استفاق الحلاّج على صوت مؤذّن صلاة الظّهر، بعد أن صلّى صلاة الفجر واستسلم للنّوم، خرج من بيته يبحث عن الدّيك الأسود كبير الدّجاج وقائدهم، لم يجد الدّيك في المكان الذي اعتاد رؤيته فيه وهو يتباهى بجمال ريشه وطول منقاره، استمرّ في البحث إلى أن وجده فوق دجاجة يمارس معها الفحشاء والمنكر، تركه برهة حتّى لا يقطع عليه خلوته وإحساسه بالرّعشة الكبرى، نزل الدّيك من على الدّجاجة وقطرات منيّه تتقاطر على الأرض،
بدأ في المشي مزهوّا بنفسه كأنّه حقّق إنجازا تضاف لإنجازاته السّابقة، ذلك أنّ ديك الحلاّج تتسابق عليه كلّ دجاجات القرية للتّزاوج به، ليس رغبة في التّوالد فقط بل لأنّه هو الوحيد الذي يحقّق لهنّ الرّعشة الكبرى دون باقي الدّيكة الأخرى.
تقدّم الحلاّج نحو الدّيك ثمّ قال له:
“هذا آخر جماع لك أيّها الدّيك، حضرت ساعتك، سأضطرّ لذبحك لأنّني أحتاج دمك الوافر“،
ذهل الدّيك ممّا سمعه لكن استسلم لقدره وقدّم نفسه قربانا لسيّده، ذلك أنّ ديك الحلاّج مثله مثل صاحبه يؤمن بالحلول، أحضر الحلاّج مدية حادّة وأمسك بالدّيك من عنقه فنحره نحرة سريعة كي لا يشعر بالألم ثمّ وضع الدّيك في إناء حتّى لا يهدر دمه
أخذ الحلاّج دم ديكه ونظّفه من الرّيش المتطاير وبدأ بالتّوضّأ، غسل الكوعين ثلاث مرات ثمّ المضمضة إلى آخره.
الوضوء بالدّم من فرائض الصّلاة بالنّسبة إليه فالدّم مقدّس، ولا تصحّ إقامة الصّلاة المقدّسة إلاّ بالمقدّس، دخل الحلاّج إلى غرفته وأقام الصّلاة موجّها وجهه إلى مغرب الشّمس، أينما ولّيتم وجهكم فثمّة قبلة الله، يا غفور يا رحيم، كم تبلغ مدى رحمتك وعفوك؟ هل لنا أن نخطئ كثيرا و تعفو عنّا بقدر ما أخطأنا؟
انتهى الحلاّج من صلاته بعدما صلّى ركعتين فقط ! ثمّ أحضر دواة و قرطاسا وقال في نفسه: “سوف أكتب للنّاس خطابا لن يضلّوا معه من بعدي“.
للعلم أهلٌ وللإيمان ترتيــــب وللعلـــــوم وأْهلِيها تجاريب
والعلم علمان منبوذ ومكتســب والبحر بحران مركوب ومرهوب
والدّهر يومان مذموم و ممتــدح والنّاس اثنان ممنوح و مسلــوب
فاسَمعْ بقلبك ما يأتيك عن ثقـــةٍ وانظرْ بفهمك فالتّمييز موهــوب
إنّي ارتقيتُ إلى طودٍ بلا قـــدمٍ له مَراقٍ على غيري مصاعيـــب
و خُضْتُ بحراً ولم يرسب به قدمي خاضَتْهُ روحي وقلبي منه مرغـوب
حَصْبَاؤُه جوهرٌ لم تَدْنُ منـه يــدٌ لكــنّه بِيَدِ الأفهــام منهـــوب
شربتُ من مائــه رَيّاً بغير فــم والماء قد كان بالأفواه مشـــروب
لأنّ روحي قديماً فيه قدْ عطشــتْ و الجسم [ما] ماسَهُ من قبل تركيــب
إنّـّي يتيمٌ و لي أبٌ أَلوُذ بــــه قلبــي لِغيْبَتِهِ ما عشـْــتُ مكروب
أعمى بَصيرٌ و إنّـي أبْلَه فَطِــنٌ و لــي كلام إذا ما شئتُ مقلــوب
ذُوِ فَتَا عرفوا [ما] قد عرفت فَهْـمُ صَحْبِيَ ومن يُحْظى بالخيرات مصحوب
تعارفَتْ في قديم الذّر أَنْفُسهـــم فأشرقَتْ شمسهم و الدّهــر غربيـب.
