عندما تبرز مسألة العراق، فإن شهر سبتمبر المقبل ليس ببعيد. فالديمقراطيون وعدد متزايد من الجمهوريين مصممون على عدم الانتظار الى سبتمبر، الموعد المقرر لصدور تقرير الرئيس جورج بوش،
حول ما اذا نجحت خطوة زيادة القوات الاميركية في العراق. الشعب الاميركي ضاق ذرعا بالأمر ويريد خروج هذه القوات من هناك. ومع اقتراب الأمر من نهايته، يجب ان يدرك الرأي العام الاميركي ان الجمهوريين والديمقراطيين ليس لديهم استراتيجية واقعية.
من الواضح ان نهج بوش القائم على اساس المضي قدما في الخطط المرسومة اصلا قد اثبت افلاسه؛ إذ ليست هناك مؤشرات على التوصل الى قيام عراق مستقر وموحد وقادر على الاعتماد على نفسه. ولكن من الناحية الثانية فإن مقترحات سحب القوات الاميركية، التي طرحها الكثير من الديمقراطيين والجمهوريين المنشقين ليست واقعية. المقترحات التي طرحت حتى الآن حول الوضع في العراق ومصير القوات الاميركية لا تضع في الاعتبار خطة انسحاب جزئي يجري بموجبها خفض عدد القوات وتسيير دوريات عسكرية اقل عددا وتقديم تدريب اكثر ومواجهة «القاعدة»، هذا خيال.
اللحظة التي ستبدأ فيها القوات الاميركية الانسحاب ستندلع فوضى عارمة في الأماكن التي تخليها القوات الاميركية، وسيكون هناك نزاع على السلطة بين الفصائل العراقية. كما ان بقاء القوات الاميركية في العراق بنصف عددها الحالي ليس خيارا عمليا.
اذا ألقينا نظرة على القوات البريطانية في البصرة، نلاحظ انها الآن باتت موجودة في قاعدة واحدة بمطار البصرة. ماذا حدث؟ الفراغ الذي تركته هذه القوات بعد تقليص رقعة وجودها ملأه التنافس على السلطة بين زعماء الحرب الشيعة والعصابات والعشائر، ولا يزال أفراد القوات البريطانية يتعرضون للقتل متى ما جازفوا بالخروج من قاعدتهم.
وطبقا لتقرير اصدرته «مجموعة الأزمات الدولية» من البصرة، فإن «الساحة السياسية في البصرة باتت الآن تحت سيطرة أطراف بينها صراع دموي على الموارد، الأمر الذي يهدد بنسف ما تبقى من مؤسسات الحكم وفرض سلطتها بالإكراه. ويمكن ان القول ان البصرة ليست نموذجا يحتذى، بل مثال على الفراغ الذي نتحدث عنه. وبتجدد العنف وعدم الاستقرار، اصبحت البصرة تمثل نموذجا لمأزق العملية الانتقالية التي تؤدي الى انهيار جهاز الدولة.
يجب ألا ان نخدع انفسنا: خياراتنا الحقيقية في العراق هي على وجه التحديد إما الخروج بصورة كاملة او البقاء بصورة كاملة، باستثناء كردستان. وإذا كانت هذه خياراتنا الوحيدة، فإننا في حاجة في ما يبدو الى النظر بوضوح الى كل من هذه الخيارات.
البقاء في العراق يعني في ما يعني احتواء الحرب الاهلية العراقية، ولكن الثمن هو استمرار موت الاميركيين والعراقيين، وفي ظل عدم وجود نفوذ حقيقي للولايات المتحدة على الأطراف داخل أو خارج العراق بغرض التوصل الى تسوية من خلال التفاوض. الجنود الاميركيون يقدمون اليوم حدا اقصى من التضحية كي يشغل الساسة العراقيون مواقعهم.
اما الخروج من العراق، فلا يعنى سوى المزيد من القتل على خلفيات دينية وإثنية وطائفية. ويمكن القول ان هذا سيكون واحدا من اكثر المشاهد قبحا من الناحية الاخلاقية، ليس اقل درجة مقارنة بدارفور. ستشاهدون القوات الاميركية وهي تنسحب والمدنيين والعسكريين العراقيين الذي أيدونا يحاولون التشبث بدباباتنا المنسحبة كي يحموا انفسهم. يجب ان نأخذ معنا كل الذين ساعدونا ويريدون خروجنا وأن نمنح ايضا البطاقة الخضراء لأكبر عدد من العراقيين.
الخروج من العراق له اربع فوائد على الأقل. اولا، لن يكون هناك المزيد من القتلى في صفوف القوات الاميركية. ثانيا، الخوف من اندلاع حرب أهلية شاملة خلال استعداد القوات الاميركية للانسحاب، ربما يكون افضل امل لحمل العراقيين على التوصل الى اتفاق سياسي في اللحظات الاخيرة. ثالثا، الحرب الأهلية ربما تجبر العراقيين على ايجاد أساس مستقر لقيام تسوية فيدرالية.
رابعا، لن تصبح ايران قادرة على استهدافنا من خلال الجهات التي تعمل لصالحها بالوكالة في العراق، وستكون الولايات المتحدة أكثر حرية في ضرب ايران ـ اذا دعت الحاجة الى ذلك ـ بعد خروجنا. علاوة على ذلك، سترث ايران بالضرورة إدارة الفوضى في جنوب العراق، التي ستصبح بمرور الزمن مشكلة كبيرة أمام طهران.
لكل هذه الأسباب، افضل ان يتم تحديد موعد للانسحاب، ولكن اقترح ان يكون مصحوبا بمساع دبلوماسية بقيادة الامم المتحدة – وليس الولايات المتحدة ـ بغرض مساعدة الأطراف العراقية على حل خلافاتها السياسية. اذا حدث ذلك، يمكن في هذه الحالة إرجاء أي انسحاب. اما اذا لم تتوصل الأطراف العراقية الى اتفاق، فإن بقاء القوات الاميركية في العراق امر لا طائل من ورائه، وبذلك يصبح تحديد موعد لسحب القوات من هناك الخيار الوحيد.
يرى مايكل ماندلبوم، خبير شؤون السياسة الخارجية في «جونز هوبكنز»، ان ثمة فرقا بين محاولة فض مشاجرة بين شخصين بسبب خلاف وبين محاولة فض الشغب، لأن من يحاول فض الشغب سيجد نفسه في خضم الفوضى وأعمال الفوضى.
نحن في حاجة الى ان نحدد – الآن واليوم ـ اذا كان ما يحدث في العراق شجارا يمكن فضه ام أعمال شغب ينبغي ان نشيد حولها جدارا وننتظر الى ان ينتهي الشغب بفعل الإنهاك.
*خدمة «نيويورك تايمز»