في زيارته الأولى لدولة الإمارات بدا المفكر الأميركي الياباني الأصل فرنسيس فوكوياما نجماً إعلامياً أكثر من مفكر أو فيلسوف. فشهرته العالمية التي رافقت اسمه على مدى عقدين من الزمان أحاطته بهالة من القبول لكل ما يفكر أو يقول. فعندما يتحدث يحط الطير على رؤوس الحضور، وعندما يصمت تتلاحق النظرات لرصد كل ما يبديه جسده من إيماءات أو حركات.. ولا عجب في ذلك كونه أحد أهم الفلاسفة المعاصرين في وقتنا الراهن. وعلى الرغم من تواضعه الجم واستسلامه التام لأسئلة المهتمين وكاميرات المعجبين وتوقيعات المقتنين لكتبه، بدا ”فرانك” كما يناديه المقربون مستشعراً لثبات مكانته الفكرية، متيقناً من امتداد أثره على المشهد الثقافي في هذه البقعة من العالم، التي يعترف بأنه طالما نظّر عنها كثيراً وخبر بها قليلاً.
لقد وقف نجمنا على المنصة بجسده الياباني ووجدانه الأميركي وروحه الهائمة في هوى أوروبا يعزف لحناً شجياً إماراتياً، يعكس انبهاره بما رآه في الدولة من إنجازات حضارية ونهضة تنموية وازدهار اقتصادي، بينما عزف في الوقت ذاته عن الاعتراف بما صنعته الإمارات من نموذج خاص ومتفرد لالتحام الشعب بالحكومة في نمط ديمقراطي ناجح مغاير للنماذج الغربية. ويأتي هذا كله منسجماً مع طبيعة فوكوياما المتمردة. فهو الذي نجح من خلال نظرياته الجريئة المفعمة بالتناقضات في استفزاز الفكر العالمي وترك عظيم الأثر في المشهد الثقافي الدولي. فنظريته الشهيرة ”نهاية التاريخ” التي بشر فيها بهيمنة القيم الغربية على العالم أجبرت المفكرين المغايرين على إعادة قراءة التاريخ.
ونظريته الأخيرة ”نهاية الإنسان” التي حذر فيها من ثورة التكنولوجيا الحيوية والاستنساخ وتهديدها لمستقبل البشرية أقلقت المجتمع الإنساني وأفرزت حراكاً فكرياً حول ضرورة وضع قيود وضوابط أخلاقية لبحوث وتجارب العلماء.
وما يتبناه فوكوياما من أفكار ونظريات مثيرة للجدل لا يقف عند حد، فالرجل الذي قاد بفكره موجة التعصب ضد الإسلام أو ”الإسلاموفوبيا” عبر تيار المحافظين الجدد، وصاغ بفكره قرارات نشر الديمقراطية بالقوة في المنطقة العربية، طرأت تحولات هائلة في الآونة الأخيرة على مواقفه وقناعاته، وعاد ليستكشف دروبه من جديد ويراجع ثوابته ومتغيراته. لذا كان وجوده على أرض الدولة فرصة ذهبية لاستجلاء الغامض من أفكاره واستعراض الجلي منها. وكان هذا الحوار الخاص بـ ”الاتحاد الثقافي” على هامش محاضرة عن الديمقراطية ألقاها مؤخراً في كلية دبي للإدارة الحكومية:
القيم العالمية
أبرز ما في نظريتك الشهيرة ”نهاية التاريخ” هو التبشير بهيمنة القيم الغربية على العالم وقيادتها لمسيرة البشرية. فهل تترك نظريتك فرصة للمجموعات البشرية المستقرة للحفاظ على هويتها وميراثها الثقافي والحضاري في ظل العولمة
لا شك في أن العولمة هي وليدة ظروف سياسية واقتصادية مر بها العالم لا مفر من ردها. فانهيار الشيوعية نتج عنه حسم الصراع بين الأيديولوجيات السياسية وانتصار الديمقراطية الليبرالية الغربية وانفراد أميركا بالسيطرة. وأرى أنه من الطبيعي أن يترتب على ذلك انصهار شعوب العالم في بوتقة حضارية واحدة تتوحد من خلالها البشرية في كيان حضاري متجانس هو قمة التطور الذي وصل إليه الغرب.
