ترددت كثيرا قبل أن أقرر الكتابة في موضوع أشرف مروان، الذي استحوذ علي اهتمام وسائل الإعلام في الفترة الأخيرة، خاصة بعد العثور علي جثته في حديقة عمارة كان يقيم بها في لندن منذ سنوات.
أسباب التردد كثيرة، ربما كان أهمها، عدم وجود معرفة شخصية سابقة يمكن أن تضيف جديدا إلي ما نطالعه صباح مساء في العديد من وسائل الإعلام المصرية والعربية والعالمية عن الملابسات التي أحاطت بالرحيل الغامض لهذا الرجل اللغز. وإذا لم تخني الذاكرة فإنني أعتقد أن المرة الوحيدة التي قابلت فيها أشرف مروان كانت في منزل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بمناسبة قيامي بتأدية واجب العزاء في وفاة المغفور لها والدة الزميلة والصديقة العزيزة الدكتورة هدي عبد الناصر. ولأن انطباعاتي عن هذا الرجل لم تكن إيجابية، نظرا لارتباط اسمه بقضايا التجارة والمال وصفقات السلاح، في وقت كان عبد الناصر يتعرض فيه لأعتي حملات التجريح الشخصي، فقد حاولت دائما تجنب الحديث عنه أو طرح أي أسئلة عن ماضيه وأنشطته، تفاديا لأي حساسيات. لذلك لم يبدأ اهتمامي بتلك الشخصية المثيرة إلا منذ حوالي أربع سنوات، حين فجر إيلي زعيرا، رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلي، قنبلته التي ادعي فيها أن أشرف مروان عمل جاسوسا لحساب إسرائيل وقدم لها ـ بصفته هذه ـ معلومات بالغة الأهمية، كان أخطرها كشفه موعد اندلاع حرب أكتوبر، وذلك مقابل حصوله علي أموال تراوح مجموعها بين ٣ و٦ ملايين دولار. والواقع أنه كان يمكن لتلك القضية أن تدرك كحلقة في مسلسل الحرب النفسية القائمة بين جهازي المخابرات المصرية والإسرائيلية, خصوصا منذ الكشف عن حكاية رأفت الهجان التي كانت قد تحولت إلي دراما تليفزيونية مثيرة، تابعها ملايين المشاهدين العرب وكان لها تأثير واضح في رفع المعنويات وضرب السمعة الأسطورية لجهاز الموساد، غير أن رحيل أشرف مروان المفاجئ والغامض، من ناحية، والذي ترجح معظم التوقعات أنه مات مقتولا، وصمت الأجهزة الرسمية المصرية المطبق طوال أربع سنوات، من ناحية أخري، أثارا سيلا من التعليقات والتحليلات التي وصلني العديد منها علي بريدي الإلكتروني والذي لايزال يتدفق علي مختلف وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة. ومن المؤكد أن بعض هذه التحليلات يمس صميم الأمن القومي المصري. لقد لاحظ المراقبون أن عددا من كبار المسؤولين في الدولة حرصوا علي الذهاب إلي المطار بأنفسهم لاستقبال الجثمان وشاركوا في مراسم تشييع الجنازة، واعتبروا ذلك إشارة ضمنية، تعني نفيا رسميا من جانب الدولة المصرية للرواية الإسرائيلية، كما لاحظ هؤلاء المراقبون أيضا تصريحات الرئيس مبارك للصحفيين أثناء عودته من القمة الإفريقية، التي جاءت متأخرة كثيرا، والتي أكدت بشكل مباشر لا لبس فيه أن الدولة المصرية تعترف بدور أشرف مروان، وتعتبره وطنيا كبيرا أدي لها خدمات جليلة. ومع ذلك فلا يزال الغموض يلف جوانب كثيرة من هذه القضية. وربما يفسر هذا الغموض لماذا تتعمد أجنحة النخب المختلفة في العالم العربي، أن تتخذ من هذه القضية وسيلة لخلط الأوراق علي نحو متعمد، بصرف النظر عن حساسيتها البالغة وتأثيراتها المحتملة علي أمن مصر الوطني الذي هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي. فالمعارضون لعبد الناصر ركزوا في تعليقاتهم علي البعد الخاص بروابط المصاهرة، للتشكيك في قدرات عبد الناصر وسوء اختياراته كمدخل لتشويه النظام برمته.. والمعارضون للسادات حمّلوه المسؤولية بالكامل، لأن أشرف مروان لم يشغل أي مناصب حساسة أو يعرف الثراء إلا في عهده، وربطته به علاقات خاصة ومشبوهة.. والمعارضون لمبارك لا يعفونه بدوره من المسؤولية ويرمونه بالتستر علي أشرف مروان، للتغطية علي علاقة شخصية ومصلحية، ربطتاه بابنه جمال أثناء فترة إقامة الأخير في لندن، غير أنني لا أري في هذه الادعاءات سوي محاولة لتشويه تاريخنا كله وتلطيخ جميع زعمائنا.. وهو أمر نرفضه رفضا قاطعا وندينه. ولأن القضية تبدو لنا، مع ذلك، علي جانب كبير جدا من الأهمية والخطورة، فهي تتطلب، من وجهة نظرنا، ضرورة التعامل مع أبعادها المختلفة بأقصي قدر من الشفافية والبعد عن المجاملة، حتي يمكن استجلاء جميع جوانبها، خاصة