بعد أن انتهى من كتابة أبياته قام الحلاّج من مكانه و رفع رأسه إلى السّماء ثمّ قال
“لم يبق بيني وبين الحقّ تِبْيَانـي ولا دليل ولا آيات برهــان
هذا تجلّى طلوع الحقّ ِ نائــرةً قد أَزْهَرَتْ في تلألئها بسلطـان
كان الدّليل له منه إليه بــــه مِن شاهدِ الحقّ ِبل عِلماً بِتِبْيـان
كان الدّليل له منه به ولــــه حقـًّا وجدناه في تنزيل فـُرقان
لا يستدلُّ على الباري بصنعتــه وأَنْتُمُ حَدَثٌ يـُنْـبـِي بأزمـان
هذا وجودي و تصريحي و معتقدي هذا تـَوَحـُّدُ توحيدي و إيماني
هذا عبارة أهل الانفراد بـــه ذوي المعارف في سرّ وإعلان
هذا وجودُ وجودِ الواجدينَ لـه بني التّجانـُس ِأصحابي وخُلَّاني“
نظم الحلاّج هذه الأبيات و هو يستلذّ بكأس الخمرة التي يداوم على شربها، معتقدا أنّ الخمرة التي يتعاطاها تمكّنه من الاتّصال بربّه والحلول به
“مُـزِجَتْ روحك فى رَوحى كما تُمــزَجُ الخمـرةُ بالمــاءِ الزِّلالِ“
فالخمرة عند الحلاّج تشير إلى النّشوة بتجلّي المحبوب، وتكشف عن الحقّ في ذاته لا كما يراه المؤمن العادي، بل كما ينجلي لأهل العلم والتّصوّف، فالعلم طبقات، اعلم حفظك الله أنّ من مذاهب النّاس في طلب العلم درجات، فهناك أهل الجهل وهم الدّرجة السّفلى، وأهل الإيمان وهم المؤمنون الذين يكتفون بالظّاهر غير المقنع، وهناك أهل الدّرجات وهم أهل التّصوّف والعلم الذين منّ عليهم الله تعالى بقلوب خاشعة ترى الحقيقة المكنونة التي لا يعلمها إلاّ الله تعالى.
خرج الحلاّج من بيته المتواضع وهو في حالة نفسيّة مزرية، كان دائما يشعر وكأنّ في حلقه غصّة، فدخل سوق بغداد وبدأ يراقب جيئة النّاس وذهابهم ثمّ صرخ فيهم عاليا: أغيثوني يا أهل الإسلام، فليس يتركني ونفسي أنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أطيقه، ثمّ قال:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتنى أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
عاد الحلاّج إلى بيته ثم توضّأ بما تبقّى من دم الدّيك وأقام صلاة المغرب وبدأ بقراءة سورة البقرة كاملة حتّى أنهاها في ركعتين فقط، وبعد أن فرغ من صلاته أخرج رأسه من نافذة غرفته وصاح إلى جاره يعقوب اليهودي، اسقني من خمرتك يا يعقوب فقد سمعت أنّها تجعل شاربها يرى نور الله و يلمسه بيده، فمدّه يعقوب بقارورة من الخمرة الرّفيعة والتي كان يجلبها معه من بلاد الرّوم، فشرب منها الحلاّج حتّى ارتوى ثمّ قال
“حبيبي غير مـنـسـوبٍ إلى شيء من الـحـيف
سقاني مثـلـمـا يشـر ب فعل الضّيف بالضّيف
فلـمّـا دارت الـكـأس دعا بالنّطع والـسّـيف
كذا من يشـرب الـرّاح مع التنّين في الصّـيف.
