العراق منذ تأسيسه 1921ظل أسير لصراع اجتماعي بين الموروثات القبلية والدينية وبين الرغبة بالحداثة والتجديد وهذه الموجة التجديدية كان لها مؤيدوها من النُخب المثقفة في ذلك الوقت فقد كتب الرصافي قصيدته المشهورة:
مزقي يابنة العراق الحجابا ... وأسفري فالحياة تبغي انقلابا
مزقيه اواحرقيه بلا ريث ... فقد كان حارساً كذابا
كذلك ماكتبه الزهاوي:
كل شئ الى التجديد ماض .. فلماذا يقر هذا القديم
زعموا أن في السفور انثلاماً . .كذبوا فالسفور طهر سليم
لا يقي عفة الفتاة حجاب .. بل يقيها تثقيفها والعلوم
من هذه الدعوات بدأت ملامح التحولات في طريقة الملابس النسائية بالظهور وأذكر قصة معروفة للشاعرة عاتكة وهبي الخزرجي عندما كانت ترتدي العباءة وهي شاعرة وصااحبة فكر تحرري فكان الجميع يستغرب ان عاتكة ترتدي العباءة ولكنها سرعان ما ظهرت في أحد الأيام بفستان عصري وترتدي قبعة على رأسها وتسير من أمام جامع ابي حنيفة النعمان فكان هذا حدث كبير أصبح جزء من تاريخ تغير طراز الملابس النسائية. ففي فترة الستينات كان طراز ملابس النساء فيه درجة عالية من التحرر وعدم الخضوع لمقاييس دينية أو سياسية على الرغم من أن هذه المقاييس اليوم تتحكم في طريقة الملابس النسائية بشكل كبير، لذلك فأن هذه السطوة الدينية والسياسية كانت خلال تلك الفترة قليلة ولم تكن السلطة السياسية في ذلك الوقت تتدخل بالشؤون الإجتماعية فقد كان هذا التطور تطوراً اجتماعياً بحتاً بشكل تدريجي. ولكن بعد انهيار النظام الملكي وقيام الجمهورية 1958 أخذت السلطة تتدخل في شؤون المرأة وتجعل منها مادة سياسية للحصول على أنصار أو لمواجهة أعداء،وفي الوقت الذي كانت فيه غالبية النساء سافرات و بقصات شعر وتسريحات تتناسب مع تلك الفترة من الانفتاح وانتشار موضة (الميني جوب) وهي تنورات ترتفع عن الركبة بشبر تقريباً فقد أخذ هذا الموديل (الميني جوب) بداية الستينات بالانتشار وأصبح منظر الفتاة بتنورة قصيرة جداً وظورها بكامل إنوثتها أمراً معتاداً في شوارع بغداد وهذا النوع من الملابس لم يكن بالنسبة للمرأة العراقية مجرد ملابس وإنما كان ثورة نسائية صارخة وواضحة، سرعان ما تعرضت هذه الثورة المجتمعية النسائية للكتم والاقصاء من قبل السلطة التي ربما وجدت في هذا التحرر ما يُهدد سطوتها كونها تمثل الاتجاه القومي ببُعده العشائري والديني فجعلت من ملابس المرأة سلاحاً ضد الشيوعية فمنعت ارتداء (الميني جوب) وكان رجال السلطة يحملون علب الأصباغ ويجوبون الشوارع لصبغ سيقان الفتاة التي تخالف أمر السلطة وهو السبب الرئيسي بإنحسار الملابس النسائية المتحررة والإتجاه نحو موديل الملابس المحافظة نوعاً ما.
