هي نزوع بشري قام و يقوم على أساس التمايز و التمييز بين الناس وفقاً للعرق واللون واللغة والثقافة ووو ...) ، ولهذا نرفض من يقول : - بان العنصرية هي مذهب فكري قائم بذاته - ، فالتمييز بين النزعة كمفهوم والمذهب كسلوك هو كالتمييز بين الوجود والعدم ، وهذا ما أكدته بعض المعاجم اللغوية ومالت إليه ، من حيث كون النزعة هي تمحور وتكور سلبي حول مفردات وهمية ظنوا بها إنها حقيقية ، على عكس المذهب الذي هو تكوين قائمٌ بذاته ، وفي الدلالة المعرفية على طبيعة النزعة نقول : - هي سلوك أو ممارسة وهمية تقوم على التّفريق بين أبناء الجنس البشري الواحد - ، على أساس الإختلاف في التكوين الطبيعي للخلق من جهة العرق والجنس ونوع الثقافة ونوع اللسان ولون البشرة ، وعلى هذا يكون النزوع شعوراً نفسياً وهمياً يؤوسسه التمايز في التكوين بين البشر ، ويصل هذا لدى البعض حد الاعتقاد بكون ما يميز ويفرق هو الحقيقة الوحيدة ، وعلى هذا رتب أصحاب هذه النزعة جملة حقوق وإعتبارات ترفع من البعض وتحط من البعض الأخر دون وجه حق .
في التاريخ كما في الحاضر أستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى نوع الممارسات التي يتم من خلالها معاملة مجموعة معينة من البشر بشكل مختلف ، وقد تم تبرير هذا التمييز بالمعاملة باللجوء إلى التعميمات المبنية على الصور النمطية وباللجوء إلى تلفيقات ظنية ، فالشعور الظني بالتفوق لدى البعض ، صير ذلك التفوق سلوكاً فوقياً وممارسة ديماغوجية أنتقلت إلى كل تفاصيل العمل السياسي والثقافي والعسكري ، وغاية ذلك إقصاء المخالفين عبر سلسلة إجراءات ثقافية ودعائية تركز في ذهن الأتباع هذا السلوك كمبدأ يصعب الخلاص منه .
أستفاد من هذا الهوس والنزوع الجنوني - أدولف هتلر - من قبل ومن بعد الحرب الكونية الثانية ، حين شن حرباً بلاهوادة على السامية في أوربا محدثاً في ذلك شرخاً عميقاً أدى إلى جرائم الهلوكوس ، متذرعاً بهويته وجذوره الآريه التي أدعى فيها إنه ومن معه أعلى رتبة من الخلق والبشر الأخرين ، في ضخ اعلامي ودعائي موجه بعناية طبعاً لا يخفى إنه ضرب على جملة أوتار ، منها ماهو سياسي ومنها ماهو إقتصادي ومنها ماهو عسكري ، خاصة بعد ما حدث لألمانيا ما حدث من دمار وهزيمة في الحرب الكونية الأولى .
لكن ماهي الأسس الموضوعية التي كونت النزعة العنصرية ؟ ، يقول جان مرتيان في معرض شرحه لهذه النزعة بالقول : لا يتعدى السلوك العنصري في أسسه رغبته في ظنه كونه متميزا من جهة ، - لون بشرته وإنتمائه العرقي ونوع لسانه وثقافته على نحو مطلق - ، ثم يأتي من بعد ذلك ما يميزه من العادات والمعتقدات والرتبة الإجتماعية ، لقد تجذرت هذه النزعة في أوربا والعالم الغربي بشكل عام ، وفي وقتنا الحاضر هناك ثمة دوافع ضاغطة بهذا الإتجاه نحوها ، منها : هذا الإختلال في ميزان العدالة الإجتماعية والذي اثر بشكل ما ، وفي بروز توجهات من الطرف المقابل على نحو ما يمتلك من طاقة وقدرة إقتصادية ، بالإضافة إلى نوع التربية والتعليم وزيادة المنسوب الثقافي لدى طرف مما يجعله يشعر بأنه أعلى رتبة ، من ذاك الذي يعيش الجهل والتخلف في كافة مجالات الحياة ، وبما إننا قد أشرنا في التعريف : - إلى أن العنصرية هي ( نزعة نفسية ) والمغذيات لها دائماً ، إعتبارات مزاجية من طباع وتربية وبيئة ونقص في المنسوب الثقافي والإخلاقي ، هذه العوامل وغيرها شكلت لدى البعض هاجساً في رفع منسوب التمايز والدفع بإتجاهه ليكون العلامة الفارقة ، يتضح هذا برفض أصحاب هذه النزعة لمفهوم و مبدأ الوحدة الإنسانية و وحدة الدين و وحدة العقل و وحدة الأخلاق والثقافة الإنسانية ، كل هذه الإعتبارات الظنية شكلت أو أنتجت لدى البعض ما سمي - بسيكيولوجية الأنا الذاتي - لدى الأفراد والمجتمعات والتنظيمات والحركات والتوجهات ، التي قادة بدورها إلى فتن وزرعت الشكوك في حياة الناس ، مشكلة في ضميرهم ونفوسهم أخاديد من الكراهية والعنف والتطاحن ونبذ الأخر .