وبعد هنيهة قام الحلاّج وبدأ يدور على قبّة صغيرة مرارا و تكرارا، ثمّ طلب من جاره اليهودي أن يحضر له ثلاثين يتيما، فنفّذ يعقوب طلبه وأحضر له ثلاثين يتيما من أرجاء بغداد ونواحيها، فأطعمهم الحلاّج طعاما طيّبا وكساهم وأعطى كلّ واحد منهم سبعة دراهم، فلمّا سأله يعقوب عن سبب كلّ هذا قال له، لقد أدّيت فريضة الحجّ، الرّكن الخامس والأعظم، فاستغرب يعقوب للأمر ثمّ خرج
في الصّباح طرق رجلان الباب ففتح الحلاّج الباب وطلبا منه أن يرافقهما إلى مجلس الوزير حامد، دخل الحلاّج إلى مجلس الوزير وسأله حامد:
“سمعنا أنّك أدّيت فريضة الحجّ وأنت لم تبارح بيتك”؟
فقال الحلاّج: “الحجّ حجّان، الأوّل حجّ إلى الله تعالى وهذا هو الأعظم أمّا الثّاني فهو حجّ البيت وهو معروف عند عامّة المسلمين“.
“من أين لك بهذا الكلام أيّها الحلاّج”؟ سأله الوزير.
“إنّه العلم النّوراني الذي يخصّ به الله تعالى عباده المخلصين“.
أمر الوزير بوضعه في السّجن إلى أن يبثّ في أمره
في الغذ كتب الوزير إلى الخليفة المقتدر قائلا: “إنّ ما جرى فى المجلس قد شاع، ومتى لم تُتبعه قتل الحلاَّج افتتن به النّاس، ولم يختلف عليه اثنان“، فعاد الجواب من الغذ: ” إذا كان القضاة قد أباحوا دمه، فليحضر صاحب الشّرطة، ويتقدّم بتسليمه وضربه ألف سوط، فإن هلك وإلاّ ضُربت عنقه…” فسُرَّ حامد.
و يوم مقتله قال الحلاّج:
أُقْتُلُوني يا ثقاتـــي إنّ في قتـْلي حياتــــي
و مماتـي في حياتـي وحياتي في مماتـي
أنّ عنـدي محْو ذاتـي من أجلّ المكرمـات
و بقائـي في صفاتـي من قبيح السّيّئــات
سَئِمَتْ نفسـي حياتـي في الرّسوم الباليـات
فاقتلونـي واحرقونـي بعظامـي الفانيــات
ثمّ مـرّوا برفاتـــي في القبور الدّارسـات
تجدوا سـرّ حبيبــي في طوايا الباقيــات
إنّنـي شيـخ كبيــر في علوّ الدّارجــات
ثمّ إنـّي صرتُ طفـلا في حجور المرضعات
ساكنـاً في لحد قبــر في أراضٍ سبَخــات
وَلدَتْ أُمّــي أباهـا أنَّ ذا من عجبـاتـي
فبناتـــي بَعْـدَ أنْ كـ ـن بناتـي أخواتــــي
ليس من فعل زمــان لا ولا فعل الزّنــات
فاجمعوا الأجزاء جمعاً من جسـورٍ نيــرات
من هـواء ثمّ نــار ثمّ من ماء فـــرات
فازْرعوا الكلّ بأرض ٍ تـُرْبُها تـرب مـوات
وتعاهـدها بســقي من كـؤوس دائـرات
من جـوار ٍساقيـات و سـواق ٍجاريــات
فإذا أتممت سبعـــا أنبتـَتْ خير نبــات.