أثارت السيدة موزه غباش فكرة تستحق الرعاية و المتابعة والنظر والتحقيق ، وتبعها في ذلك إمام مسجد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله ، والحق إن فكرة إعادة النظر في كتب التاريخ والتراث ليست بالفكرة الجديدة ، إنما كَتبَ فيها غير واحد من المفكرين والعلماء والكُتاب .
والأصل الأولي لهذه الفكرة ينطلق من مقولة تدعوا إلى عدم الدمج بين كتاب الله والأخبار المنسوبة لرسول الله ، أي إن الفكرة في أصلها إصلاحي هدفه تنظيم قواعد التفكير والدلالة ، لكي تنسجم وتستقيم مع الإيمان والعلم ، بعيداً عن التقديس الزائف والذي يتلحف به أتباع المذاهب ويتعاضدون ، ولقد كانت لي مساهمة متواضعة في هذا الجهد ، لإيمان مني سابق بأن تصحيح قواعد التشريع والقانون بين القرآن والسُنة ، لا تصح فيهما المساواة وكذا لايصح التأسيس من خلال الأخبار في جعل السُنة بقوة الكتاب أو رديفا له ، ومن هنا أيدنا من غير تردد ما جاء على لسان السيدة موزه غباش ، وفي نظرتها التجديدية نحو التراث ومحاولة إعادة النظر بقضايا التاريخ والماضي بروح أكثر واقعية وعلمية .
وفي سبيل ذلك سنحاول تحرير محل النزاع حول - ما يسمى بصحيح البخاري - ، فالكتاب كما هو معلوم للعامة يتضمن موضوعات شتى ، وقد وردت بألسن رواة متعددين ، والغريب فيه إننا لم نشاهد أخباراً وأقوالاً للنبي بإعتباره كذلك ، وجُلَ مافيه عبارة عن روايات وأخبار منسوبة إلى رسول الله ، ولا يخفى عليكم إن هناك فرقاً في الدلالة والمعنى بين النبوة والرسالة ، ولهذا أقتضى التنبيه لذلك للأهمية من وجهة نظر معرفية خالصة ، وبنفس السياق تدعونا الأمانة العلمية للقول : - بأن ما يسمى بصحيح البخاري ، ليس على ما ينبغي ولا يجب النظر إليه كوحدة واحدة ، من جهة موضوعاته وفصوله فالكتاب فيه من الخرافة والهرطقة الكثير ، كما إن فيه من التدليس والكذب الكثير ، وفي جانب أخر نقرأ فيه أشياء يجب التوقف عندها وتدبر معانيها ، وفي الكتاب أيضاً نجد ( أدلة السُنن ) والتي هي عبارة عن قيم وأخلاق ونواميس وشمائل ، وفي هذه بالذات جاءت الإباحة والتسامح للأخذ بها لأنها تدعونا إلى الخير والعمل الصالح ، وفي الكتاب أيضاً مجموعة الحكم ( الحكمة ) والتي هي ضآلة ، أومرنا أن نأخذ بها من غير مؤثرات ولا نظر ثانوي .
نعم موضوع الرد على الكتاب لا يتعلق بشخص الكاتب من حيث هو فهذا لا يهمنا بشيء ، ولكن بنوعية الأخبار التي تضمنها وتحدث عنها في مجال العلم والكون والطبيعة ، وكذا في قضايا التشريع والقانون ، لقد كان خطأً فادحاً ذاك الذي أعتمده مؤوسسي ما يسمى باصول الفقه العتيقة ، والتي أعتمدت و ساوت عن عمد في القوة والدلالة بين هذه الأخبار والقرآن المجيد ، وقد شذ البعض من فقهاء العصر الوسيط لجهة جعل هذه الأخبار حاكمة على الكتاب بل وناسخة لأحكامه ، وهذه المغالطة أدت إلى هذا البحث المفتوح عن كتب الأخبار عن أهميتها ، وعن دورها وعن صحتها وصدقها وثباتها وقوتها .
فالكتاب موضع البحث هو مجموعة أخبار منسوبة إلى الرسول محمد ، وهذه النسبة من الأخبار مهما علت ينقصها الكثير لكي تتساوي مع الكتاب ، فهي من جهة التدوين وزمنه أتت لا حقاً ومن بعد وفاة النبي بمئة وخمسين من السنيين ، ومن جهة صُناع الخبر ورواته الذين كانوا يتحركون وفقاً لرغبات وأهواء بعيدة عن طبيعة النص ، ولهذا جاءت مادة الخبر مشوهة وعقيمة وغير ذات جدوى .
لقد كان الخليفة عمر بن الخطاب محقاً حينما منع تدوين أخبار النبي وأحاديثه ، والسبب معلوم حتى لا يكون لها أثرا وقوة كتلك الموجودة لدى أهل الديانات الأخرى ، مما فسح المجال لغلبة الخبر على النص السماوي ، ومن هنا نصوب الرأي الذي أعتمده الإمام أبي حنيفة في عدم الإعتماد على هذه الأخبار في إنتاج وإستنباط فقهه ، مقتصراً في ذلك على سبعة عشر منها قد صحت لديه ، والظن الغالب إن مفهوم الصحة هنا تعني الموافقة لكتاب الله ولذلك أعتمدها أبي حنيفة الإمام .
نعم تصحيح الموقف العلمي يتطلب نوعا من المواجهة وعدم التخفي أو الإختباء خلف مقولات فات أوآنها ، فكتب الأخبار عموماً في مجال الأحكام والتشريع لا تعدو أن تكون مجرد أدوات للأستئناس ليس إلاَّ ، ومن يظن غير ذلك فهو واهم ، وعلينا إعادة التركيز على تحليل نصوص الكتاب المجيد طمعاً في زيادة المعلومة والتعرف على ما يجب وما لا يجب ، فثمة تداخل وعدم ضبط أدى من حيث لا نشعر لسيادة النزعة الإكراهية والعنفية حين نحينا كتاب الله جانباً ، وأعتمدنا من غير هدي مضطرين على كتب الأخبار ، لتؤوسس لنا حياتنا ومستقبلنا ، وتلك مخاطرة كبيرة لا نجد جدوى من السكوت عنها أو التنبيه إليها ، ولعل الخطوة التي بدأت هناك في أبوظبي قادرة على وضع الأمور في نصابها ، لكي يستقيم الشيء بعد مضي كل هذه السنيين ، التي أربكت فينا الجهد والمثابرة والفكر ، وجعلتنا مشوشين تحوطنا أفكار قد عفا عليها الزمن .
إن إعادة قراءة الموروث لاتعني الإنفصال بقدر ما تعني لنا جميعاً ، وضع الأشياء في موضعها والنظر بعين الرعاية للمستقبل لكي نكون شركاء في صنعه وبنائه ..
راغب الركابي