لا اسمهان هناك لتغني لليالي الانس في فيينا. الآن ليالي العرب. كوكتيل عجيب من ديبلوماسية الف ليلة وليلة وديبلوماسية داحس والغبراء. ماذا، اذاً، تقول شفتا (ساقا) شهرزاد؟
لم يكن يوهان شتراوس ينتظرنا بسنفونياته الفذة عند ابواب المدينة التي صنع اهلها «الكرواسان» على شكل الهلال العثماني كموقف ايديولوجي من خيول السلطان العثماني، وقد خارت قواها امام اسوار فيينا. السلطان اياه الذي كان يبتغي ان يحذو حذو سلفه. بعد القسطنطينية فيينا وتغدو القارة العجوز محظية عثمانية...
لوي ماسينيون قال ان السلطان ضاع بين صهيل الآلهة وصهيل الاحصنة. لاحظ كيف تذوي المدن، بل كيف تذوي الامبراطوريات. الآن فيينا مدينة عتيقة. لا تباهي بالقاذفات بل براقصات الفالس.
جان دانيال بدا رائعا حين قال، تعقيبا على اختيار فيينا مكانا للمفاوضات النووية بين ايران و الدول الـ 5+1، «قد يتناهى اليك هناك وقع اقدام القمر لا وقع اقدام التاريخ». لاحظ انه في كل مفاوضات خلاقة «يموت جزء من التاريخ».
عادة يدخل التاريخ الى ردهة المفاوضات وهو يقرع الطبول. الآن، زمن الادمغة الباردة. بعضنا لا يدرك ذلك قط. من يذهب الى المفاوضات عليه (كعربي) ان يترجل عن حصانه الخشبي. صديقنا اندريه مايكل حذرنا من البقاء على صهوة الاحصنة الخشبية...
لا مفاوضات بالاسنان، ولا بالمعلقات، ولا بالسواطير، ولا بالايدي (والوجوه) الملطخة بالدم. جون كيري الذي يتقن الفرنسية، وهذا فقط ما يتقنه كديبلوماسي، حاول ان يقلد تاليران في مؤتمر فيينا (عام 1815)، «جئنا الى هنا لنقفل ابواب الجحيم»...
سيرغي لافروف تعلم الكثير من سلفه العتيق اندريه غروميكو. كيف يدفع الاخرين الى الوراء بعينيه الباردتين، وبأفكاره التي تبدو للوهلة الاولى، كما لو انها خارج السياق. للوهلة الثانية او الثالثة، تتحول الى خارطة طريق للمفاوضين...
صديقنا رئيس التحرير شارل ايوب الذي تابعناه مع زميلنا العزيز عماد مرمل، قال ما توقفنا عنده. يعلم ان لافروف ليس كما وصفه ديفيد بولوك «مثل غروميكو قطعة من الخشب وتتكلم بلغة خشبية». اذ ينسق اوركستراليا مع فلاديمير بوتين والخبراء الاستراتيجيين الذين يتجولون على مدار الساعة داخل جدران الكرملين، بدا وكأنه ضابط الايقاع في المشهد.
لافروف قال لكيري «لن ندغدغ «داعش» مثلكم، لكننا لن نقدم لكم رأس ابي بكر البغدادي على صينية من الفضة كي تستكمل سالومي رقصة المناديل السبعة». لعلمكم ان وزير الخارجية الروسي يعشق الشعر. حفظ الكثير من ابيات ماياكوفسكي، وقال للوران فابيوس «لو قرأت لوي اراغون لادركت ان الديبلوماسية ليست ما تقوله احذية الجنرالات او قطاع الطرق، بل ما يقوله العقل واحيانا ما يقوله... القلب».
يفترض بفابيوس ان يعلم انه ليس تاليران ولا مازاران ولا ريشليو. استطرادا ليس لويس الرابع عشر. في الديبلوماسية، الغطرسة قاتلة. من اهم ما فعله لافروف في لقاء فيينا انه اقنع وزير الخارجية الفرنسي بأن الفارق بين «داعش» و«النصرة» هو الفارق بين الذئب والذئب.
بعض العرب الذين اشتروا الكثير من التاريخ الفرنسي والكثير من الثقافة الفرنسية التي لطالما توقفت، بالنسبة اليهم، عند كوكو شانيل او عند الطاحونة الحمراء، صدمهم موقف فابيوس الذي كان سفير عربي في باريس يفاخر بأنه «في يدي مثل هذه الورقة». كاد يقول ما هو اسوأ بكثير...
ببراعة لعب فلاديمير بوتين، ومعه سيرغي لافروف. باستطاعته ان يبعث بقاذفات اكثر، وبدبابات اكثر، وان يفكك خارطة «داعش»، خلال مائة يوم، ولكن لكأنه يفقد ورقته الاستراتيجية ويقول للجانب الآخر «الان، وقد بات الخليفة في قبضتنا، تعالوا نتفاوض على رأس حليفنا بشار الاسد».
الزميل شارل والزميل عماد يدركان ذلك بطبيعة الحال. لا بد ان يكونا قد علما بما كان يردده سفير عربي في بيروت «الروس يقطعون رأس البغدادي ونحن نقطف رأس الاسد»، ساخرا من الدببة القطبية التي قد تتقن اللعب داخل الثلوج، لكنها تلعب بغباء داخل النيران...
سيرغي لافروف قال لهم في فيينا من يتقن لعب الثلوج هو من يتقن لعبة النيران.
مايكل هايدن، الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية كما لوكالة الامن القومي قال «تلك المفاوضات لكي نتقهقر». القصد .. ان نغطي تقهقرنا!!