سأسلط الضوء هذه المرة على جزئية من تصورات - العقل الإسلامي - ، وأوهامه وأحكامه التي تعتمد التضليل والمُكابرة والتقليد ومجارات الغير ، يظهر هذا في أدب المتكلمين وأهل المنطق ومقولات الفلاسفة ، وفي التاريخ وإسقاطاته الشيء الكثير من النماذج وهاكم على سبيل المثال - أكذوبة المعراج - وتهافت قضية - الإسراء - في المفهوم والمصداق ، ودعونا نُركب الحكاية كما هي ، وكما وردت في القرآن الكريم حيث النص القائل : - ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى .. ) – الإسراء 1 ، يقول أهل اللغة : إن معنى - أسرى - هو المشي ليلاً أو السير ليلاً ، لكن النص لم يكتف بالمعنى اللغوي فجاء بالمفعول - ليلاً - زيادة في التوكيد ، مع إن هذه الزيادة لا مبرر لها كما يقول أهل اللغة ، فلا هي تفيد البيان ولا تزيد في صحة السير الليلي توكيداً ، ومع ذلك نحن نُسلم بما هو ولا نضفي على النص مزيداً من الشكوك ، وكلمة - سبحان - تفيد الإستغراق في الوصف تارةً وفي الثناء أخرى ، والمفيد إنها وردت شارحةً لما بعدها ، والجملة خبرية ومضمونها يدل على الماضي البعيد ..
من هنا أقول : إن هذه الحكاية تثير لدينا الكثير من القلق والإبهام والكثير من الغموض ، والكثير من الوهم والخيال ، وهذا كله ناشئ بفعل عدم الدقة الوثائقية التي يمكن الرجوع إليها ، أو الإهتداء إليها في إثبات أصل الحكاية أو عدمها ، سيما وإن الحكاية وردت هكذا من غير تحديد وتميز في الكتاب المجيد ، وهذا ما زاد في مساحة الوهم والخيال والقيل والقال لدى الكثيرين ، والأخبار والروايات التي تحدثت عنها ينقصها الكثير من التحقيق والصحة ، وقد شارك في نسجها أناس لايعتدُ برأيهم ولا يُقاس عليهم من أمثال معاوية وعائشة التي لم تكن حاضرة الوقعة ، وحسب الميثولوجيا الدينية كانت صغيرة وقتها ولم تكن في عصمة النبي بعد ولم تدر ماحدث في حينه .
وللتوكيد هنا نقول : إننا لاننكر أصل الحكاية كما وردت في الكتاب المجيد وفي شكلها العام ( الإسراء ) ، ولكننا ننكر جملة الروايات والأخبار التي تحدثت عنها ، لأن مجمل تلك الروايات قد زادت في غموضهاً غموضاً وتعقيداً ، ومايسميه اليوم المسلمين ذكرى - الإسراء والمعراج - ، فهو قول لا دليل عليه وهو ليس سوى إجماع فقهاء ووعاظ سلاطين من الفئة الرديئة ، ولا علاقة للحكاية بمفهوم الإجماع المنصوص عليه في كتب الأصول ، ومن هنا فلايمكننا الإعتماد عليه أو التصديق به من غير دليل .
وحين نقول : - إننا لا ننكر أصل الحكاية فهذا القول منا نابعا من إيماننا بصحة نصوص وقصص الكتاب المجيد - ، ولكننا ننكر أن يكون ( يوم أو ليلة 27 من شهر رجب هي تلك الليلة التي يزعمون إنها بها وفيها حدث الإسراء وحدث المعراج ) !!!!! ، والحق إن الإسراء شيء .
والمعراج شيئاً أخرا مختلفا في الشكل وفي المضمون ، وإذا كنا لاننكر الإسراء كقصة ورد ذكرها في الكتاب المجيد ، لكننا بكل تأكيد ننكر - المعراج - في الجملة وفي التفصيل ، فإنتقال النبي وركوبه دابة يسمونها ( البراق ) كما يزعمون هو مجرد هذيان وكلام فاسد لايمكننا الركون إليه والإيمان بصحته ، ولأن هذا القول : - يخالف أصول الإعتقاد فالله وأنبياءه وملائكته وسماواته ، ليست محلاً مادياً يمكن للنبي التجوال والتنقل ، وفي الحكاية التاريخية توحي للقارئ ويكأن كل واحد من الأنبياء قد أحتل ركنا وأعتكف به في أحدى السموات السبع .
كما لا يصح الإعتقاد على صحة نبوة محمد بهذا الإستدلال الخرافي الوهمي ، كما لا يصح الركون إلى هذا الخلط بين أصل الإيمان وهذه الميثيولوجيا الزائفة ، ومن يقرأ قصة - المعراج - يُخيل إليه ويكأنه يقرأ فيلماً كارتونياً مُعداً للأطفال ، فالنبي ونبوته قد تخلصت مع القرآن من ثقل الماضي بكل تجاربه ومعجزاته ودخلت عالم المعرفة والتجريد والعلم ، وتخلصت من الوهم والخرافة وسطوة التجربة ووسائل الإيضاح البدائية في الثبوت والإثبات .
