الرأى الشائع فى أمريكا أن الحكومة العلمانية هى سمة أساسية للديمقراطية الحديثة. ولكن هذا الرأى لا يعنى أن الحكومة العلمانية ضد الدين بل يعنى أن الحكومة ملزمة بأن تكون محايدة إزاء الدين وبالتالى ليست محكومة برجال دين أو بشريعة دينية، ومن ثم تكون ملزمة بفكر التنوير الذى يكون فيه العقل سلطان ذاته.
والرأى الشائع أيضا أن الحكومة العلمانية لاتعنى أن يكون الأفراد علمانيين، إذ هم أحرار فى أن يكونوا متدينين أو لا أدريين أو ملحدين أو بلا دين، ولكنهم جميعاً يرفضون أن تكون لهم هويةٍ دينية منصوص عليها فى الدستور، لأن الدستور، من حيث هو أبو القوانين، ملزم فقط بتنظيم الحياة الدنيا وليس الحياة الأخري. وكان توماس بين (1738-1809) وهو من مؤسسى أمريكا معبرا بدقة عن ذلك الرأى الشائع فى كتابه المعنون «عصر العقل» حيث يقول: «أنا لا أعتقد بالايمان الذى تروج له الكنيسة اليهودية أو الرومانية أو اليونانية أو التركية أو البروتستانتية أو أية كنيسة أخرى لأن عقلى هو كنيستى». بل إن أغلب المفكرين المؤسسين لأمريكا مثل فرانكلين ووشنطن و جيفرسون كانوا من المنشقين عن المؤسسة الدينية. وقد عبر عن هؤلاء جميعاً فيلسوف أمريكا جون ديوى (1859 ــ 1952) فى كتابه المعنون «ايمان مشترك» حيث يقول : «إن الهى ليس هو إله الدين التقليدي، إنما هو الإله الذى يكون على علاقة بالقوى الطبيعية بما فيها الإنسان والعلاقات الانسانية. وهو من هذه الزاوية مثال مطلوب تحقيقة». ومعنى هذه العبارة أن الله يكمن فى العلاقة الفاعلة بين ماهو مثالى و ما هو واقعي. ومن هنا قيل عن ديوى وأتباعه إنهم كانوا محقين فيما يذهبون إليه لأن النزعة الانسانية كانت فى حالة صعود إلى الحد الذى اعتبرت فيه أنها هى المستقبل.
ومع ذلك فان الدين التقليدى لم يتوار وفكر ديوى لم يقنع المحافظين المتدينين، بل إن هؤلاء قد ارتأوا أن إله ديوى هو إله الانجيل، وأن أمريكا بلد متدين، وأن المحافظين قوة سياسية مؤثرة. ولا أدل على ذلك من أن كارتر عندما رشح نفسه لرئاسة أمريكا فى عام 1976 تباهى بانه يقوم بالتدريس فى «مدارس الأحد» وأن تدينه يرمز إلى دفع هواء جديد منعش صحياً لغالبية الشعب الأمريكي. إلا أن العلمانيين لم يكترثوا بظاهرة كارتر واعتبروها سحابة صيف سرعان ما تنقشع إلا أنهم لم يكونوا على حق فى عدم الاكتراث، إذ تأسست الأصولية المسيحية على هيئة حزب اسمه«الغالبية الأخلاقية» بقيادة القس جيرى فولول فى عام 1979 و أيدت انتخاب ريجان رئيساً لأمريكا. وبعد ذلك تأسس حزب «التحالف المسيحى» بقيادة القس بات روبرتسون. وتحكم الحزبان فى الحزب الجمهورى بل فرضا على الحزب الديمقراطى أن يكون حريصاً على الدين و الايمان. وبعد ذلك أصبح الكل فى أمريكا ينادى بوضع ميزانية حربية مهولة لكى تكون تعبيراً عن موقف مسيحى موجه ضد العدو الأوحد وهو الحزب الشيوعى السوفيتي.
وكان على العلمانيين الأمريكان بعد ذلك تحديد هويتهم بدقة. وقد عبر عن هذا التحديد المفكر الأمريكى ديفيد نيوز رئيس الجمعية الأمريكية الانسانية و نائب رئيس التحالف العلمانى من أجل أمريكا وذلك فى كتابه المعنون «صعود العلمانيين الأمريكان» (2012) حيث يرى أن انتخاب جورج بوش الإبن الأصولى المسيحى قد أيقظ روح النضال من أجل تدعيم العلمانية لأنه كان لاعقلانياً، ولأنه لم يقف فقط عند حد ارضاء اليمين الأمريكى بل تجاوزه إلى حد المشاركة فى ازاحة العلمانيين من الساحة السياسية. ولم يكن ثمة مخرج لقهر اليمين الدينى سوى تكتيل العلمانيين والملحدين واللاأدريين و اليهود العلمانيين للدفاع عن القيم العلمانية. ومن هنا تحددت أبعاد المعركة الحقيقية التى لا تكمن فقط فى تأمين الحزب الديمقراطى إنما أيضاً فى أن تكون الثقافة ذاتها علمانية فتنعدم هامشيتها. والدستور الأمريكى يسهم فى تدعيم هذه الحركة، إذ هو لا يذكر شيئا عن الله أو عن المسيحية بل يذكر فى مفتتحه كلمتين «نحن الشعب». ومن هنا تأسس التحالف الطلابى العلمانى فى عام 2000 وكان له تأثير فعال فى عدة جامعات، إلا أنه قد أصيب بالقلق أثر أحداث 11/9/2001، إذ امتدت الذهنية الدينية من الارهابيين إلى القيادات العسكرية والسياسية التى كانت تحارب الارهابيين. ومن هنا أيضاً انقسمت أمريكا مع بداية القرن الحادى والعشرين الى أصوليين وعلمانيين، ومن ثم إلى رؤيتين متناقضتين وبلا وسط. رؤية كونية أصولية ترى أن الحداثة شر، والعلم ملعون، والتعددية مع التسامح خطيرة، كما ترى أن من حقها أن تكون فى الصدارة وأن تكون لها السيادة. وعلى النقيض منها رؤية كونية علمانية تدافع عن الحداثة و العلم و التعددية. بل ذهبت الحركة العلمانية إلى أبعد من ذلك إذ ارتأت ضرورة ايجاد بدائل للجماعات الأصولية
والسؤال إذن : ما هى هذه البدائل؟
قل ماشئت من أخطاء ترتكبها الذهنية الأصولية فى فهمها للأحداث التى تموج بها الحياة الدنيا إلا أمراً واحداً ليس موضع خطأ وهو تأسيس «تجمعات» يشعر فيها العضو بقيم مشتركة، وبالتالى بالانتماء. ومن هنا يكون العلمانيون ملتزمين بأن يكون لهم تجمعاتهم ولكن بشرط خلوها من ذلك المفهوم الكامن فى اللاوعى والذى يقال عنه إنه «الحقيقة المطلقة» التى تزعم المؤسسات الدينية أنها مالكة لها على حد تعبير ديفيد نيوز فى كتابه المذكور. والجدير بالتنويه أننى أصدرت كتاباً عنوانه«ملاك الحقيقة المطلقة» فى عام 1999، أى قبل تدمير الأصولية الاسلامية لمركز التجارة العالمى فى عام 2001، أى بعد صدور كتابى بعامين.