وتستفيد من نشر الحرية والديمقراطية والانفتاح ومن التقدم العلمي والتقني والمؤسسي. فنحن نعيش في مجتمعات معقدة ثقافياً، والعولمة بمعناها الجديد تزيد من مستوى التفاعلات الثقافية، ومعها لا أرى أنه بإمكان هذه الجماعات المختلفة ثقافياً أن تتعايش بسلام إلا في مجتمع ليبرالي متسامح. لذا أرى أن الحضارة الغربية ستذيب الحضارات الأخرى وما تحمله من قيم مضادة لحضارة الغرب. فالعولمة الثقافية قدر محتوم، ومعظم هذه الهويات الثقافية لن تصمد كثيراً بمجرد دخولها في اقتصاد السوق. فمعيار بقاء المجتمعات وتطورها ليس بعدد المواليد بل بديناميكية الحياة ومستوى التطور التكنولوجي وارتفاع مستوى الإنتاجية. فمثلما يختلط المال المحلي برأس المال العالمي ستختلط الثقافات وتمتزج الحضارات.
وأؤكد أن نموذج المجتمعات الليبرالية هو البديل الأفضل وأن الثقافة الأميركية هي النموذج الذي يجب أن يحتذى به.
ألا ترى أن هناك تناقضاً بين سعي الولايات المتحدة إلى نشر ثقافتها وتعميم نمط الحياة الأميركية على شعوب العالم، في الوقت الذي فشلت فيه جهود الإدارة الأميركية في تحسين صورتها. فهل مازلت ترى أن الثقافة الأميركية هي النموذج الأفضل على الرغم من أن العالم شرقه وغربه يعتبرها نموذجاً مرفوضاً للفوضى الأخلاقية والعنف والاستبداد
بداية أود أن أصحح هذا المفهوم. وهو أن فرض نموذج الحياة الأميركية على شعوب العالم لم يكن من أولويات الولايات المتحدة. فانتشار نمط الحياة الأميركية في أرجاء العالم لم يكن بالقوة وإنما نتيجة انبهار الناس بأسلوب الحياة الليبرالي ومستويات الحرية الفردية وحقوق الإنسان والمؤسسات الديمقراطية والانفتاح الاقتصادي، وهذه قيم عالمية تمثل تطلعات عالمية.
فشعوب العالم في شوق إلى نموذج الليبرالية الأميركية التي تمنح الدولة سلطة محدودة وتسمح للأفراد والمواطنين بممارسة قدر كبير من الحرية الشخصية كقدرتهم على المشاركة في الحياة السياسية وحرية التعبير.
فإذا اتخذنا مثالاً لدولة غربية مركزية مثل فرنسا فلا يمكن أن يجتمع الناس على قرار بناء مدرسة أو مستشفى أو جامعة ما لم تقره البيروقراطية. بينما المجتمعات الأكثر ليبرالية لديها مرونة أكثر في صناعة القرار. فالنظام الأميركي يسمح للناس أن تتصرف بحرية، من دون الرجوع في كل صغيرة وكبيرة إلى أوامر وتوصيات وتوجيهات من سلطات عليا.
وإذا كان البعض يعيب على المجتمعات الليبرالية الغربية انهيار مؤسسة الزواج وارتفاع نسبة الأطفال غير الشرعيين وانتشار الشذوذ الجنسي والأمراض الاجتماعية، فهذه السلبيات غير قاصرة على الولايات المتحدة بل تنسحب على العالم كله بما فيه الدول النامية. والفوضى الأخلاقية بصفة عامة ترجع إلى أسباب مختلفة منها انهيار الثقة بين المواطن والحكومة والمؤسسات المدنية والتفسخ الاجتماعي. إلا أنني أؤمن حقيقة بأن المجتمعات الليبرالية لديها مرونة أكثر من غيرها في الإسراع بتطوير نفسها.
الإسلام والغرب
في مقالات عديدة اعتبرت الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي لها إشكالية مع العالم الغربي الحديث. وأن العالم الإسلامي هو الخطر البديل للشيوعية على الليبرالية. ولقد رأينا في الآونة الأخيرة تحولات كبيرة في مواقفك وقناعاتك. فهل لازلت عند موقفك من الإسلام وضرورة فرض الفكر العلماني المادي على الدول الإسلامية
ما كتبته سابقاً عن الإسلام لم يقصد به المردود السلبي فقط. لقد ذكرت في كتابي ”التمزق الكبير” أن الإسلام يمكن أن يقدم حلولاً مبتكرة للتوفيق بين المعتقدات الدينية والمؤسسات العصرية.