ولهذا نرفض حكاية المعراج إنطلاقاً من إيماننا بان القرآن إنما يخاطب العقل الإنساني ، بعيداً عن التسويف وعن الخرافة وعن حكايات الإعجاز التي يميل إليها في الغالب قليلي الحيلة ، ومن ذوي المدارك والعقول البسيطة .
أضف إلى هذا وذاك فإن الربط بين قضية الإسراء وقضية المعراج ، تم بفعل العامل السياسي والجبر التاريخي والعقيدي ، إذ إن قضية الإسراء : ( هي حكاية نبوية وقصة تاريخية خالصة ) جاء بها النبي محمد كدليل على صحة نبوته لأنها تتحدث عن الماضي عن ذلك العبد ، وهي لا تتحدث عن النبي محمد لا في لسان الحال ولا في لسان المقال ، وليس لفظ - عبده - الوارد في سورة الإسراء يعنيه أو يدل عليه ، لأن النص إنما يتحدث بشكل مطلق عن العبد الذي جرت حوله هذه الحكاية ، كحكاية العبد الصالح في قصة موسى ، وكقصة أهل الكهف ، وكقصة أصحاب الأخدود وغيرها ، هي قصة نبوية لا غير ، والذي يؤكد ذلك الرأي ما قاله الزمخشري : فيما رواه عن أنس وعن الحسن في : - [ إن الإسراء قد وقع قبل البعثة النبوية ] - ، أي قبل إن يكون النبي محمد نبياً - ، إذن هي حكاية قديمة ، تحدث عنها النبي محمد عندما صار نبياً ، كما تحدث عن غيرها من القصص الموجودة في الكتاب المجيد .
كما إن المسجد الحرام عندنا : لايعني خصوص الكعبة المشرفة بل هو عنوان عام لكل ما يكون محلاً ومكاناً للسجود والعبادة ، والكعبة المشرفة هي واحدة من هذه المصاديق الدالة على معنى المسجد الحرام ، بدليل إن أهل التراث أنفسهم قد أختلفوا في معنى المسجد الحرام ،
فمنهم من قال : - إن المسجد الحرام هو كل مسجد يُعبد فيه الله - ، والحرمة المضافة فيه تعود على العبادة وذكر الله ، فهو محرم أو حرام من هذه الجهة .
ومنهم من قال : - إن المسجد هنا يعني بيت النبي - .
ومنهم من قال : - إنه يعني شعب إبي طالب - .
وإلى ماهنالك من الأقوال وهي كثيرة ، ثم إن الرواة قد أختلفوا ا في زمن حدوث الإسراء ، كما أختلفوا في زمن حدوث المعراج ، فمنهم من قال : - إن الإسراء تم قبل الهجرة بسنة - .
ومنهم من قال : - إن الإسراء تم قبل الهجرة بسنة ونصف - ،.
ومنهم من قال : - إنه حدث في رجب - .
ومنهم من قال : - إنه حدث في ربيع الأول - .
ومنهم من قال : - إنه حدث في ربيع الأخر - .
والأقوال فيه كذلك متعددة وكثيرة ومضطربة ، ومن أجل هذا الإضطراب وهذا التفاوت ، أختلفوا وقالوا : بان ليلة الإسراء هي غير ليلة المعراج .
ويجب التنويه بان المسجد الأقصى الذي ورد ذكره في الكتاب المجيد لا يعني - بيت المقدس - ، ذلك لأن لفظ ( الأقصى ) في اللسان العربي إنما يدل على المكان الأبعد من جهة القياس من المكان الذي أنت فيه ، فيكون معنى المسجد الأقصى هو المسجد الأبعد وليس بيت المقدس ، وهذا القياس بلحاظ مفهوم المسجد الحرام ومن جهته ، وليس كما يدعي أو يقول أهل الإعلام والسياسة المحدثين ، وكلامنا هذا ينطلق من كون هذا اللفظ قد ورد في سياق بيان كثرة البيوت التي كان يعبد الله فيها ، وليس في سياق المفاضلة أو التحديد لمسجد بعينه كما يذهب إليه أهل السياسة اليوم ، والتحديد كما نعلم مذهب يعتمد التشويه والخلط والتعميه .
وهذا كما ترون تشويه لمقاصد الكتاب المجيد ومايدعوا له وما يريد بيانه ، ومن هنا نقول : - إن الإسراء حدث نبوي وقصة تحدث عنها كتاب الله المجيد وهي لا تدل على أن المُراد بها خصوص النبي محمد ولا تعنيه ، بل هو حكاية من الحكايا وقصة من القصص التي يجب ان نؤمن بها ، كما آمنا بكل القصص التي ذكرها الكتاب المجيد .
لكن - المعراج - وهم و خرافة وخيال ، والإيمان به خلاف العقيدة الصحيحة ومذهب النبي محمد ودين الإسلام ، أقول قولي هذا وأنا أرى زيف المدجلين من وعاظ ومرشدين ومحرفين للكلم ومعناه ، بما لا ينسجم ولا يستقيم مع العقل السليم ، أقول هذا مشيراً ومبيناً إن العقل الإسلامي في كثير من مفاهيمه وتصوراته ، يعيش الوهم والخرافة والتقليد مما جعله في كثير من الأشياء متخلفا عن أقرانه ..
راغب الركابي