التصحيح الثالث
أكدنا فيما مضى من تصحيح على الطبيعة الموضوعية للثورة ، ونعني بذلك إنها تتحرك وفق معطيات طبيعية وليست غيبية والهدف الذي تلاحقه الثورة هو في إقامة الحكم العادل الذي يحقق التوازن والمساواة ، وهذا الهدف لازمه تولي السلطة من خلال الإنتخاب والشورى وهذا ما كان يسعى له ويريده الإمام الحسين ، ولم يكن شيء من هدف غير هذا وما يُقال عن الشهادة فليست هدفاً البتة ، وما جاء من أخبار في هذا المجال فمجرد وهم نشأ بفعل ما آلت إليه نتيجة الثورة ، وقد فصل الركابي الشيخ في ذلك كثيراً في كتابه – إشكالية الخطاب في القراءة التاريخية لوقعة كربلاء - .
إن الشهادة أو في أن يقع الحسين شهيداً فهذا ليس من أهدافه الموضوعية ولا التخُيلية ، إنما الهدف الذي ركز العمل عليه هو في تسلم السلطة بالوسائل الدستورية والشرعية ، فمن خلال السلطة العادلة يمكن للشعب أن يقيم العدل وينشر السلام والأمن ، وقضية العدل هي الموضوعة الأهم التي يسعى لها جميع المصلحين والثوريين في العالم ، وفيها ومن خلالها يتم تنمية المجتمع وتطويره ، و هي الموضوعة الأقرب في ظل واقع إجتماعي وسياسي وإقتصادي ظالم ، إنها دعوة للعدل الإجتماعي ، ولهذا حين نقرء تراتبية الثورة سنجد إنها كانت تلاحق ذلك ، وكانت تحرص على حماية كل واحد يعيش داخل محوطة الدولة الإسلامية .
في التصحيح الأول كنا قد قلنا : إن الحسين هو الأجدر و الأصلح والأقدر لتولي منصب الخليفة هذا بالنظر لما كان موجود بالفعل ، فليس ثمة أحد أقدر وأجدر منه لهذه المهمة ، وجدارة الحسين وقدرته ترتبط بالشرط الموضوعي في شخصيته بالإضافة إلى العامل البيئي الذي نشأ وترعرع فيه من جهة جده الرسول محمد ومن جهة أبيه الإمام علي وأخيه الحسن ، وهذه الحيثية تقدمه على سوآه من أبناء المهاجرين والأنصار موضوعياً ونفسياً ، ونجد هذه الحيثية ظاهرة في كلام الناس والمؤرخين والتراجمة الذين أعتنوا بكتابة ثورته من الطبري والمفيد والشيخ الطوسي وعلم الهدى وأخرين غيرهم كأبن عساكر والذهبي وأبي فرج الأصفهاني ، وكلهم أدلوا بدلوهم في هذا المجال منوهين بشخصية الحسين النفسية والإجتماعية وقدرته الذاتية على كسب حب الناس والإيمان به وبما يفكر ويريد ، وقد عمل الحسين وفق رغبة وإرادة الناس عبر ما هو معروف من صيغ العمل السياسي والإجتماعي في هذا المجال .
إن مقولة الإصلاح التي تبناها في هذا الباب هي موضوعياً وعملياً تعني تصحيح مؤوسسة الخلافة ومسارها وإخراجهما من هيمنة البيت الأموي الذي كان يتحكم في مصير العباد ، فالحسين رجل سياسة بأمتياز ولأنه كذلك ، فقد ركز جُل عمله لتولي الخلافة كشرط مسبق لعملية التغيير والإصلاح ، وهنا إنما نتحدث عن رجل موضوعي واقعي يتصرف بحكم ماهو ممكن ومستطاع ، ولهذا جعل إرادة الناس مُقدمة في تحقيق هذا المطلب ، وفي حركته هذه يكون قد رفض كل تلك المقولات التحميلية الزائدة التي لم تعتمد ولم تأخذ بالحسبان الرأي والحق الشعبي ، ذلك لأن الحاكم أو الخليفة ليس منصباً وهبياً ولا هو منصباً شخصياً ، إنما هو علاقة تبادلية بين الناس وبين هذا الحاكم الذي ينتخبونه ، وبناءاً على ذلك تخرج كل الأخبار التي وردت في إعتبار الخلافة أو الإمامة منصباً وهبياً أو وراثياً ، كما يجب رد الأخبار التي كُتبت في لحظة الإنقباظ أعني بعد النصف الثاني من القرن السابع الهجري - أي بعد حوالي خمسمائة سنة - من إستشهاد الحسين ، والتي زيفت الكثير من المعتقدات والرؤى وغذت روح الطوباوية واللاواقعية ، من خلال إعتماد سلة من الأخبار الكاذبة وإلصاقها بالحسين عنوةً ، كما في خبر خط الموت على ولد آدم وخبر شاء الله أن يرآني قتيلا ، وأخبار كثيرة في الجملة وردت بصيغة تزعم فيها إن الحسين ذهب لكي يستشهد في كربلاء ، وهذا الزعم عار عن الصحة كما وإنه يرتب لواحق فاسدة كثيرة في الإعتقاد وفي السلوك .
إن تصحيح الإعتقاد في أهداف الثورة يعني لنا ، ترتيب أولويات أهمها طرح المفهوم الغيبي الذي يتلحف به نفر من الخطباء وأنصاف المثقفين ، كذلك يدعونا هذا التصحيح لقراءة الثورة من وحي الواقع الموضوعي الذي تحركت فيه ، وليس من وحي التطبيل والمُغالات وتزييف الحقايق والدخول في وهم الغيب ، كذلك هو تصحيح للهدف من خلال رفض مفهوم الشهادة كعنصر مُحرك للحسين في ثورته ، وهذا يعني رفض تقديم النتيجة على الهدف ، وذلك من خلال دعم تجهيل المجتمع ومسح ذاكرته العلمية تحت بند المنصوص عليه أو هكذا ورد في الأخبار ، واليقين الصحيح يقول إن ثورة الحسين وأخبارها كُتبت في القرن الثاني الهجري ، أي بعد إستشهاده بقرن من الزمان ولكم أن تتخيلوا الفترة ، وطبيعة التباعد الجغرافي والمكاني ، وطبيعة الحكم الذي كان سائداً وغياب النزاهة ، ولهذا كنا حريصين على تبني ما في كتاب - الشيخ الركابي - لأنه إنما أعتمد على كتابات أساطين المذهب الشيعي في هذا المجال ، كما أعتمد على ما كتبه المؤرخين ذوي الخبرة وممن يُعتد بكلامهم ز
إن تصحيحنا ليس خوضاً مع الخائضين ، إنما نريد منه الإصلاح ما أستطعنا إلى ذلك سبيل ، تحريراً للحسين من هيمنة الجهل ، والآبابية والضعف والشعاراتية ، ونقص المعلومة في ظل هيمنة التدافع الظائفي البغيض ، هو إذن تصحيح للعقل وللضمير وللتاريخ وللعقيدة وللسلوك ، من العيش في ظل من التخدير ، وعدم التدبر والوعي ، ونقص ملحوظ في القراءة المتأنية الهادئة ، إنه تصحيح للثورة من الزيف ، ومن وهم الشهادة ، ومقولات عفا عليها الدهر ...