وهناك جوانب إيجابية عديدة في المجتمعات الإسلامية، فالأسرة أكثر تماسكاً ومعدلات الجريمة أقل. والإسلام يمكن أن يفسر بطرق عديدة. وما كنت أقصده هي تلك المواجهة بين الإسلام والغرب من خلال أولئك الذين يريدون خلط العنف السياسي بالدين، وهذا لا يتلاءم بالتأكيد مع القيم والمبادئ الغربية. فهذا النوع من الإسلام السياسي لا يقدم بديلاً حضارياً مقبولاً يجذب مجتمعات إنسانية متقدمة لتبني أسلوب حياته أو العيش فيه. فلا أحد يقبل أن يعيش في ظل نظام حكم مماثل لنظام الطالبان في أفغانستان مثلاً.
أما الشق الخاص بالإسلام والديمقراطية فلقد ضربت مثلاً بعدد من الدول الإسلامية التي استطاعت تحديث أنظمتها السياسية وتحقيق إنجازات اقتصادية كبيرة مع الاحتفاظ بهويتها الإسلامية منها ماليزيا وإندونيسيا. والدول الإسلامية مختلفة وليست كتلة واحدة، بل إن الإسلام نفسه يختلف بالتطبيق والأفكار من دولة لأخرى. ولكنني أعتقد أن الإسلام الراديكالي هو أحد العقبات أمام التنمية الاقتصادية والسياسية في عدد من الدول الإسلامية والعربية. وإذا كان هناك نموذج ديمقراطي في الدول الإسلامية فأنا أميل إلى تبني النموذج التركي العلماني.
لقمة العيش
ما هو تقييمك للتغيرات التي طرأت على المنطقة العربية في السنوات الأخيرة وكيف يمكن أن تصل الديمقراطية إلى الشرق الأوسط
أرى أنه رغم ما تتعرض له المنطقة من صراعات معيقة للليبرالية إلا أنني أعتقد أن الحرية هي نهاية حتمية لمسار التنمية. وهي الوسيلة التي ستمكن الأفراد من المشاركة والتجديد والابتكار ومن ثم المساهمة في الاقتصاد العالمي. فليس هناك بدائل سوى اقتصاد السوق والديمقراطية السياسية.
أما كيف يمكن أن تصل الديمقراطية إلى الشرق الأوسط فلا أدري. ولكن ما حدث في الآونة الأخيرة من انتشار التعليم الجامعي والانفتاح الإعلامي خلق رغبة عالية لدى الناس في التغيير وتحقيق الديمقراطية.
ولكن أحد المعوقات الأساسية للديمقراطية هي انخفاض دخل الفرد مما يجعل الناس لا شاغل لهم إلا تأمين قوت يومهم. وفي حالة وجود انتخابات حرة فسيقبل الناس بأصواتهم على من يعدهم بلقمة عيش وليس لمن سيعمل على ترسيخ مبادئ الحرية والمساواة، ويضمن لهم احترام حرياتهم الفردية.
ولا أستطيع القول إن هناك معوقات اجتماعية واقتصادية أمام الديمقراطية في المنطقة العربية. فهذا هو الخطأ الذي وقعت فيه الولايات المتحدة الأميركية أن تدعم الديمقراطية في مكان وتتآمر عليها في مكان آخر. فعلى كل دولة أن تختار نظامها الشرعي المناسب ما دام ذلك يتناسب مع الشعب ولا يتعارض مع مصالح الدول الأخرى. فما يصلح لدولة لا يصلح لأخرى.
عزلة المسلمين
في أعقاب أحداث 11 سبتمبر2001 تم تشريع عدد من القوانين المنتهكة لحقوق المواطنين الأوروبيين والأميركيين المنحدرين من أصول عربية ومسلمة فكيف تفسر تصادم المواطنة مع الديمقراطية في الغرب الليبرالي وهل حقا طالبت بطرد المسلمين من أوروبا .
الأمر أعقد من ذلك بكثير ويعود إلى تاريخ أبعد من الحادي عشر من سبتمبر. ثم ان الوضع يختلف في أوروبا عنه في الولايات المتحدة الأميركية. فنسيج المجتمع الأميركي يقوم على الدمج والتعددية بين مهاجرين من جماعات عرقية مختلفة. بينما لا تزال أوروبا تأبى صهر الغرباء في عباءة القومية، ولذلك يشعر المسلمون الأوروبيون بالعزلة وغياب الهوية والارتماء في أحضان العنف أو الرغبات الملحة للسلطة المستبدة.
ولقد عانت العديد من الدول الأوروبية من مشكلات دمج المسلمين في مجتمعاتهم لأسباب كثيرة معقدة.
