تاريخ الإنسان هو تاريخ التحرر من قيود الطبيعة أو من الأوهام والخرافات أو من قيود النظم الاجتماعية والسياسية السائدة. فعندما ظهر الإنسان الأول، كان شأنه شأن كافة الكائنات الأخرى في خضوعه المطلق للبيئة المحيطة به. فهو يأكل بما تجود به الطبيعة عليه ويسكن الكهوف والمغارات، ولا تكاد تكون له قوة ولا حول. وبالتدريج استطاع الإنسان أن يتلاءم مع هذه البيئة وأن يطورها، حتى اكتشف الزراعة وبدأ الاستقرار وظهرت الحضارات الكبرى. وجاء ت الثورة الصناعية تتويجاً لسيطرة الإنسان على البيئة المحيطة. وها هو يزداد تحرراً يوماً بعد يوم من أعباء البيئة، فلم يعد يحول بينه وبين العيش في أي مكان برد قارص أو حر قارظ، وهو يجوب اليابسة بمركباته كما يمخر البحر بسفنه ويحلق في السماء بطائراته. فسيطرة الإنسان على الطبيعة تزداد يوماً بعد يوم، ومن ثم يزداد حرية وانطلاقا.
ولكن الإنسان في خضوعه للبيئة وعدم قدرته على سبر أغوار الطبيعة المحيطة وجد نفسه مدفوعاً إلى قبول الخرافات والخزعبلات والسحر والشعوذة. فإذا لم يفهم لماذا ينزل المطر أو لماذا تعصف به العواصف والأعاصير أو يهلكه وباء، فلا بد أن وراء ذلك انتقام من الآلهة أو لعلها الأرواح الشريرة. ولم يلبث أن ظهرت طبقة من رجال الدين والسحرة والقارئين للغيب لإشباع فضول الإنسان عن المستقبل والغيب ورغبته في معرفة ما وراء الطبيعة. ومع زيادة تجارب الإنسان واستمرار ملاحظته للظواهر الطبيعية بدأ يتكون لديه نوع من العلم التقريبي والتجريبي الذي لم يلبث أن أدى إلى ظهور العلوم والفنون، وتراجع بالتالي دور الأوهام والخرافات، وأصبحت معرفة الإنسان مستمدة من التجربة والملاحظة والاستخلاص المنطقي. وهكذا بدأ يحل التفكير العلمي محل العقل البدائي الخرافي، وتحرر الإنسان إلى حد كبير من أوهام وخرافات الماضي. ولم يتوقف دور التقدم العلمي على تحرير عقل الإنسان من الخرافات والخزعبلات، بل أن هذه المعرفة العملية ساعدته أيضاً على زيادة سيطرته على الطبيعة، وخاصة بعد الثورتين “الزراعية والصناعية”، اللتين نجحتا في زيادة معارفه التجريبية في ميدان الزراعة والصناعة.
ولكن القيود والأعباء التي تحد من حرية الإنسان لا تأتي فقط من الطبيعة أو من الأوهام والعقائد وحدها، بل أن أشد أعداء الحرية للإنسان هو الإنسان نفسه من أخوته وجيرانه وأهل عشيرته. فأكثر ما يعانيه الإنسان في ممارسته لحرياته وحقوقه إنما يأتي من المجتمع الذي يعيش فيه. ولذلك فإن أخطر مظاهر الاعتداء على الحريات إنما هي وليدة النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة.