من هذه المرحلة أخذ الفصل بين ملابس المرأة العراقية والسياسة أمراً غير ممكن فدخول البلد في فترة الثمانينات والتسعينات في حروب طاحنة أثرت بشكل واضح على البلد بشكل عام وجعلته بعيداً عن العالم الخارجي إضافة الى الوضع الاقتصادي السيء الذي أبعد المرأة عن الاهتمام بالموضة والجمال، كذلك حالة الحزن التي أخذت تُسيطر على العوائل العراقية دفعت بها للاتجاه نحو الدين بعدَه المخلص الوحيد، فانتشر لبس الحجاب والملابس الطويلة ذات الأكمام وهذا الطراز في السنوات الأخيرة مابعد 2003 تدريجياً ونتيجة هيمنة الدين والأحزاب السياسية الدينية على السلطة أصبح هناك تراكم فكري واجتماعي فرض نمطاً من الملابس ذات الطابع الذي يُقال عنه "المحتشم"، ولكن في السنوات الأخيرة وبمراقبة بسيطة للأماكن العامة أو الجامعات نجد أن هناك تناقضاً واضحاً في طبيعة الملابس النسائية وطرازها، فالكثير من الشابات يرتديَنَ التنورات القصيرة أو البطلنوات الجينز أو الستريج وبعضها مُممزقة أوساطها من أعلى الساق من الأمام مع ارتداء حجاب الرأس وهي دليل على وجود اتجاهين متصارعين لدى المرأة نفسها، الأول يمثل تحشياها للتصادم مع الموروثات الدينية والاجتماعية، والثاني يُمثل الرغبة بالانفتاح على مُعطيات الحداثة واللحاق بصرخات المودة العالمية في اللبس والمكياج.
في خضم ثورات الانفتاح هذا على الآخر المُختلف واستلهام التجارب المجتمعية بتحولاتها المُتسارعة، يكون الممانعون كمن يركب القطار ويجلس عكس سيره، ولكن القطار يسير، لذا سيكون الانكفاء والانزواء هو من قبيل المُستحيل، فلا يُمكننا البقاء ضمن (قوقعة فكرية) أو عقائدية معينة، لأن مُعطيات العولمة تخترق كل مُتبنياتنا، فخذ مثلاً على ذلك موديلات الملابس أو قصات الشعر أو تكالب الشباب والشابات على صالونات ومراكز التجميل، فهل هُناك من قدرة لمن يتبجحون بأن هذه التحولات إنما فيها تهديد للموروث من قدرة على ايقاف تيار الاعجاب بها والتسارع للأفادة من جماليات ما تمنحه من سعادة لمن يرغب بتغيير الشكل وتجميل ما يظنه قبيح في مظهره؟!. أظن أن كثير من أبناء المُعترضين وبناتهم ييلجأون لهذه المراكز ولا حُرمة في ذلك، إلَا أنهم سينبحون لكن القافلة تسير.
لفرط ما في شبابنا وشاباتنا من ذكاء فقد خلقوا موضة عصرية مزجوا فيها بين الملابس العصرية والمحافظة على القبول المجتمعي فأصبحت شريحة كبيرة من النساء خصوصاً من الشابات يظهرن بـ (استايلات) جديدة وبلمسات جميلة.
وهذه العودة التدريجية نحو الاهتمام بالموضة وتنسيق الملابس اذا استمرت بهذا الشكل التدريجي دون تدخلات سياسية ودينية ستصنع تجربة اجتماعية خالصة، يكون فيه للنساء العراقيات في المستقبل مكانة في عالم الأناقة والرُقي التي تتناسب مع المجتمع وتغيراته التدريجية وللشباب نصيب فيها.
وخلي خاتون العراق تُشارك في خلق الجمال بلبسها الجاكيت يطول ويقصر وبطلون الستريج تحته، لكنها موضة عصرية تخص الجيل الجديد من البنات والبنين، ونحن نرفض وبعد حين حين سريان الموضة نقبل على استحياء، ولكننا في نهاية المطاف سنقبل أو سيقبل من هم بعدنا كما قبل آباؤنا التنورة (الميني جوب) من قبل بعد رفض وتمنع..
للموضة دور في تغيير نمط الوعي ولله في خلقه شؤون!!.