اذا كان الديبلوماسي الاميركي المخضرم (واليهودي) ريتشارد هولبروك الذي استعيد من الظل ليضطلع بمهمات دقيقة هو صاحب نظرية «الدبابة والحقيبة»، اي الموازاة والتوازي بين لغة الدبابة ولغة الحقيبة، ها ان موسكو تتفاعل مع النظرية عبر «القاذقة والحقيبة».
الثابت، ومنذ منتصف الصيف الفائت، ومع الاستنزاف المنهجي، والدراماتيكي، للجيش السوري، ان لقاءات متلاحقة عقدت بين قادة عسكريين ومسؤولين استخباراتيين، ومن دول ترعى المعارضة السورية بكل اشكالها، وبكل اجناسها، لتنفيذ خطة صاعقة تفضي الى تقويض النظام...
البديل حرب اخرى، اي تفعيل «جيش الفتح» بضباط وجنود اتراك، وايضا بضباط و جنود اردنيين، لخوض المواجهة مع تنظيم الدولة الاسلامية وتصفيته، مع ان احدى الدول العربية عرضت الاتصال به والتفاهم معه حول بنية النظام البديل...
كان واضحا للاستخبارات الروسية ان دولة تورا بورا ستقوم في سوريا، وبادارة تركية بالدرجة الاولى، فالسعودية، وبالرغم من احتياطياتها المالية الهائلة، تقود حربا سيزيفية، واستنزافية، في اليمن، وقطر لا تملك سوى المال، وشبكة العلاقات المثيرة (والهائلة) مع التنظيمات المتشددة، لكنها بعيدة جغرافيا عن سوريا، وتعتبر ان حليفتها تركيا تحل محلها في الوصاية على الدولة السورية... لا عائق يحول دون الحاق النظام اللبناني بالنظام السوري ما دامت ازالة نظام بشار الاسد تعني احداث تغيير بنيوي في قواعد اللعبة. بالتالي تفكيك «حزب الله» بالتنسيق العملاني مع حكومة بنيامين نتنياهو...
السوخوي اذ قطعت الطريق على تنفيذ الخطة التي استكملت كل تفاصيلها، وحدد بنك الاهداف بمنتهى الدقة والفاعلية، غيرّت قواعد اللعبة، ولكن في الاتجاه الاخر...
الرئيس فلاديمير بوتين يدرك ان الحل العسكري في سوريا، ومع اصرار تركيا والسعودية وقطر على مواصلة السعي لاجتثاث النظام، والى حد تهديد وزير الخارجية القطري بالحرب ضد روسيا، مستحيل ما دام التقاطع بين العقل القبلي والعقل الايديولوجي على الارض. هذا لا يعني، في اي حال، منع السوخوي من تقطيع اوصال الفصائل المعارضة وحتى تشتيتها...
الروس يقولون انهم اتوا الى سوريا ليس من اجل استكمال تدميرها، وانما لمحاولة انقاذ ما يمكن انقاذه. في هذه الحال السيناريو الديبلوماسي جنبا الى جنب مع السيناريو العسكري...
لا مجال لاختراق جدران الكرملين حين كان بشار الاسد هناك. ولكن لنتأمل جيدا في المشهد. الرئيسان الروسي والسوري كانا يتحدثان ويتحادثان بود. حليفان استراتيجيان وبما تعنيه الكلمة. هل نتجرأ ونقول ان الاسد قال لبوتين» دعني جانبا، المهم ليس انا بل سوريا التي اضعها امانة بين يديك».
ندرك جيدا كيف تفكر القيادة السورية. ثمة ثقة لا متناهية بين دمشق وموسكو. متى اخذ الروس بمعادلة الاميركيين في معادلة البيع و الشراء، خصوصا مع الاصدقاء او الحلفاء؟
اكثر من ذلك، ينقل ديبلوماسي مصري على خط التواصل مع موسكو في شأن الازمة السورية ان كيري سأل علناً في احدى اللقاءات عما يمكن ان تجنيه بلاده من الحرب في سوريا، فالحلفاء الاقليميون يقاتلون فيها ويتقاتلون حولها. اما في ما يتعلق بالرغبة الاميركية القديمة في ابرام معاهدة سلام بين دمشق واورشليم، فهذه تتكفل بها العواصم العربية المعنية اكثر من واشنطن..
ماذا يعني ان يتصل فلاديمير بوتين بالعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، وبالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وحتى بالملك الاردني عبد الله الثاني (رجب طيب اردوغان هو من اتصل به عقب زيارة الاسد)، سوى ان محادثات بعيدة من الضوء ومنسقة عقدت قبل الزيارة وتمت خلالها بلورة رؤية مبدئية حول نقطة الانطلاق باتجاه تسوية الازمة في سوريا. هذا لا يعني في حال من الاحوال التضحية العبثية بالاسد الذي يعلم الجميع انه لو لم يكن يمسك بالكثير من مفاصل الدولة لما تمكن من ان يكون في دير الزور، وان يكون في حلب، وفي اللاذقية، وفي الحسكة،وفي درعا، اي على امتداد الخريطة السورية بالرغم من الحرب الكونية، وبما تعنيه الكلمة، عليه. اي حرب داخلية تدخلت فيها كل تلك الدول واستقطبت، على ذلك النحو المبرمج، تلك الظواهر الايديولوجية البلهاء، ومن سائر اصقاع المعمورة؟
هل يكون الحل عبر الجيش كما النموذج المصري، ولكن دون ان يعني ذلك انقلابا على الرئيس؟ هيئة انتقالية من المؤسسة العسكرية باعتبار ان المعارضة، بكل فصائلها تقريبا، ترتبط ماليا وسياسيا واستخباراتيا بجهات خارجية...
الاسد سمع من بوتين: سوريا لن تكون روسية ولا اميركية، لا تركية ولا ايرانية، لا سعودية ولا قطرية، بل ستكون فقط سورية. كما الخيار العسكري شاق وطويل، الخيار الديبلوماسي شاق وطويل...
ديبلوماسيا، مرحلة اختبار لا اكثر ولا اقل!!