وإشاعة عدم الاستقرار وخلخلة التماسك الاجتماعي، وزيادة تهميش المرأة في المجالين الاجتماعي والاقتصادي، وتضاعف نسبة العاطلين عن العمل خصوصاً وسط الشباب، وزيادة معدلات الفقر والمرض، وتعمق الفوارق الاجتماعية بين حفنة من الأغنياء والأغلبية الساحقة من السكان، والى بروز ظاهرة النمو العشوائي للمدن والمراكز الحضرية المكتظة والمحاصرة بأحزمة من الأكواخ والبؤس والفقر، والى تدهور مستمر في البيئة المادية والاجتماعية مما ترك آثاره في ازدياد معدل الجريمة والإدمان والاتجار بالمخدرات والفساد والعنف والإرهاب، وتفكك العلاقات الأسرية، ومنظومة القيم، واختلال سلم المعايير. استمرار الجمود للأنماط الاقتصادية/ الاجتماعية لمعظم الدول النامية، وتزايد وتيرة الاستيراد، وتضاؤل طاقة التصدير المتخلفة في الأصل، قد أظهر مدى خطأ استراتيجية التنمية المعتمدة بشكل كبير على رأس المال الخارجي والتقنيات المستوردة (بديلا عن توطينها) والأسواق الأجنبية، وإنها كانت معرضة باستمرار إلى هزات خطيرة بفعل العوامل الخارجية، مما أشاع عدم الاستقرار في عملية النمو. من الواضح الآن أن ثمة شيئا كامنا في نمط التنمية المتبع على العموم، وهذا الشيء هو وجود ميل قوي نحو تفاقم عدم المساواة بين الدول الغنية والفقيرة أو داخل مجتمعاتها على حد سواء، وقد فاقم من حدة الأزمة التي تمر بها البلدان النامية، ارتفاع المديونية ونسبة الفائدة العالمية، ونضوب تسهيلات الدفع، ومراكمة الديون، وزيادة تحويل الموارد من البلدان النامية إلى الأقطار الغنية في الشمال (164 مليار دولار في خلال الفترة 1984 - 1988). وقد أدى ما يعرف ب ''الليبرالية الجديدة'' التي تتمثل في فرض إعادة الهيكلة بالنسبة لاقتصاديات بلدان الجنوب، والتي يمارسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للأعمار، والتي تعتبر بمثابة وصفة قياسية ذات صبغة سياسية إلى نتائج وخيمة، فالتحرر المالي في ظروف التضخم قد فاقم من التضخم، وتحرير الاستيراد من القيود في وقت تشح فيه التحويلات من الخارج كثيرا قد ضخم العجز في ميزان المدفوعات، وأدى إلى تخفيض العملة، كما إن الضغط لفرض التوسع في التصدير وزيادة العرض قد أدى إلى هبوط حاد في الأسعار الإجمالية، وقد بلغ معدل الانخفاض في الأسعار ل36 سلعة أساسية تنتجها البلدان النامية نسبة 35% خلال مطلع الثمانينات مقارنة بفترة السبعينات، مما انعكس على تدهور نصيب بلدان الجنوب من التجار الدولية، حيث انخفضت مشاركة تلك البلدان من إجمالي الصادرات العالمية من نحو 25% في العام 1955 إلى نحو 11% في العام.1980 وفي العام 1971 كان عدد الدول الفقيرة يبلغ 25 دولة فقط، ارتفع إلى 48 دولة في مطلع التسعينات، ثم تجاوز 63 دولة في العام.2000 وان نصف سكان العالم أي نحو 3 مليار نسمة يعيشون على اقل من دولار أميركي واحد للفرد يوميا، في حين يعيش نحو 2,1 مليار شخص على دولار واحد في اليوم، كما إن هناك نحو 830 مليون شخص (نحو 14% من سكان العالم) يعيشون حالة جوع حقيقي. لقد قيل وكتب الكثير عن ضرورة التكيف وإعادة الهيكلة الذي يؤدي إلى النمو، إلا أن الواقع يؤكد زيف هذا الادعاء بالنسبة إلى الغالبية من البلدان النامية، فالنمو قد توقف وتراجع على جميع الأصعدة، ويبدو المستقبل مظلما وكئيبا ولا يغير من صورة المشهد بعض النجاحات النسبية أو