ما يمس منها أمن مصر الوطني. وفي تقديرنا أن لهذه القضية أبعاد ثلاثة لا يجوز الخلط بينها، الأول: يتعلق بالتركيبتين النفسية والذهنية لشخصية أشرف مروان، والثاني: يتعلق بنشاطه المالي والتجاري ومصادر ثروته ومشروعيتها، والثالث: يتعلق بعلاقته بإسرائيل والملابسات التي أحاطت بمصرعه. وفيما يتعلق بالبعد الأول للقضية، يمكنني القول إنني وصلت من مجمل ما قرأت إلي نتيجة مفادها، أن أشرف مروان جمع بين الذكاء والطموح، وأن ارتباطه بكريمة عبد الناصر لم يكن سوي وسيلة وباب لفتح الطريق أمام طموح، كانت الغاية فيه تبرر الوسيلة دائما. وهناك رواية، أشار إليها أحد الباحثين الجادين ـ وهو بالمناسبة قومي وناصري حتي النخاع ـ تقول إن أشرف لم يتردد في اللجوء إلي السيدة سعاد الصباح طلبا للمال أثناء دراسته الدكتوراة في لندن وأن الرئيس عبد الناصر استدعاه إلي مصر فور علمه بهذه الواقعة التي استغل فيها اسمه، وغضب منه لدرجة تهديده بطلاق ابنته منه لولا تمسك الأخيرة بزوجها ودفاعها المستميت عنه. ولهذه الواقعة ـ إن صحت ـ دلالة خطيرة تشير إلي أن أشرف مروان لم يكن، علي ما يبدو، يهتم كثيرا بمراعاة العديد من الحساسيات والنواحي الأخلاقية والمعنوية في تعاملاته الشخصية. وفيما يتعلق بالبعد الثاني، يبدو واضحا لأول وهلة ودونما حاجة إلي فحص محاسبي مدقق، أن سوء استغلال العلاقات التي أتاحتها المناصب الرسمية التي شغلها أشرف مروان في عهد الرئيس السادات، كانت هي المصدر الرئيسي، وبصرف النظر عن أي علاقة ربما تكون قد ربطته بجهاز المخابرات الإسرائيلي، للثروة الكبيرة التي كونها. وإذا صح هذا الاستنتاج، يصبح معظم الثروة التي كونها أشرف مروان محل تساؤل، وموجبة للمساءلة، ويحق للدولة العمل علي استردادها بكل الوسائل المتاحة، إذا ما تبين أنها نجمت عن أنشطة غير مشروعة. من المعروف أن أشرف مروان كان هو حلقة الاتصال الرئيسية بين الرئيس السادات والأجهزة الليبية، من ناحية، وبينه وبين الأجهزة السعودية، من ناحية أخري، وأن علاقة حميمة ربطته بالسيد كمال أدهم. وأخيرا ففيما يتعلق بالبعد الثالث، والذي يهمنا هنا في المقام الأول، تراودني شكوك كثيرة في أن يكون أشرف مروان قد عمل جاسوسا لصالح إسرائيل. أما أسبابي في ذلك فهي كثيرة، منها: ١ـ أن الذي كشف النقاب عن عمله كجاسوس يعمل لحساب إسرائيل مقابل أجر، مصادر إسرائيلية، وهو أمر يثير الريبة. فمن المستحيل أن تكشف مصادر إسرائيلية عن جاسوس تعتقد أنه أسدي لإسرائيل خدمات جليلة. ٢ـ أن هذا الكشف تم في سياق صراع مكشوف بين أجنحة متصارعة لأجهزة مخابرات إسرائيلية خاصة بين إيلي زعيرا، رئيس المخابرات العسكرية، وتسيفي زامير، رئيس الموساد، أثناء حرب أكتوبر. ٣ـ إذا صح الافتراض القائل بأن أشرف مروان لعب دور «العميل المزدوج»، فالأرجح أن يكون هذا الدور قد تم لحساب المخابرات المصرية وحدها وليس لحساب المخابرات الإسرائيلية، نظرا لمنافاة هذا الاحتمال مع أي منطق. والأرجح أن تكون إسرائيل قد قصدت من هذا التسريب المتعمد، ضرب عدة عصافير بحجر واحد لتشويه النظام المصري بكل رموزه وامتداداته، خاصة الحقبة الناصرية، ودفع المخابرات المصرية للكشف عن بعض أوراقها أو أساليب عملها. غير أن استبعادي لقيام أشرف مروان بالتجسس لحساب إسرائيل، لا يجيب عن أسئلة كثيرة لاتزال حائرة، خاصة ما يتعلق منها بملابسات موته. فهناك احتمال بأن تكون إسرائيل هي التي قامت بتصفيته بعد أن تبين لها أنه خدعها، لكن هذا الاحتمال يلقي في الوقت نفسه بالمسؤولية علي عاتق الأجهزة المصرية ويظهرها بمظهر العاجز عن حماية واحد من أهم رجالها. أما إذا كانت عصابات المافيا وتجار السلاح هي التي اغتالت أشرف مروان، فهذا ينطوي، في حد ذاته، علي إدانة لواحد من كبار رموز السياسية المصرية، والذي سيبدو في هذه الحالة وكأنه أحد أفراد هذه العصابات. وما لم يتم الكشف بكل الوضوح والدقة عن الجهة التي اغتالت أشرف مروان وأسباب ودوافع هذا الاغتيال، فسيغري ذلك جهات معادية، بأن أجهزة المخابرات المصرية هي التي دبرت الحادث حين تبين لها أنها خٌدعت، ولتدفن مع جثة أشرف مروان حقائق لا تريد الكشف عنها. لذلك نتمني أن تتمكن الأجهزة المعنية في مصر من تقديم رواية مقنعة لما جري.