العرف الشائع في عقد الندوات والمؤتمرات أن تكون البحوث المكتوبة هى محور الحوار، ومع ذلك فقد يحدث على ما هو الضد من هذا العرف وهو أن يدور الحوار بلا أبحاث ومن غير تسجيل حتي يكون من الصعب اسناد رأي إلي محاور معين فتسود الصراحة وتمتنع المسئولية
ومن ثم تكون الغاية من الحوار الكشف عن اتجاه عام يكون موضع اهتمام من السلطة السياسية في صياغة استراتيجيتها بعد اصدار تقرير عام من اللجنة المنظمة للندوة أو للمؤتمر. وقد دعيت الي شيء من هذا القبيل في فبراير 1992 من قبل تشاثام هاوس والاذاعة البريطانية معا وبرعاية المعهد الملكي للشئون الدولية ببريطانيا. وكان موضوع الندوة والمجتمع الأوروبي والعالم العربي: البعد الثقافي. والغاية منها وضع برنامج شرق أوسطي للعلاقات الأوروعربية.
والسؤال اذن :
ماذا كانت مكونات ذلك البرنامج؟
ونجيب بسؤال:
هل انتهت الندوة الي وضع برنامج حتي نثير سؤالا عن مكوناته؟
أظن أن العبارة الأولي في التقرير تشكك فى إمكان وضع برنامج. والعبارة لمفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده كان قد قالها لصديقه المؤرخ البريطاني ولفريد بلنت لبعثها الي أولي الأمر من البريطانيين بعد عامين من الاحتلال البريطاني في عام 1882، وجاءت علي النحو الآتي:سلا تحاولوا أن تصنعوا خيرا لنا أكثر مما صنعتموه لأن خيركم قد أصابنا بضرر أكثرس. ومغزي العبارة أن الشعوب العربية والاسلامية ترفض التدخل الأوروبي في شئونها، وهي عبارة يصلح ترديدها إزاء الغزو الأمريكي البريطاني في عام 1991،إذ كان من شأن هذا الغزو استدعاء العرب للتراث التعس للعلاقات الأوروعربية حيث يري العرب أن الأوروبيين استعماريون، ويري الأوروبيون أن العرب متعصبون. وكل من الرؤيتين تكشف عن صراع رؤي أو بمعنى أدق صراع بين رؤية الضعيف و رؤية القوي. الضعيف يرفض ألاعيب القوي والقوي يرفض سوء مسلك الضعيف. ومغزي هذا الرفض المتبادل أن الصراع يمكن أن يتواري إذا تواضع القوي ووثق الضعيف في ذاته. وهنا قيل من باب السخرية أنه إذا حدث ذلك وتواري الصراع فان التنوع الثقافي يتواري وهو أمر غير مطلوب. وهنا قيل أيضاً من باب السخرية أنك إذا أردت الحفاظ علي التنوع الثقافي فعليك بالحفاظ علي الصراع.
وفي إطار هذه السخرية أثير السؤال الآتي : هل في الإمكان العثور علي مثقفين لدي الطرفين المتصارعين لديهم القدرة علي الكشف عن قيم مشتركة علي الرغم من التنوع الثقافي؟
وإذا جاء الجواب بالسلب فماذا تكون النتيجة؟
عداء متبادل ومتسم باللاعقلانية. وتاريخ العلاقات بين الطرفين يدلل علي صحة هذا العداء اللاعقلاني. وفي العصور الوسطي تحكمت الكنيسة في العالم العلماني، إلا أن هذا التحكم تواري بغير رجعة مع بزوغ عصر الاصلاح الديني مع العلمانية في القرن السادس عشر، والتحرر من حاكمية الله في القرن السابع عشر بفضل نظرية العقد الاجتماعى، والإعلاء من سلطان العقل في القرن الثامن عشر بفضل التنوير، وثورة في علم اللاهوت في الستينيات من القرن العشرين بفضل بزوغ اللاهوت العلماني. ومن ثم أصبح الايمان مسألة خاصة والمسئولية الاجتماعية مسألة عامة. أما فى العالم الاسلامى فقد امتنع الفقهاء عن إحداث الثورة المطلوبة على نحو ما حدث فى العالم المسيحى.
وقد يقال رداً على هذا القول بأن المعتزلة أدت دورا فى ادخال العقلانية اليونانية . والرأى عندى أن عقلانية المعتزلة كانت مصحوبة بالتكفير، وبسبب ذلك تفرقت إلى عشرين فرقة وكل فرقة كفرت الأخرى وهو أمر لا يستقيم مع العقلانية التى تشترط عقلاً بلا حقيقة مطلقة، إذ توهم امتلاك حقيقة مطلقة ممهد بالضرورة لتكفير منْ لا يملاكها. و قد يقال إن عقلانية المعتزلة المشوهة مردودة إلى أن العرب المسلمين كانوا محاصرين بفعل قوى استعمارية معادية الأمر الذى من شأنه أن يدفعهم إلى الارتماء فى وهم امتلاك الحقيقة المطلقة حتى يشعروا بالأمن .
ولكن حاصل الأمر لم يكن كذلك لأن الاستعمار توارى ومع ذلك فإن التكفير مازال متواصلاً. مسألة التكفير إذن ظاهرة داخلية وليس لها أسباب خارجية، ولكونها داخلية فهى مردودة بالضرورة إلى تخلف البنية الذهنية.
وتأسيسا على ذلك يمكن القول بأن مستقبل العرب مظلم ما لم يحدث تغيير جذرى فى البنية الذهنية، وهو تغيير لن يكون ممكنا إلا بنخبة ملتزمة بسلطان عقل متحرر من أى سلطان ماعدا سلطان العقل. إلا أن النخبة قد تجاهلت هذا النوع من الالتزام وانشغلت بمحاربة الأعداء. وكانت النتيجة أن قيل عن الدولة التى تريد النخبة تحريرها من الاستعمار انها دولة فاشلة ومع التعميم يقال دول عربية فاشلة. ومن هنا كان غزو العراق للكويت فى عام 1990 ممهداً لتفكك هذه الدول. وعندما جاء عام 1991 كانت دول الخليج قابلة للتدخل العسكرى الأمريكى البريطانى.
والرأى عندى أن الرئيس صدام حسين كان من أهم الأسباب فى افراز هذه القابلية وهو رأى استند فيه إلى معلومة بحكم اقترابى من نظامه فى ذلك الوقت وكانت موضع اهتمام من هيئة الإذاعة البريطانية وهى على النحو الآتى: ثمة نصيحة من مشيل عفلق المستشار السياسى لصدام حسين بأن عليه ذ بحكم كراهية حزب البعث المطلقة للغرب ذ الاستيلاء على بترول الخليج للإفادة من دخله فى تقوية الجيش العراقى العربى لمحاربة الغرب و القضاء عليه وعندئذ تصبح الحضارة العربية الاسلامية هى الحضارة الإنسانية، وقد كان، إذ غزا صدام حسين الكويت وكان فى طريقه إلى السعودية وما بعدها. ومن هنا قرر الغرب القضاء عليه، وقد كان. ومن هنا تصاعد التنافر بين العرب والغرب وتوارى التعايش، وظل السؤال قائماً: تنافر أم تعايش؟