سؤال جاءني لزاوية صغيرة لا تتسع لإجابتها، فرأيت نقاشها معكم باستفاضة أكثر في هذه الفسحة: "الأخ نجيب ألا ترى أن السلفيين آن أن ينتهي دورهم ونفتح الطريق للعقل الليبرالي ( وهم مسلمون بالطبع) لتتقدم البلاد ؟"
هي فرصة إذن، لأقول رأيا وأنا لم أصنف نفسي ولم يصنفني غيري، ولم أشارك في حوارات ولا تكتلات. هذا لا يعني أني أتقدم ولو بمليمتر واحد معرفيا عن أي من العقول الزاخرة بالفكر والرؤية، ولكني أتكلم منطلقا من حيث إني لا ألعب في وسط الساحة، إنما واحد من هؤلاء المتفرجين الذين إما يُترك رأيهم كما أطلـَقه هائما في الهواء، أو قد يحمله بعضٌ محملا جادا، وهو محمل الفكر الخالي من الميل والهوى، والناضح من دواعي الحقيقة التي لا يدفعها ادعاء فضيلة المبادئ، بقدر ما تزجيها طبيعة راحة المراقبين للميدان، وليس حماسة اللاعبين في الميدان! ففيما أرى، أن هناك خطأ منطقيا في تفسير الليبرالية من الأساس، وبالتالي فإن من يقول إنه ليبرالي ويطالب بضرورة إزاحة فكر من الطريق قائم، لصالح فكر قادم، هو ضد الليبرالية بمعناها الذي أرادته لها اللغة، والمنطق، وسيرُ الإنسان الطويل في دروب الحرية والكرامة وإثبات الذات. فإن أمر من يحبون أن يوصفوا بالليبراليين بخفض أصوات السلفيين كما اقترح السؤال المطروح، لا يمكن أن يكونوا إلا متعصبين ولكن من الساحل الآخر، على أن طبيعة التعصب في النهاية هي إبحار من غير فنون وآلات الملاحة، والمصير غرق متوقع، أو ضياع في بحر واسع. لذا تستمر الأمور في التدهور لأن الذي يتصارع إذن ليس المبدأ الليبرالي في حقيقته، بقدر ما هو كراهية تنبث في فكرين متناقضين، والصحيح على المشهد الواقعي إذن هو أن الطرفين إنما يختلفان في آلية التعبير عن الكره، طرف يخال أنه واصل بحبال من السماء يتيح لنفسه أن يفعل ويدمر كل شيء وكأن ذلك من الفعل المقدس فلا يعي ولا يسمع إلا الكره، وطائفة ترى أن أي فكر سلفي جدير بكراهية مطعمة باستصغار ولا تخلو من الاحتقار. لذا فترى أن المجتمع يقع في مطينةٍ من الوحل المتحرك كلما أراد فكاكا ازداد غرقا.. هل تعرف شيئا؟ إن الذي يضيع بين الفئتين هم نحن، أي كلنا الذين خارج الحلبة.. ونحن لنا الحق بالدين ولنا الحق بالليبرالية بمعناها الحقيقي معا.. هذا ما أراه حقا! الليبرالية بمعناها الحقيقي، ما القصد؟ الليبرالية، هذه اللفظة الأجنبية التي دخلت معجمنا فصارت لفظة تدثر بقداسة شعائرية يلوح بها طرف وهم يجنون على معانيها وأهدافها، مثل ما يلوح المتعصبون الغاضبون بالدين للدم والتدمير، وهم يجنون على أسمى المبادئ وأكثرها فيه تأصلا.. الليبرالية تعني بوضوح، أن من منطلق إيمانك بحيوية حريتك عليك أن تؤمن بإتاحتها للآخرين أيضا. هي ليست حربا ولا افتئاتا، ولا هي صفة لناس من دون ناس. الدينُ للجميع، والليبرالية كمشروع إنساني خارج من الضمير الإنساني الواعي العادل (والذي إذن تدعمه الروح الدينية) هو صفة للجميع، وكما نقول إن الانتماء لا يجوز أن يقال للمفهوم الأشمل الأعم لأنه يدثر الإنسان فيكون الانتماء صفة أقل، فلا يمكن أن نقول إننا نشعر بالانتماء للأرض، لأنها كل عالمنا ولا بديل آخر نختار أن ننتمي إليه، فهي ضرورة محققة بوجودها ولا يفيد ولا يعني لها انتماء من عدمه، وكذلك القيم العادلة ينتمي لها كل البشر، ولا تقصر لأحدٍ دون أحد. الليبرالية هي مفهوم عام للجميع بأن نفكر كما نشاء لأن عقلنا مركب كي يفكر كما يشاء، فقل لي: من يمنعه أو يمنع بلايين الخلايا من تمرير تياراته الكهربية العصبية؟! وعندما نريد أن نتكلم بما في عقولنا، تتدخل الإرادةُ الكاسرة الطاغيةُ فتكمم الأفواهَ وهنا خروج على الليبرالية، بل حتى هؤلاء الذين تراهم يتكلمون في الصحافة والإعلام من أي الفئتين كانوا - وهم تحت جو غير ليبرالي - يتكلمون وهم بأفواه ولكن بدون فكر، فالفم واللسان والكتابة تخضع للخوف والنفاق، وليست الأفكار التي هي في حصن حصين. وترى أنه تحت سقف واطئ من المتاح ليبراليا، لا يمكن أن يكتب شخص أفكاره المتاحة المنشورة إلا لأنها ممررة، ولأنه يعلم أنه يكتبها كي تُمرَّر.. تصوره سدَّاً وفيه صنبور، وهناك يد متحكمة، يوم يخرج سيل من الكلام المتعصب لينظف كلاما متعصبا آخر، والذي يبقى اثنان، السدُّ واليد!.. نعم، أرجو أنك تكون قد فهمتني.. إذن.. الذي نراه في الساحة ليسوا ليبراليين ما داموا يحملون على فكر آخر ويطلبون له الزوال، بل هم متطرفون من نوع مضاد.. ومتساو في الأثر والنتيجة. لو أوكل لي الأمر؟ تسألني؟ لا.. أنا مجرد متفرج على هذه الحلبة الرومانية وأرى صراع المحاربين كل بأدواته، والنتيجة هي الدم.. دم نازف من الدين ومن المبادئ المنادية بحرية البشر، وبدماء المجتمع.. ويبقى المراهنون في المقصورات القيصرية.. إننا نحتاج للضمير والعقل، لا العاطفة والنزق، لا الفعل ورد الفعل.. الدين يعزز مبادئ الحرية متى ما سعى فيها ضميرٌ عادلٌ وعقلٌ مدرك.. والدين أيضا سلاحُ لا يظهر إلا عندما يكون الخطرُ مهددا للضمير والعقل. الليبرالية بمعناها الإنساني تعني التعايش، بدون التزاحم في صميم الحقوق والمعتقد والعنصر، بل تماس خفيف دافع كما تتماس العجلة الدائرية مع الأرض السهلة فيكون تيسر المسير في درب هو.. مدنية الإنسان! وننتهي أن الليبرالية ليست أن تكمم أفواهَ السلفيين.. ولا غيرهم!