تسمّرت عيناي على البابا وهو ينزل سلّم الطائرة في مطار أربيل : رجلٌ
تجاوز عقده الثامن بخمس سنوات - وربما أكثر بقليل - ، برئة واحدة مدّت
جسده بالأوكسجين منذ بدايات شبابه ، وهو يمشي بمشقة ناجمة عن تبديل مفصل
الورك لديه بآخر إصطناعي قبل شهر . أشفقتُ على تعب الرجل الذي قد
لاتستطيعه كثرةٌ من الشباب ، وحدّثتُ نفسي : هل يمكن لهذا الرجل أن يبوح
بتعبٍ أو بأية إشارة تنمُّ عن عدم قدرة على التحمّل ومواصلة رحلته التي
جاء فيها العراق " حاجّاً " ؟ لايمكنُ بالطبع ، وليس أمامه سوى أن يتحمّل
كلّ أتعاب الرحلة المضنية وخذلانات الجسد المرهق . ليس بوسعه سوى أن يحمل
صليبه مرهقاً ويمضي في زيارته لأرض الرافدين . التعب بالنسبة إليه ترفٌ
غير مسموحٍ به ، وليس بوسعنا جميعاً إلا أن نعترف ببطولة هذا الرجل الذي
تحدّى كلّ " الكوابح " التي وُضِعت أمامه بقصد ثني عزيمته على إتمام هذه
الزيارة البابوية غير المسبوقة إلى أرض العراق التي صارت ساحة صراعية
لشتى الأفكار والأسلحة المسندة بقوة العضلات ؛ لكنه مضى غير آبه بما قد
يواجهه من مفاجآت غير سارة . الحقُّ أن هذا الجانب البطولي في السلوك
الشخصي للبابا هو ماأسرني في شخصيته الوديعة ، وأظنُّ أنه هو ماأسر معظم
العراقيين
.
كان يمكنُ للبابا أن يجلس مستريحاً في دار استراحته الملوكية ببغداد ،
وسيأتيه كبارُ المسؤولين زواراً بصرف النظر عن رفعة مناصبهم الحكومية
تقديراً لمكانته الروحية وكبر سنّه ؛ لكنه لم يفعل . لماذا ؟ لأنّه أحد
المبشّرين الكبار بـ " لاهوت التحرير Theology of Liberation " الذي
تنامت الدعوات إليه من قلب القارة الأمريكية الجنوبية ووسط أفقر الحواضر
السكانية ، وليس سرّاً أن أقطاب اللاهوت التحريري قدّموا مساهماتٍ عظمى
في حركات التحرير في دول أمريكا الجنوبية ، وكانوا أقرب إلى إشتراكيين
حقيقيين من كثيرين سواهم من أدعياء الاشتراكية الكذابين في مناطق أخرى من
العالم ؛ لذا فقد حظي هؤلاء الطليعيون باحترام كلّ المدافعين عن حقوق
الانسان بما في ذلك الشيوعيون أنفسهم ، وتلك مفارقة كبرى في تأريخ
السرديات الآيديولوجية الكبرى ، ولعلّ الفلم السينمائي الرائع الباباوان
The Two Popes يكشفُ عن أنماط مختلفة في تفكير الأشخاص ورؤيتهم المتباينة
للحياة حتى لو كان أحدهم بابا الفاتيكان . يرى أقطاب اللاهوت التحريري
أنّ الدين يجب أن ينتقل من كونه نواة عقائدية صلبة لكتلة من التعليمات
والوصايا الجامدة إلى نسق ثقافي ضمن أنساق ثقافية كثيرة سواه ، وأن يحوز
قدرة التغيير الدينامي لحياة البشر وينتصر للفقراء و" قليلي الحظ " في
هذه الحياة بدلاً من أن يكون وسيلة تقليدية لطالما وظّفها - ويوظّفها حتى
اليوم - الحكّام والسياسيون لإدامة سلطاتهم عبر تحالف " مدنّس " بين
السلطة والثروة ، وأظنُّ أنّ هذا هو السبب الذي جعل مناصري لاهوت التحرير
يرون أنّ الخُلاصة الإنجيلية تتجوهر في موعظة يسوع على الجبل وتطويباته
التي تمثّلُ خارطة عمل لحياة فاضلة على الأرض .
