يتصف النصوصيون بأنهم دائما ينظرون إلى الأمور نظرة أحادية من ناحية النص المقدس دون النظر إلى الجوانب الأخرى للمسألة ودون النظر حتى لروح النص ومقاصده. لذلك مع كل حادث انتحار في مصر يخرج النصوصيون ليصبوا اللعنات على المنتحر ويقوموا برص أحكام فقهية ما انزل الله بها من سلطان ولكن من وضع فقهاء القرون الوسطي. أحكام فقهية انشغلت دائما بما هو مادي وأهملت كل ما هو نفسي يتعلق بإكراه الإنسان على سلوك معين.
مسألة الانتحار هي من الأمور المعقدة التي يحتار فيها الإنسان فهل هو شجاعة أم هروب؟ هل هو انتحار فعلا أي أن إنسان تخلى عن حياته حرا مختارا أم أن المجتمع من حوله دفعه دفعا نحو الانتحار فيصبح اقرب إلى القتل منه إلى الانتحار؟
في مجتمعنا المصري نجد أن كل الأمور تدفع الشخص للانتحار خاصة إذا كان من أصحاب العقول المفكرة وأصحاب المواهب والإبداع والمهارات العالية، وليس من القطعان المستأنسة التي لا تفكر ولا تعمل عقلها وطالما حصلت على ما يملأ أمعائها فلا مشكلة والدنيا ربيع والجو بديع. فنحن نعيش في مجتمع يمارس الديكتاتورية بكل أنواعها ويجعل الإنسان لا يستطيع ممارسة حياته وفقا لأفكاره ومعتقداته ولكن وفقا لأفكار ومعتقدات المجتمع والتي حولتها الدولة إلى قوانين تعاقب بها كل من خالف المجتمع المستبد.
فالإنسان في مجتمعنا المصري لا يستطيع أن يعتنق أي عقيدة باستثناء ما يرضى عنها المجتمع، ولا يستطيع أن يكون له فكر إلا ما يوافق فكر المجتمع، ولا يستطيع أن يتزوج “خاصة إذا كانت فتاة” إلا من ترضى عنه الأسرة، ولا يستطيع أن يلبس إلا ما يوافق عليه المجتمع، ولا أن يتصرف إلا وفقا لرؤية المجتمع للصواب والخطأ، ولا يستطيع أن يبدع في أي مجال إلا وفقا لرؤية المجتمع للإبداع، ولا يستطيع أن يدرس إلا ما تحدده له الدول، بل لا يستطيع أن يتبع آراء فقهية داخل نفس الدين إلا تلك التي يتبعها المجتمع. ببساطة نحن نعاني من الاستبداد الاجتماعي والسياسي والديني والثقافي والفني.
فكيف يمكن لإنسان يعاني من كل هذا الاستبداد والكبت والقهر أن يستمر في الحياة؟ سيقول قائل ولكن هناك ملايين تخضع لهذا القهر والاستبداد ولم تنتحر، أقول وهل كل الناس مثل بعضها؟
هل يستطيع كل إنسان أن يعيش في سجن كبير يحاصر كل تفصيلة من تفاصيل حياته؟
نعم لم ينتحر ملايين المصريين ولكن ألا يلتفت احد إلى حجم التشوهات النفسية التي تعاني منها الشخصية المصرية في السنوات الأخيرة؟ وحجم السلوكيات التي تعبر عن تشوهات نفسية في كل قطاعات المجتمع؟
الإحصاءات تتحدث عن 13 مليون مريض نفسي بنسبة 17% من السكان، ولكن هذا رقم يتعلق بمن ذهبوا للطبيب أو لمستشفى نفسي، فما عدد من لم يذهبوا لأنهم يعتقدون أن المرض النفسي يساوي الجنون فقط؟
ألا يلاحظ أحد حجم العنف المتزايد في المجتمع؟ ألا يلاحظ أحد ظهور جرائم جديدة تتعلق باغتصاب أباء لبناتهن، والاعتداء على الحيوانات بشكل دموي، وقتل وسحل وتعذيب المختلفين دينيا أو جنسيا في الشارع وعلى مرأى ومسمع من الجميع بما في ذلك الشرطة؟
صحيح الملايين لا تنتحر ولكنها اصبحت مريضة نفسياً..
هذا مجتمع لا يمكن الحديث فيه عن منتحر ولكن عن مقتول بيد المجتمع. المنتحر هو هذا المنتحر الأوروبي الذي أصيب بالضجر من الحياة الرتيبة المملة أو الوحدة وهي أمور يستطيع أن يعالجها ويغيرها ولا يد للمجتمع فيها ولكنه يختار مغادرة الحياة، أما المجتمع الذي يدفع الإنسان نحو الجنون أو الموت فهو مجتمع قاتل والإنسان فيه ضحية وليس منتحر.
فلا تحاكموا المنتحر أو المنتحرة ولكن حاكموا المجتمع القاتل.