ولعلنا لا نخفي سراً إذا ما قلنا إن الأحداث في الألفية الجديدة من بروز ظاهرة الإرهاب الديني ، الذي قُرن بكل مظاهر العنف والسادية ، هذه الظاهرة شكلت في ذهن البعض من الجهلة وضعاف النفوس والمرضى ، حافزاً مضافاً ساهم بزيادة حدة التطرف والكراهية مما كان لها نتائج وافعال وخيمة شهدناها وشهدها العالم اجمع ، حدث هذا في أوربا وفي أمريكا ولقد نال - العرق الأفريقي - ما ناله من هذا التطرف والحقد والكراهية الشيء الكثير ، أقول : قد تحمل ويتحمل المزيد من تبعات وأفعال هذه النزعة ، ونضيف هنا العامل السيئ الذي قامت به منظمات الشر الإسلامي ، مما ساهم في زيادة أنتشار وتنامي ظاهرة - الأسلامافوبيا - على نطاق واسع وبين شرائح من عامة الناس ، ولا نبرئ الإسلام السياسي من فعلاته وأفعاله ، والذي أعطى دافعاً لتراكم هذه الكراهية وعلى نطاق عام ، لقد كانت المنظمات الاسلامية عامل رئيسي في نشر العداوة والبغضاء حتى بين اطراف المذهب الواحد ، لقد سلكت هذه المنظمات طريقا وعرا اعطت من خلاله المؤشر الذي ساعد في تدعيم هذه النزعة على نطاق كبير .
تشير الإحصائيات الأممية إلى إنتشار مظاهر العنصرية : - من خلال المضايقة المباشرة والمضايقة غير المباشرة ، ومن خلال التجريح في الأشخاص المباشر وغير المباشر ، ومن خلال الإهمال المتعمد لنتاجاتهم ، وسد طريق النجاح والتقدم أمامهم ، وإشعارهم على نحو ما بعدم الرغبة في وجودهم بشكل مباشر أو غير مباشر ، وهذه السلوكيات تسبب ألماً كبيراً مقروناً بشعور مقيت بالإهانة والضيم ونكران الجميل .
في هذا الإيجاز الذي قدمناه حول نزعة العنصرية ، كان دافعنا إنساني بدرجة كبيرة لما نشاهد ونرى ونسمع عن ممارسات تحدث هنا أو هناك ، تشير إلى هذه الزيادة المضطردة بين أبناء الجنس البشري ، كما نجد زيادة في تشكيل التنظيمات العنصرية السرية والمعلن عنها تحت عباءة اليمين المتطرف ، في المقابل لا ننزه أنفسنا من تبعات أعمال وثرثرة وجهل في أستخدام المصطلحات والعناوين ، فنحن لم نغادر بعد عالمنا السحيق الظلم ، ظانين به كل الخير مع إنه قد شكل في حضورنا هذه النظرة السوداوية ، نحو الأخر ولعلنا لا نجافي الحقيقة حين نشير بأصابع الإتهام لتاريخنا المزيف والذي كتبه وعاظ وكهنة أرتبطت مصالحهم بمصالح أسيادهم ..
راغب الركابي