الحرية هي في جوهرها قضية مجتمعية وسياسية بالدرجة الأولى. وإذا كان هناك اتفاق حول ضرورة احترام الحقوق الشخصية للإنسان، فإن بعض الجدل قد ثار بمناسبة الحقوق السياسية والاقتصادية. وقد خطا الإنسان خطوات كبيرة في هذا المجال، وكان القرن العشرون ميدان سجال ساخن. فالجدل الأساسي الذي ساد معظم القرن العشرين هو هل تكفي الحريات الفردية والسياسية التي تدعو لها النظم الليبرالية، وهل يكفي أن يكون جميع الأفراد متساويين أمام القانون ويشاركون في اختيار حكامهم ومساءلتهم، أم أن كل هذا حديث “نظري” يغفل الحقيقة الأساسية وهي أن حرية الإنسان تتوقف على ما يتمتع به من حقوق ومزايا اقتصادية “فعلية”. فما لم يتحقق العدل ونوع من المساواة في المزايا الاقتصادية، فإن حديث الحريات النظرية سيظل شعاراً بلا مضمون. وهكذا دخلت قضية “العدالة” وحدود الملكية وتوزيع الثروة والدخول إلى صلب قضية الحرية. وأخيراً وقبل انقضاء القرن تماماً ظهر هاجس جديد يطل على الحرية هو هاجس “الأمن” والاستقرار.
والحديث عن الحريات الفردية والسياسية حديث قديم ترجع جذوره إلى فلاسفة الإغريق، ولكن هذا الحديث ارتفعت نبرته من جديد مع فلاسفة عصر التنوير، واشتهرت أسماء ثلاثة تحدثوا بشكل أو آخر عن حقوق الأفراد الطبيعية ونوع من العقد الاجتماعي بينهم وبين الحاكم، وهؤلاء هم هوبز ولوك ورسو. وإذا كان الثلاثة ينطلقون من نقطة الاعتراف بحقوق طبيعية للفرد، فإن هوبز انتهى إلى تأييد “الملكية المطلقة”، في حين دافع لوك عن الملكية الدستورية. وأما روسو فإنه لم ير أن العقد الاجتماعي يبرم بين الأفراد والحاكم، ولكنه يتم فيما بين أفراد الجماعة مما يؤدي إلى ظهور “الإرادة العامة” للأمة والتي تصبح مصدر السلطات. وإذا كان روسو قد أرسى مبدأ “الأمة مصدر السلطات” وبالتالي دعا إلى الأخذ بالنظم الديمقراطية في اختيار الحكام ومسائلتهم، فإنه ساعد أيضاً على إمكانية”طغيان الأغلبية “باسم الإرادة العامة وذلك على حساب “الأقلية”. ومن هنا كان لوك هو الأقرب إلى روح العصر الحديث بالتوفيق بين اختيار الحكام بموافقة الشعب وضرورة احترام الحقوق الأساسية والطبيعية للأفراد. وإلى جانب هؤلاء المفكرين الذين ارتبط مفهوم العقد الاجتماعي باسمهم، فقد ساهم في الدعوة إلى الحريات مونتسكيو وفولتير وهيوم وآدم سميث. وفي كل هذا لم تقتصر الدعوة للحقوق والحريات على الحريات الشخصية مثل حق الحياة والحق في التعبير والاعتقاد والاجتماع والتنقل .. الخ، بل نظر إلى “الملكية الخاصة” باعتبارها حقاً فردياً مقدساً ومكملاً للحريات والحقوق الطبيعية.
وقد شاهد القرن التاسع عشر ازدهار النظم الديمقراطية ليس فقط في إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة بل سار ورائها العديد من الدول الأوربية فضلاً عن تطلع معظم شعوب العالم لمثل هذه الدعوة. فالحرية والديمقراطية كان الشعار المرفوع طوال هذا القرن.