وكل دولة أوروبية لديها نسختها الخاصة من مشكلة الأقليات المسلمة. إلا أن أبرز مثال على ذلك هو الأتراك في ألمانيا الذين على مدى عقود طويلة لم يشعروا بالانتماء والمواطنة، وكذلك الحال في هولندا. ففي أوروبا الذي يجمع الشعب ليس الدين بل الوطن والقيم. وأرى أن النموذج الوحيد الناجح لاندماج المسلمين في أوروبا هي فرنسا بسبب تبنيها سياسة ”كلنا فرنسيون”. فالإحصائيات تشير إلى أن 70% من مسلمي فرنسا يشعرون أنهم فرنسيون. وما نجحت فيه فرنسا هو تشجيع الأقليات على ترسيخ الهوية القومية والانتماء للمجتمع. ولقد تحدثت كثيراً عن المسلمين في أوروبا عقب تفجيرات لندن واغتيال المخرج السينمائي في هولندا لكنني لم يحدث أنني ناديت يوماً بطرد المسلمين من أوروبا. كل ما قلت إنه إذا أراد أحد أن يعيش طوعاً في مجتمع ما فعليه أن يصبح فرداً منه ما يعني أن يتأقلموا ويندمجوا مع المجتمع.
ردة فكرية
في الآونة الأخيرة اعترت مواقفك كفيلسوف ومفكر وأكاديمي تحولات كبيرة وصفها البعض بالردة الفكرية حول العديد من القضايا. فلقد انقلبت على المحافظين الجدد، وأدنت الحرب على العراق، وتبرأت من فكرة نشر الديمقراطية بالقوة. فما الذي غير رأيك
لماذا لا أغير رأيي !. لقد تبين لي أن كشف حساب السياسة الخارجية الأميركية سلبياً في محصلته. وأن الحرب على العراق كارثية بكل المعايير. لذا جاهرت باعترافي بالخطأ. وأنا لا أطالب أحداً بالاعتذار على دعمه لقرار التدخل في العراق. فالمعلومات الاستخباراتية المضللة عن أسلحة الدمار الشامل وفرت أجواء ضبابية أوجبت دعم قرار الحرب آنذاك. ولكن بعد ما تبين لي كارثية ما حدث كان أولى بي أن أتراجع. وكثير من المحافظين الجدد غيروا آراءهم لكنهم يجدون صعوبة في الاعتراف بذلك علناً.
كما أنني راجعت نفسي بشأن فاعلية استخدام القوة لنشر الديمقراطية ومحاربة الجماعات الإسلامية المتطرفة. وكان اعتماد أساليب القوة الناعمة والاحتواء السياسي في السياسة الخارجية هو الأجدى. وذلك من خلال الدفع الذاتي للمجتمعات الإسلامية نحو الديمقراطية، وترسيخ مؤسسات مدنية قوية وقنوات للمشاركة وحكم سليم ستكون أكثر جدوى.
بعد انهيار الشيوعية اتضح أن هناك هوة في القيم والأفكار والسياسات بين الولايات المتحدة وأوروبا. ولقد ازدادت هذه الهوة عمقاً بعد الحرب على الإرهاب وغزو العراق. فهل ترى سبيلاً لردم هذه الهوة
لا شك أن هناك فروقات بين القيم الأوروبية والأميركية. فأوروبا تضع قيم العدالة والتضامن الاجتماعي في مكانة أعلى من الحرية، وذلك على العكس من الأميركيين. كما أن هناك خلافاً جذرياً بشأن مفهوم السيادة بين أوروبا وأميركا وبين دول الاتحاد الأوروبي أيضاً. وهناك انقسامات حول قضايا استراتيجيه مثل قبول استخدام القوة العسكرية كوسيلة لتفيد السياسة الخارجية. فالأميركيون يؤمنون بأن القوة العسكرية يمكن استخدامها لغايات شرعية مقبولة في حين لا يري الأوروبيون أن استخدام القوة العسكرية يمكن أن يكون لأغراض خيرة ونبيلة. وهذا الانقسام كان موجوداً في السابق، لكن، بسبب طبيعة الحرب الباردة التي قسمت العالم إلى معسكرين، لم تظهر الخلافات كثيراً علي السطح. هذا الانقسام بين الولايات المتحدة ودول أوروبا الموجود الآن سيستمر لفترات طويلة.