الحقيقية التي شهدها بعض بلدان الجنوب وخصوصاً بلدان جنوب شرق آسيا والصين والهند. لقد واجهت الدول الغربية صيحات الاستغاثة الصادرة من بلدان الجنوب فيما يتعلق بالحالة المأساوية التي وصلت إليها بالتجاهل وعدم الاكتراث، وبدلا من أن تنبري الدول الغنية لمساعدة البلدان النامية التي يطحنها الفقر والجوع والبطالة والمرض والحروب الداخلية، والتي هي في أبعادها الرئيسة نتاج سياسة النهب الاستعماري والهيمنة الاقتصادية للغرب التي استمرت عشرات السنين، فأنها سعت لتحميل تلك البلدان نتائج أزمتها المركبة قاطعة الطريق أمام أي أمل لدول الجنوب في تجاوز أوضاعها المتدهورة في كل المجالات، خصوصاً على صعيد حل أزمة المديونية التي تضاعفت عشرات المرات إذ بلغت المديونية نحو 100 بليون دولار في العام 1970 ووصلت إلى 650 بليون دولار في العام 1980 ثم أصبحت تريليون و350 بليون دولار في العام 1990 وتصاعدت لتصل إلى نحو 5,1 تريليون دولار في.2002 لقد بلغت مديونية إفريقيا نحو 275 بليون دولار أو ما يساوي 120% من حجم صادراتها السلعية والخدمية في سنة 2004 أما الدول الآسيوية النامية فقد بلغت مديونيتها 717 بليون دولار في سنة 2004 وهي تعادل 73% من حجم صادراتها السلعية والخدماتية. وقد ذكر التقرير حول التنمية في العالم 2003 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة أن مداخيل اقل من واحد في المئة من سكان العالم (نحو 50 مليون شخص) تساوي مداخيل 7,2 مليار نسمة الأكثر فقرا كما تزداد مداخيل 20% الأكثر ثراء في العالم بينما تنخفض الأرقام الفعلية لمداخيل 50% الأكثر فقرا، في حين يتقاضى المسؤولون في الشركات المتعددة الجنسية أجورا تساوي مئات الألوف من الأجور الشهرية للعمال غير المتخصصين العاملين في فروع هذه الشركات في البلدان الفقيرة. أما على صعيد الدول الصناعية الغنية فإن الولايات المتحدة (اكبر اقتصاد عالمي) على سبيل المثال قفزت الحصة من الثروة التي يملكها 1% من الأميركيين من 25% من إجمالي الثروة في العام 1969 إلى 3,34% في العام 1983 وبلغ دخل إجمالي أغنى 5% من السكان الأميركيين في العام 1983 ما يفوق مجمل دخول أفقر 40% من الشعب الأميركي كما أن هناك نحو 20% يقبعون في دائرة الفقر و13% هم تحت خط الفقر وفي بريطانيا يعيش نحو 20% من السكان تحت خط الفقر. ما يميز البيئة الاقتصادية العالمية هو الميل الحاد لتفاقم عدم المساواة سواء في داخل البلدان والمجتمعات الصناعية المتطورة، أو فيما بينها وبين بقية البلدان النامية أو في داخل بلدان الجنوب ذاتها، وذلك بفعل منطق وحركة وديناميكية رأس المال الباحث أبدا عن مزيد من الأسواق والاستثمار وتعظيم الأرباح بغض النظر عن النتائج المروعة التي تخلفها، وفي ظروف الأزمة الهيكلية التي يواجهها فإنه يبحث عن منافذ وحلول يدير من خلالها أزمته منعا لتبخيس واضمحلال تلك الرساميل الضخمة السائبة والتي لا تجد لها مجالا مؤاتيا للاستثمار الداخلي أو الخارجي، ولمنع تكرار أزمات الكساد والركود والإفلاس الشامل كما حدث في الثلاثينات من هذا القرن، لذا فهو يسعى عن طريق اعتماد سلسلة من الإجراءات لتحميل الفئات الشعبية بما في ذلك الطبقة المتوسطة، وقوى العمل في المجتمعات الصناعية المتطورة، وبلدان الجنوب في الآن معا وزر خطاياه وإخفاقاته وشراهته اللامحدودة للربح.