وعاصر هذه التطورات والتوجهات السياسية تطوراً مقابلاً في الحياة الاقتصادية متعلقاً بالتصنيع. فالقرن التاسع عشر هو قرن تصنيع معظم دول أوربا وأمريكا الشمالية بل واليابان وروسيا. وهكذا بدأ تكدس المدن الصناعية واقتلاع العمال من بيئاتهم الريفية إلى المدن في ظل أوضاع معيشية قاسية وظروف عمل غير إنسانية أحياناً. وبذلك أصبح القرن التاسع عشر هو عصر التصنيع وتعمير المدن وزيادة المواصلات من ناحية، ولكنه أيضاً عصر بؤس العمال واستغلالهم وتكدسهم وتشغيل النساء والأطفال في ظروف غير مواتية من ناحية أخرى. فهو عصر للتقدم والاستغلال على السواء. وهكذا بدأت الأفكار المناوئة للنظام القائم في الظهور ليس رفضاً للحريات السياسية في مجملها، ولكن في الاعتراض على الملكية الخاصة والاستغلال الذي يترتب عليها. وقد عرف القرن العشرون جدلاً كبيراً عما إذا كانت الملكية الخاصة ضمانة للحريات الشخصية أو هي على العكس خطراً عليها وتهديداً لها؟. وكانت دعوة كارل ماركس أشد هذه الدعوات صخباً وأكثرها جاذبية.
فمع بداية القرن العشرين سقط العديد من الأوهام حول هذه الحرية السياسية وتعالت الأصوات ضد الاستغلال للمطالبة بالمساواة والعدل. وقبل نهاية الحرب العالمية الأولى قامت الثورة البلشفية في روسيا، وظهرت روسيا السوفيتية كأول نظام معاد ومناوئ للنظم الديمقراطية. وبدلاً من إقامة “الديمقراطية السياسية” قامت الدعوة “لدكتاتورية الطبقة العاملة” وسيطرة الحزب الواحد والتي أطلق عليها “الديمقراطية المركزية”. وفي نفس الوقت وقعت فيه إيطاليا في شراك دعوة أخرى مناوئة للديمقراطية باسم “الفاشية”. وبعدها بسنوات استولى “النازي” على الحكم في ألمانيا في حركة شعبية لا تثق بنظم الحرية السياسية وترى في العرق والجنس الملاذ. وفي الثلث الأول من القرن العشرين عرف النظام الاقتصادي الحر في دول غرب أوربا والولايات المتحدة أزمة اقتصادية طاحنة بدأت في ألمانيا مع التضخم الجامح (مما مهد للنازي) ثم انقلب إلى بطالة عميقة وانكماش اقتصادي غير مسبوق في انجلترا وأمريكا وفرنسا لم تلبث أن انتقلت إلى معظم دول العالم الأخرى.
وبنهاية الحرب العالمية الثانية سقطت النظم الفاشية والنازية، وبعدها بنصف قرن سقط النظام الشيوعي، وعادت المبادرة للنظم الحرة. وفي هذه الأثناء تحرر العديد من المستعمرات القديمة وانتقلت إلى مرحلة الحكم الوطني، واتجه معظم هذه الدول ـ ربما باستثناء الهند ـ إلى الأخذ بأنماط الحكم الفردي تحت شعار محاربة بقايا الاستعمار. ورغم أن معظم هذه الدول لم تكن قد حققت بعد ثورتها الصناعية، فإنها قنعت ببعض قشور الحداثة وخاصة فيما يتعلق بالتسليح الحديث للجيوش والشرطة وأدوات السيطرة مع بقاء نظمها الاجتماعية والاقتصادية دون تغيير جوهري. ولم يفلت من هذا المأزق سوى دول جنوب شرق آسيا والتي جعلت من التصنيع والتعليم شبه عقيدة جديدة. فنجحت هذه المجموعة مع الهند والصين، وظلت الغالبية من دول العالم الثالث على أحوالهم التقليدية مع غلالة رقيقة من الحداثة لدى النخبة.
