>• أكثر تجريداً ووصولاً إلى إحساس النفوس منها من كل فن ونحت ولغات.
«الموسيقى يمكن أن تغيّر العالم، لأنها يمكن أن تغيّر الناس». (بونو)
إذا أردت أن تنظر الى حضارة مجتمع، فانظر إلى فنونها وموسيقاها، فالموسيقى ما وجدت إلا لتهذّب البشر وتنقلهم من عوالم الجمود والتخشّب والغلظة إلى عوالم الليونة والسهولة والرحمة، وقلما وجد إنسان يسمع الموسيقى، ولا يتأثر ولا يحلم ولا يحلق في سماوات رحبة وجنات خصبة. وحسبك أن تجد أن مقررات الفنون والموسيقى لا تحظى بأهمية بالغة في التعليم، فالمقررات التي تهتم بالتربية الفنية والموسيقية أشبه ما تكون معدومة وغير أساسية في مناهجنا التعليمية، على ما لأثرها العميق في تهذيب النفوس وترقيق الطباع وبث روح التسامح والإبداع بين البشر أجمعين.
فالموسيقى هي اللغة الوحيدة التي تعبّر تعبيراً فائقاً يعبُر كل القارات، ويخترق كل المسافات والدول والثقافات. فكلما ازدادت المعاني، ضاقت الرموز والمباني، فاللغة مهما اتسعت معانيها وتنوعت جذورها ومبانيها، فإنها لا تفي بالغرض المنشود ولا توصلك إلى المعنى المقصود في التعبير عما يختلج في نفسك. لذلك، يلجأ الناس إلى رموز أخرى للتعبير عما يختلج صدورهم، وتكن به قلوبهم، كالنحت والرسم والموسيقى، ولكن السؤال: لماذا نحب الموسيقى ونطرب لها وترتعد لها فرائصنا ومشاعرنا؟!
لو حللنا الموسيقى، لوجدناها عبارة عن وزن وإيقاع وانسجام.
فالإنسان بطبعه يحب أن يعيد لنفسه الانسجام والاتزان من صخب الحياة المملة المبعثرة بسماعه الشعر والفن والإيقاع، فهي كأنها تعيد ترتيب الفوضى في النفس إلى انسجام وألفة وتوادّ.
والكون كله يسير على رتابة واتزان، لأن الموسيقى تخاطب الجانب الروحي في الإنسان، والروح في عالم الإطلاق لا تحب التقييد المودع لها في عالم الجسد، فهي لغة أرواح لا لغة أجساد. لذلك، قيل «الموسيقى غذاء الروح»، فهي مشرب الأرواح وغذاؤها، ومرتع الأفلاك وفناؤها. لذلك، تجدها في الوجود من تغريد العصافير وهدير الينابيع كلها، تعلن لنا وتنشد لنا أروع الألحان وأعذبها.
فهي تسبّ.ح وتنشد وتغرّ.د للخالق، ولكننا لا نفقه تسبيحها، فكل شيء يذكرنا به ويطربنا فهو موسيقى من حيث لا تشعرون ولا تدرون، فالضوضاء والنشاز وعدم الاتساق تدعو إلى الإزعاج والتنفير، والتناسق والتناسب والترتيب تدعو إلى الفرح والتيسير، فالموسيقى أكثر تجريداً ووصولاً إلى إحساس النفوس منها من كل فن ونحت ولغات، فهي لغة الأرواح ومجمع اتصال البشرية السمحاء، فهي لحن خلود النفوس إلى الخالق ووحدة مشاعرنا إلى كل مختلف ومفارق.
فمن يُر.د زراعة التسامح والتوادّ بين المجتمعات المختلفة، فعليه بالموسيقى.