يقول أحد الكتّاب المعاصرين: ماذا لو اجتمعت دول الغرب وأغلب دول الشرق ومعهم العرب على طاولة واحدة، وتناقشوا في إنجازاتهم وإسهاماتهم في الحضارة الإنسانية المعاصرة، وما أعطت كل دولة لحضارة الإنسان اليوم؟.. لا جدال أن بني يعرب لن يجدوا إنجازًا دنيويًّا يقدمونه للعالم.
هذه - في رأيي - حقيقة لا يجادل فيها إلا المغالطون العرب الذين هم أكثر من يستهلكون مخترعاتهم ومنجزاتهم وعلومهم على مختلف أنواعها.
ليبرز السؤال هنا: لماذا؟
السبب أننا أمة كنا - وما زلنا - نكره السؤال، ونبغض النقد، ونناصب العداء للموضوعية والعقلانية، وكل ما تفرزه (الحداثة) المعاصرة بمفهومها العام والشامل، متذرعين بغباء وحمق وجهل بأن العقلانية من خوارم الإسلام.
فالأمم التي تحدثت عن منجزاتهم ومخترعاتهم في أول المقال لم يصلوا إلى تلك الاختراعات والابتكارات إلا بتكريس المنهج العلمي التجريبي الذي يتكئ على العقلانية، بينما نحن نعتبر العقل والتفكير العلمي القائم على التجربة والبرهان رجسًا من عمل الشيطان، ونخلط بين ما (يحرم) أن نعرضه للعقل - وهي العقيدة والعبادات - والدنيويات التي يجب أن يكون الفيصل فيها للعقل والتجارب المحسوسة؛ فالعقيدة والعبادات هي (الثوابت) التي لا نتلقاها إلا من خلال (النقل الصحيح)، وليس للمعقوليات دخل فيها، أما غير هذه (الثوابت) فيجب أن نقبلها أو نرفضها حسب ما تمليه عقولنا، متسلحين في ذلك بالتجربة على أرض الواقع، وأعمال النقد الذي لا يعرف التثاؤب فيها بشكل دائم ومستمر.
وهنا لا بد من القول إن إقرار وزارة التعليم تدريس علمَيْ الفلسفة والنقد في مرحلة التعليم ما قبل الجامعي كان - في رأيي - قرارًا تاريخيًّا صائبًا ومطلوبًا؛ فقد فتح لنا كوة من نور في جدار سميك مصمت، كان يحرّم الفلسفة، فضلاً عن النقد والمنطق. فلعل هذا القرار التعليمي الجريء يؤدي بالذهنية السعودية الشابة إلى (تطبيع) علاقاتها الفكرية مع الآخرين، إذا لم تكن العدائية، مع كل ما هو عقلاني وتقويم التجارب، ونقدها بآليات العقل والمنطق؛ فأنا أعتقد جازمًا أن غياب تلك العلوم العقلية عن مراحل التعليم وساحاتنا العلمية والإعلامية كان من أهم أسباب عدم تقدمنا تعليميًّا، حتى أصبحت مؤسساتنا التعليمية مؤسسات تلقينية، تهمش في أغلب مناهجها العقل، وتمجد الحفظ؛ لذلك كنا في ذيل القائمة حسب إحصاءات واستقصاءات الأمم المتحدة.
النقطة الثانية والمهمة أيضًا التي أسهمت في جعلنا نحتل هذا الموقع المتأخر في جودة التعليم يعود بشكل جوهري إلى أننا لا نحفل بالأبحاث العلمية ومنشآتها؛ فأي مقارنة ولو كانت عابرة بين اهتمامنا بالمنشآت البحثية والمنشآت المماثلة في الغرب والشرق سنجد أن البون شاسع فيها - ولا يزال - إلى درجة مخجلة، وفي الوقت ذاته مخيفة على مستقبل أجيالنا الشابة؛ فمن خلال استقراء بعض تجارب الدول التي سبقتنا سنجد بوضوح أن ما يخصصونه للإنفاق على الأبحاث العلمية من الناتج المحلي كبير إذا قارناه بما ننفقه. خذ مثلاً إسرائيل؛ فرغم أزماتها الاقتصادية المتراكمة إلا أنهم ينفقون على منشآت البحث العلمي ما يقارب 4 % من ناتجهم المحلي.
.
وأخيرًا لا بد من القول إن أي أمة لا يعرفون في نهجهم الفلسفي بين ما يجب أن تتلقاه من النقل الصحيح وما يجب أن تُعمل العقل فيه وفي نقده، وتقويمه، ستبقى دولة (مستهلكة)