فهل تعلمنا شيئاً من هذه التجارب؟
لعل الدرس الأول هو أن النظم المعادية للحرية غير قابلة للاستمرار، وإنها رغم ما قد تحققه في الزمن القصير من إنجازات، فإن مآلها إلى الفشل. وأما الدرس الثاني، فهو أن إلغاء الملكية الخاصة اعتماداً على الملكية العامة وحدها يؤدي عادةً إلى تركيز القوة الاقتصادية في يد الدولة فضلاًَ عن تركيز السلطة السياسية في يدها أيضاً، وبالتالي الاتجاه نحو حكم شمولي يحتكر السياسة والاقتصاد معاً. أما الحديث عن “الشعب” وملكيته أو “الطبقة العاملة” ودورها الرائد، فكل هذه أوهام تخفي هيمنة الحزب الواحد الذي ينتهي إلى تسلط الزعيم وتأليه الفرد وعبادته. ولكن هناك درساً آخراً لا يقل أهمية، وهو أن الحرية وحدها، وخاصة الحرية الاقتصادية، يسهل إساءة استخدامها وتصبح عدواً لنفسها عندما تتركز الثروات في أيدي قليلة وعندما يتم التجاهل التام بأحوال الغالبية.
الحريات الفردية والسياسية ضرورية لاغنى عنها، ولكنها وحدها غير كافية فلا بد وأن يؤازرها نوع من العدالة الاجتماعية وإتاحة الفرص للجميع، وتمكين الضعفاء من الدخول في أتون المنافسة، ليس بالدعم والمنح بل بالتمكين عن طريق الخدمات التعليمية والصحية وزيادة الوعي والإنفاق على الخدمات الاجتماعية. ولذلك لم يكن غريباً أن تكون أكثر النظم استقرارً وتماسكاً وفي نفس الوقت أفضلها دخلاً هي الدول الاسكندينافية وسويسرا وكندا واستراليا ونيوزيلندة، وهي دول تأخذ بأرقى نظم الديمقراطية والمشاركة السياسية، ولكنها تعرف أيضاً أوسع شبكات للضمان والخدمات الاجتماعية، ولا تعرف إفراطاً في سوء توزيع الثروة والدخول. وليس من السهل تلخيص روشتة الدواء لهذه الدول، ولكن يمكن التأكيد بوجه خاص على أمرين، الأول هو أنها جميعاً دول قانون، بمعنى أن القانون هو السيد يخضع له الحاكم والمحكومين. والقانون ليس مجرد أداة حكم في يد الحاكم، بل هو سيف مسلط على الجميع. وعندما نتحدث عن دولة القانون، فإننا نعني القانون الليبرالي الذي يحترم حقوق الإنسان ولا يخرج عليها. والأمر الثاني والمكمل هو “الشفافية” وما يرتبط بها من مساءلة ومسئولية.
وبمجرد أن انتهى القرن العشرين وما تعرضت له الحريات السياسية من أزمات، ظهر وافد جديد يهدد هذه الحريات، وهو عنصر “الأمن القومي”. فمع تزايد أعمال “الإرهاب”، عاد الحديث من جديد لتقييد الحريات، ليس باسم العدالة هذه المرة كما في طوال القرن العشرين، وإنما باسم توفير الأمن والاستقرار للمواطنين في مواجهة هذه الأعمال غير المسئولة. ويخشى أن يؤدي التمادي في هذا الاتجاه إلى القضاء على الحريات تماماً كما أدى التمادي في تدخل الدولة باسم العدالة في معظم الدول الشمولية خلال القرن الماضي إلى القضاء كلياً على الحريات دون تحقيق العدالة.
وكما أن العدالة ضرورية لضبط الحريات فإن الأمن لا يقل أهمية. وهذه وتلك قيود أو ضوابط على الحرية ولكنها ليست بديلاً عن الحرية ذاتها. الحرية هي الأساس ولا يجوز التضحية بها باسم أية قيمة أخرى. ولكن الحرية تقيد وتنضبط بقيود لتحقيق العدالة أو الأمن، وبشرط أن يكون ذلك في إطار “دولة القانون” من ناحية، وفي ظل “شفافية” كاملة ومساءلة ومسئولية من ناحية أخرى. والله أعلم.