زيارة هذا البابا الجميل للعراق مثّلت بالتأكيد حدثاً مفصلياً لم نشهد
نظيره فيما سبق ، ولستُ أذكر أنّ ملكاً أو رئيس جمهورية أو وزيراً أو
سلطاناً أوووو ،،،، تفاعل معه العراقيون بمثل ماتفاعلوا مع زيارة البابا
( وشخص البابا ذاته ) ؛ لأنها المرّة الأولى التي شهدوا فيها " حبراً "
أعظم يقودُ كنيسة ينتمي لها أكثر من مليار ومائتي مليون شخص حول العالم
وهو يمسك حقيبته الصغيرة ويتعامل كأي شخص عادي من عباد الله في هذا
العالم ، ويتحدّثُ بصوتٍ هادئ مسح من أذهاننا صورة رجل الدين " العصابي "
الزاعق الذي يكتنز الأموال ويدعو لإعلاء لواء الكراهية ولايرى الخلاص
الموعود في الجنة الأخروية إلا لجماعته الخُلّص من البشر .
لم يكن العراقيون جميعاً مرحّبين بزيارة البابا أو بشخص البابا . لن
نخادع أنفسنا ، ومواقع التواصل الإجتماعي كشفت عن الكثير ممّا تعتملُ به
دواخل النفوس . كتب البعض مدفوعاً بيقين آيديولوجي صارم - أعظم من يقين
لينين في إنتصار الشيوعية على الرأسمالية - مفادهُ أننا يجبُ أن لانثق
بأي رجل دين لأنّ التأريخ يحكي لنا أفعالاً سوداء لرجال دين ( بابوات
بالتحديد ) في أزمان سابقة . أقولُ لهؤلاء : هل نحاكمُ الإنسان بافعاله
الحاضرة أم بأفعال سابقيه والتي صارت صورة نمطية جاهزة ؟ آخرون كتبوا أنّ
رجال الدين " طفيليات " تعتاشُ على دماء الناس ولايجب الوثوق بهم ، وهنا
لابدً من الإشارة إلى حقيقة بينّة : هذا البابا يتحدّثُ بما لايقلُّ عن
خمس لغات ، وقد حصل على شهادة الماجستير في الكيمياء ، وشهادة الدكتوراه
في اللاهوت ، وكان يمكنُ له أن يواصل تحصيله الاكاديمي ليحصل على
الدكتوراه ويشغل وظيفة أكاديمية أو صناعية مرموقة ، وكثير من رجال الدين
الغربيين والمشرقيين يماثلون البابا في تحصيلهم الأكاديمي العالي
وثقافتهم الرفيعة . الطفيليات مَنْ يتّخذون الدين وسيلة للتكسّب وهم
يفتقرون إلى أي تحصيل أكاديمي أو ثقافي حقيقي . أما النظريات "
المؤامراتية " فقد توالدت بسرعة غير مسبوقة تشي بما يغلي في صدور " البعض
" من أمنيات وأحلام بشأن خارطة جيوسياسية وديمغرافية جديدة لمنطقة الشرق
الأوسط التي يسعون لتحديد مقاساتها طبقاً للشروط التي يريدون .
قد يكون البعض غير مرحّب بزيارة البابا لأهداف خاصة به ؛ ولهذا البعض
أقول : لو كنتَ مُحِباً للعراق حقاً ، أما كان خليقاً بك أن تتعامل مع
زيارة البابا من جانب براغماتي " على الأقل " ؛ إذ تتقاتل الدول على
زيارة البابا وترى فيها فرصة عظيمة لحصد مكاسب سياحية واقتصادية
واعتبارية معروفة . لو كنتم تحبّون العراق حقاً وتحرصون على مصلحته
لنحّيتُم جانبا خصوماتكم الشخصية النابعة من روح كارهة ولفكّرتم بدعم
إقتصاد العراق وإثراء محفظته المالية ؛ لكنّ هذا البعض لايفكّرُ بمصلحة
العراق إلا إذا كانت هذه المصلحة سبباً في إتخام جيبه بالمال .
كتب البعضُ ، وعلّقوا تعليقات غير مناسبة ؛ بل وحتى سخروا من البابا
لأنهم يعرفون أنّ هذا الرجل ذا الوجه المبتسم لن يعاقبهم أو يقابلهم بسوء
، ولو أنه أخبِرَ بحقيقة ماكتبوا لارتسمت ضحكته الجميلة على وجهه ولطلب
لهم الصفح والغفران .
لو أتيحت لنا وسيلة تقنية لكشف مخبوءات الصدور خلال أيام زيارة البابا
لصُعِقنا من حجم الكراهية المعشعشة في قلوب أنفارٍ لايحبّون العراق ،
وماأحبّوه يوماً ، ولطالما عملوا على إضعافه وتقزيمه وثلم قامته الحضارية
العظيمة ؛ لكنّ العراق - بعراقييه المخلصين - الذي فتح ذراعيه للبابا
سيبقى العراق الذي نحب ، وهو العراق الذي يستحقُّ أن يشهد العالم على
نبله وثرائه الحضاري ، وليس العراق الذي يحاول البعض نفث سموم الحقد
والكراهية فيه .
البابا فرنسيس مشروع أملٍ حقيقي للبشرية والعراقيين ولو كره الكارهون