يقول الفيلسوف الأمريكي جون ديوي إن “علاج أمراض الديموقراطية هو بمزيد من الديموقراطية”. ويبدو أن بعض الشعوب نفد صبرها من استمرار أمراض الديمقراطية ومن عدم معالجتها بمزيد من الديمقراطية، فثارت ثائرتها، وللمفارقة باتت عن طريق الديموقراطية تتعدّى على الحقوق وتتجاوز الكثير من الحريات. لذلك، أصبحت هذه الشعوب بحاجة إلى ما يؤدى إلى احتواء ثائرتها ومعالجة تعدّياتها قبل أي شيء آخر. ويبدو أن الالتزام بقواعد الليبرالية هو عنوان عريض قد يساهم في عملية المعالجة هذه.
وبقدر تأثير الديموقراطية في تضخّم سلطة الشعب وفي تزايد قوته، تعمل الليبرالية على تحديد هذه القوة وتساهم في وضعها في إطارها اللّازم. فإذا كانت الديموقراطية هي حاكميّة إرادة الشعب، فإن الليبرالية تنتج أفكارا وتصنع أدوات من أجل احتواء هذه الإرادة في سبيل عدم تحوّلها إلى غول شمولي معاد للحقوق وللحريات. فالوضع الشمولي قد يأتي من خلال صناديق الرأي المعبّرة عن إرادة الأمة وليس فقط من خلال الحكم غير الديموقراطي. فإذا كانت آلية حكم الشعب لنفسه قد وُضعت من أجل معالجة الشمولية في الحكم، فإن ذلك لا يمكن أن يكون “ضمانة” لعدم تحوّل حكم الشعب إلى شمولية جديدة. لذا ما هو الحل لشمولية الشعب؟
بعبارة أخرى، أن الديمقراطية غير الليبرالية لا تستطيع أن تكون “ضمانة” لعدم تحول السلطة المتشكّلة عن طريق الانتخابات إلى قدرة شمولية. إحدى الضمانات المؤدية إلى ذلك راهنا هي الديموقراطية الليبرالية. وبقدر تهديد الأصولية الدينية لطموحات الديموقراطية في منطقتنا وبقدر وقوف الأنظمة الشمولية ضد تحرّك الشعوب لفرض إرادتها، إلّا أن هناك تحرّكا بات يهدّد الليبرالية في عقر دارها، أي في أوروبا وفي أمريكا، وتمثّله حركات اليمين واليسار المتطرّفين، المعادية للعديد من الحقوق والحريات، كتحرّك اليمين الفرنسي المتطرف بقيادة ماري لوبن التي حازت مؤخرا على نسبة مرتفعة من الأصوات (أكثر من 34%) في الانتخابات الرئاسية الفرنسية. هذه النسبة مؤشر على ارتفاع وتيرة عدم الرضا تجاه الليبرالية. أي أنه مؤشر خطير إذا ما أردنا أن نربطه بتأثير الديموقراطية على منطقتنا.
فشعوب المنطقة تطمح في تحقيق إصلاحات سياسية تتجاوز الصورة الشمولية في الحكم، من خلال تبنّي الآلية الديمقراطية المعبّرة عن إرادة الناس بدلا من استمرار الوضع السياسي التقليدي القائم على إرادة الحاكم الفرد. وإذا لم تستند الشعوب في تحقيق طموحاتها تلك إلى الليبرالية، فسيؤدي ذلك إلى ولادة شمولية جديدة تختلف عن سابقتها في لجوئها إلى صناديق الاقتراع، أي أنها ستتميّز في المظهر لا في الجوهر، وستنشأ شمولية جديدة مرتبطة برأي الأكثرية.
فالمؤشر الأوروبي الجديد، الذي يعكس عدم رضا تجاه الليبرالية، أو يعكس تضخّم بنية الشمولية، لن يكون في صالح حراك الإصلاحات السياسية لشعوب المنطقة. فحينما تتّخذ شعوب المنطقة موقفا سلبيا من الليبرالية فإن إرادتها ستكون خطرة على الحريات وعلى حقوق الإنسان بقدر خطورة الحكومات الشمولية غير الديموقراطية. لذا تبدو الليبرالية ضمانة لعدم تحول إرادة الشعوب (الإرادة الديموقراطية) إلى إرادة شمولية جديدة. فمن الضروري المحافظة على “حقوق” الناس ضد أي تجاوز لهذه الحقوق من طرف “إرادة” الناس التي جاءت عن طريق صناديق الاقتراع، وهذا لا يختلف عن الأهمية التي يجب أن نوليها للدفاع عن حقوق الناس ضد مواقف الحكم الشمولي الفردي. هذه المحافظة تأتي من خلال التمسك بالقيم والأدوات العملية التي تطرحها الليبرالية، أي من خلال المفاهيم والآليات المساهمة في احتواء الشمولية.
فما يجب أن نتعلمه من الأحداث التي تلفّ العالم، أن الحرية غير القائمة على احترام حقوق الإنسان هي حرية مُهلكة، وأن الديمقراطية التي لا تقوم على احترام مفاهيم الليبرالية مآلها الشمولية ولو التصقت بصناديق الاقتراع. ولا يمكن للحراكات الساعية لتحقيق المزيد من الديمقراطية ولعمليات التغيير الهادفة إلى إنجاز إصلاحات سياسية أن تَحدُث بصورة فورية، إنما هي تسير بمسار تصاعدي تراكمي يختلط فيه العامل السياسي بالعامل الثقافي، والعامل الاقتصادي بالاجتماعي، فتتقدم خطوات وتتراجع خطوة في الطريق الذي بلّطته لمعالجة السلبيات المغلّفة بفكرة الشمولية. وأي تجاهل لمخاطر الفكرة الشمولية في هذا المسار من شأنه أن يؤدي إلى نكوص وتراجع في الحركة، وبالتالي لا مناص من وضع عنوان “مواجهة الشمولية”، أو عنوان تفعيل مفاهيم الليبرالية، على رأس أولويات حركة التغيير. وأي دعوة للقفز بصورة ثورية نحو عنوان الإصلاحات، بكل تفاصيل هذا العنوان، إنما هي دعوة غير واقعية بل هي غير موجودة في التاريخ.