كما أن هناك انقسامات كبيرة حول قضايا اجتماعية مهمة مثل عقوبة الإعدام. فالأوروبيون يرونها انتهاكاً للكرامة الإنسانية أما الأميركيون فيطبقونها. وفي الوقت الذي باتت أوروبا تتحول أكثر فأكثر إلى تبني العلمانية، أصبح الدين يحتل مكانة مهمة في الحياة السياسية والاجتماعية الأميركية. أما الفجوة بخصوص الحرب على العراق فلم أتوقع أن تكون بهذا العمق وأرى أنها ستحتاج إلى وقت طويل لكي يتم ردمها.
انسان اصطناعي
لقد كان كتابك ”مستقبلنا ما بعد الإنسانية” صرخة تحذير من الفوضى التي ستترتب على تغيير الطبيعة الفيزيائية للبشر في ظل الثورة الهائلة لعلم الوراثة. ألا ترى أن الدول العظمى المتقدمة علمياً والرائدة لأبحاث الخريطة الجينية هي من تتحمل المسؤولية الأخلاقية لهذه الفوضى ثم كيف ترى السبيل لإنقاذ العالم من هذا المصير
أرى أن العبث في ثورة التكنولوجيا الحيوية هو أخطر ما يهدد مستقبل البشرية، إذ سيؤدي إلى انقلابات حقيقية في المبادئ الدولية السائدة وسيغرق البشر في فوضى لا إنسانية. فأتوقع أنه بعد جيلين من الآن ستتمكن ثورة علم الوراثة، عبر الاستخدام غير المنظم للعقاقير والاستنساخ والتعديلات الوراثية والتلاعب بعلم الأعصاب والدماغ، من خلق أشباه بشر يسخرون في خدمة الإنسان الأعلى. فالعلماء يطمحون إلى تخليق لنماذج بشرية على درجة عالية من التركيز العالي والذكاء الشديد أعمارها أطول وتعيش بلا أمراض. ولقد بدأو بالفعل في تسخير العلم للتحكم كيميائياً في انفعالات البشر وتحديد صفاتهم الجسمانية، وانتقاء مهاراتهم وميولهم. ما يعني أننا سنعيش في عالم مختلف عن عالم اليوم يتحول فيه الإنسان الطبيعي إلى اصطناعي، وتنهار فيه مبادئ حقوق الإنسان ويتفشى فيه التمييز العنصري والقهر والظلم وعدم المساواة بين البشر أي أننا سندخل حقبة جديدة من التاريخ ما وراء الإنساني. ولقد حذرت من تمويل الحكومات لأبحاث علمية تفتقر إلى الوازع الأخلاقي والوجدان الإنساني. لما سيترتب على ذلك من انعكاسات سلبية هائلة على النظم السياسية.
وطالبت بضرورة السيطرة على الثورة العلمية وتحويل مسارها إلى ما هو شرعي وإيجابي حتى لا تمس كرامة الإنسان. أما السبيل لإنقاذ البشرية فلدي قناعة بأن الحكمة البشرية التي مكنت الإنسان من التغلب على الكثير من المخاطر ستمكنه بلا شك من التغلب على تلك الكارثة قبل حدوثها.
فوكوياما في سطور
ولد يوشيهيرو فرنسيس فوكوياما عام 1952 بمدينة شيكاغو الأميركية لأبوين يابانيين. حصل علي شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة هارفارد وأمضى حقبة الثمانينات يعمل باحثاً في مؤسسة راند للبحوث ومستشاراً للتخطيط في وزارة الخارجية الأميركية. كتب مجموعة أبحاث عن السياسة السوفييتية الخارجية والشرق الأوسط أبهرت صناع القرار في واشنطن.
وفي عام 1989 ألقى محاضرة بعنوان ”نهاية التاريخ” عكست تأثره بفكر الفلاسفة الليبراليين في القرن الثامن عشر وتبشيره بانتصار الرأسمالية على الشيوعية.
فكانت تلك الفكرة بداية بزوغ نجمه كأبرز الفلاسفة والمفكرين السياسيين في أميركا وفي العالم. ومذ ذاك صار قريباً من المحافظين الجدد وساهم معهم في بلورة المشروع الفكري السياسي المعروف باسم ”القرن الأميركي الجديد” والذي يدشن قيادة أميركا لتغيير العالم .
يعمل حالياً أستاذاً للاقتصاد السياسي الدولي بجامعة جون هوبكنز بواشنطن بالولايات المتحدة الأميركية، ولديه العديد من المؤلفات والمقالات التي ترجمت إلى عشرات اللغات في العالم. متزوج من السيدة ”لورا هولمجرن” ولديه ابنة وولدان.