يترحم الكثيرين على القذافي وصدام حسين ويدعم الكثيرين بشار الأسد في معركته مع جماعات الإسلام السياسي في سوريا. وينطلق كل هؤلاء مما يرونه الآن في ليبيا والعراق وسوريا من خراب ودمار وقتل ناتج عن الحرب الأهلية المشتعلة بين أبناء هذه الدول. وهى رؤية تعبر عن السطحية وعدم التعمق في جذور المشكلة، وقد تكون مقبولة من البسطاء الجالسين على المقاهي يدخنون الشيشة، إلا أن المأساة تظهر عندما يردد بعض المثقفين والإعلاميين هذا الكلام، مرددين ولا يوم من أيام صدام أو القذافي أو الأسد.
ئفية مثل العراق وسوريا، سنة مقابل شيعة أو سنة مقابل علويين، وأسس عرقية، عرب مقابل أكراد، أو أسس قبلية مثل الحالة الليبية. وهذا يعنى ببساطة أن هذه الدول لم يتم التأسيس فيها للدولة القومية أو الدولة-الأمة.
فقد ظلت هذه الدول تعيش في القرون الوسطي حيث الولاء ليس للوطن أو الأمة ولكن للقبيلة والطائفة والدين، فإذا تعارضت مصلحة الدولة مع مصلحة القبيلة أو الطائفة أو العرق قدمت هذه المجموعات السكانية مصالحها الخاصة على مصلحة الدولة، فتكون على استعداد لتفجير الدولة حفاظا على مصالح القبيلة أو الدين.
ففي غياب الدولة القومية لن يكون “الأخر” هم سكان الدول الأخرى في مقابل “نحن” سكان هذه الأرض، بل سيكون “الأخر” جار السكن أو زميل العمل الذي لا ينتمي لقبيلتي أو طائفتي أو عرقي أو ديني، وسيكون “نحن” أبناء القبيلة أو الطائفة أو الدين أو العرق وإن عاشوا على بعد مئات الأميال مني، فيصبح الولاء للبعيد المكاني وليس للقريب الذي يسكن معي نفس الإقليم، وبالتالي يصبح الصدام بين “نحن” و “هم” سهل ويسير داخل الدولة الواحدة، وتصبح الحرب الأهلية والتقسيم أمر حتمي.
وهنا يأتي السؤال لماذا لم يقم حكام العراق وليبيا وسوريا بتأسيس الدولة القومية التي يكون الولاء والانتماء فيها للوطن وليس للقبيلة أو الطائفة أو الدين أو المجموعة العرقية؟
الإجابة من وجهة نظري تكمن في رغبة هؤلاء الحكام في الاستبداد والسيطرة على البلاد لصالح عائلاتهم، فيستمرون في الحكم حتى الوفاة لتورث بعد ذلك لأبنائهم والمجموعات المحيطة بهم، الذين يتم شراء ولائهم بالمال عن طريق تركهم ينهبون خيرات البلاد بدون رقيب ولا حسيب. فمن ناحية يحصل هؤلاء الفاسدين على الأموال التي تضمن ولائهم للحاكم، وفي نفس وقت يصبح لدى النظام الحاكم ملفات الفساد التي تساعده على التخلص من أي منهم في حالة قرر الانقلاب عليه. ولذلك الاستبداد والفساد حليفان استراتيجيان لا يستغنى أحدهم عن الأخر.
فالمستبد لا يريد شعب متجانس له وعي جمعي يحركه لما فيه مصلحة الوطن، ولكن يريد شعب مفكك متناحر يعادي بعضه بعض، لا يستطيع أن يبنى تحالفات ضده فيطيح به وبنظامه من كرسي الحكم. إلا أن من الممكن أن تتوحد كل هذه المكونات ضد الطاغية الذي يقمع الجميع في مرحلة ما من فترة حكمه، فالمستبد يقرب منه مجموعة ويبعد أخرى ثم يغير الأدوار، معتقدا انه يبقى الشعب بين الرغبة في الاقتراب وتحقيق المصالح والرهبة من الإبعاد والتعرض للبطش وفقدان المصالح، حتى يدرك لعبة الطاغية لتبدأ الثورة.
ولكن بعد الإطاحة بالطاغية ينتفي السبب الذي توحدت عليه مكونات الشعب فتعود الخلافات العرقية والمذهبية والدينية والعرقية للظهور على السطح مرة أخرى لتبدأ في التناحر والتقاتل فيما بينها، فكل مجموعة تسعى لتعظيم أرباحها والحصول على أكبر جزء ممكن من كعكة الوطن.
ويزيد الأمر سوء غياب ثقافة الديمقراطية والحوار بين هذه المجموعات المكونة للشعب. فهذه شعوب قد عاشت عقود طويلة في ظل ديكتاتوريات تخاف الديمقراطية فلم تؤهل شعوبها لها ولم تنشر ثقافة الديمقراطية فيها بل على العكس كرست لثقافة الاستقطاب والتناحر والعنف ليظل الديكتاتور هو المسيطر على الأمور وحامل ميزان الدولة، حتى إذا تهدده أي خطر رفع شعار “أنا أو الفوضى”.
لا تترحموا على الطغاة بل إلعنوهم فهم بذرة الشر في كل وطن.