Friday, July 20. 2012
المبدأ الأساس في العلاقات بين الشعوب أو القوميات وأتباع الديانات والمذاهب أو الاتجاهات الفكرية والسياسية هو الاعتراف بالآخر والاحترام المتبادل بالوجود وبالحقوق التي يفترض أن يتمتع بها الفرد أو الجماعات القومية والدينية والمذهبية والاثنية والاتجاهات الفكرية والسياسية التي لا تثير الحقد والكراهية ولا تمارس التمييز بين البشر لأي سبب كان. إن هذه الحقوق مثبتة ومضمونة في عدد من المواثيق والعهود الدولية,
ومنها اللائحة الدولية لحقوق الإنسان وحقوق المرأة والحقوق السياسية والاقتصادية وكذلك الحال بالنسبة الى حق العبادة وحرية ممارسة الطقوس الدينية وتمتع القوميات بحق تقرير مصيرها بنفسها. ويمكن العودة في هذا الصدد إلى وثائق الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية, وكذلك الدستور العراقي.
ومن المعروف, ان الصراع القومي والديني والمذهبي بشكل عام لا يختلقه الناس العامة من أتباع هذه الديانات والمذاهب, بل يتأجج من خلال ممارسات خاطئة للسلطة السياسية أو القوى المشاركة فيها أو الأحزاب القومية الشوفينية والأحزاب الدينية المتزمتة التي ترى في دينها أو مذهبها أنه هو الافضل والأجدر للاقتداء مثيرة بذلك إشكالية الأنا والآخر, بكل ما فيها من جوانب نفسية وأحكام مسبقة وما يطلق عليها بالاستريو تايب ويعني النموذج النمطي للتفكير التقليدي من جانب الـ "ألأنا" إزاء الـ "ألآخر". كما إن بعض شيوخ الدين المتعصبين لدينهم يمارسون نفس الدور السلبي إزاء الديانات والمذاهب الأخرى مما ينقل الصراع إلى الساحة السياسية والمجتمع. وهي المشكلة التي تعاني منها الكثير من المجتمعات في الدول النامية على نحو خاص ومنها العراق.
اذا القينا نظرة فاحصة على الحالة العراقية, من مختلف الجوانب, سنرى أن فترة العقود الخمسة المنصرمة من تاريخ العراق المعاصر قد تميزت, وبسبب سيطرة النظام الدكتاتوري الفردي المطلق الغارق بالشوفينية والطائفية والسادية في آن واحد, بتفاقم الصراعات القومية والمذهبية. حيث عمل النظام طيلة تلك السنوات بدأب وبشكل مبرمج ومنظم على مكافحة الافكار الاخرى المغايرة للفكر القومي البعثي اليميني المتطرف. ويمكننا أن نورد أمثلة صارخة على تلك السياسات العدوانية التي مارسها النظام العراقي في الموقف من القومية الكردية ومن الكرد الفيلية من جهة, ومن العرب الشيعة في الوسط والجنوب والتهجير القسري الواسع النطاق الذي مورس بحقهم من جهة أخرى, إضافة إلى إجبار الكثير من العائلات المسيحية في ظروف قاسية على الهجرة إلى خارج البلاد مرغمين وللافلات من ظلم النظام وطغيانه. وشملت هذه الحملات أيضا الصابئة المندائيين والايزيدية.
وقد خلقت تلك السياسات غير الإنسانية أوضاعاً شاذة أدت بعد سقوط النظام في 9 نيسان 2003 إلى تأجيج النوازع الكامنة لدى بعض النفوس المريضة التي سبق وان توجهت ضد حزب البعث بشكل خاص إلا انها توسعت, وبسبب وجود أحزاب إسلامية سياسية بمذاهب متعددة, لتتطور إلى صراع ديني ومذهبي شمل الشيعة والسنة أولاً, حيث بدأ بالقتل والاختطاف المتبادلين على الهوية وانعدم الاعتراف المتبادل والتسامح, وسادت اجواء غير سليمة مورست فيها أساليب الانتقام والثأر بين القوى السياسية من خلال مليشياتها المسلحة. وامتد هذا ليشمل المسيحيين في مختلف أنحاء العراق وخاصة في البصرة وبغداد والموصل ما عدا إقليم كردستان. كما شمل الصابئة المندائيين في الوسط والجنوب وفي بغداد. وفي فترة لاحقة شمل الايزيدية من سكنة الموصل والأقضية التابعة إداريا لمحافظة نينوى. اضف الى ذلك ممارسات قوى الإرهاب المتطرف مثل تنظيم القاعدة وهيئة علماء المسلمين السنة وأنصار الإسلام ومن ثم جند الإسلام, إضافة إلى المليشيات الطائفية المسلحة وعناصر من حزب البعث المنحل ممن كانوا يعملون في الجيش والشرطة والأمن ومنظمة فدائيي صدام.
في ظل هذه الأجواء المضطربة والمرعبة, ونتيجة استتباب الهدوء والاستقرار والأمن في إقليم كردستان, فأن الكثير من المسيحيين والصابئة المندائيين أو اليزيديين قد تركوا مناطقهم الساخنة وهاجروا إلى مدن إلاقليم للسكن فيها هربا من الاختطاف والقتل والإرهاب الذي شملهم جميعاً.
لقد كانت ولا تزال أبواب الإقليم مفتوحة لاستقبال الوافدين اليها من المناطق الساخنة في العراق, رغم وجود العديد من الصعوبات في استيعاب موجات النزوح العارمة, خاصة وأن جمهرة من الشيعة والسنة كانوا قد أجبروا على الهجرة أيضاً إلى الإقليم للخلاص من الصراع الشيعي السني الذي كانت أو ربما لا تزال تقوده القوى الطائفية المسلحة أو التي تركت سلاحها شكلياً.
إن ما يستوجب تأكيده هو ان رئيس الاقليم والمسؤولين فيه قد تفهموا أوضاع الوافدين اليها وآمنوا بضرورة مساعدتهم ومد يد العون اليهم في الظروف العصيبة. جاء ذلك من ايمان قيادة الاقليم واعترافها بحق القوميات القاطنة فيه, وهي تعترف كذلك بحق أتباع جميع الديانات والمذاهب أن تمارس عباداتها وطقوسها وشعائرها الدينية بكل حرية.
وفي نفس الوقت يحمل دستور العراق الاتحادي موادا وبنودا تصب في صالح القوميات والاديان في العراق, واذا تم تطبيقها والالتزام بها فعليا, ستقلص دون شك الفجوة الكبيرة الحاصلة بين حقوق القوميات والاديان العراقية حسب ما وردت في المادة (2) ثانيا والمادة (3) والمادة (10) من الدستور وغيرها من الاشارات, وبين ما نجده في التطبيق العملي لهذه المواد. وان هنالك العديد من النواقص وإلاشكالات تنتظر حلولا, حيث ان بعض الممارسات لا تزال دون مستوى الطموح وتستوجب المتابعة وتوفير مستلزمات تعزيز العلاقات وترسيخ مبدأ الاعتراف والاحترام المتبادل بين اتباع جميع القوميات والأديان والمذاهب, وفي المقدمة منها التنوير القومي والديني والاجتماعي للفرد والمجتمع والعاملين في أجهزة الدولة.
وباختصار هناك ست مشكلات يفترض العمل على معالجتها في إطار الحكومة الاتحادية وبالتنسيق مع حكومة إقليم كردستان, وأبرزها:
1. كيف يمكن حماية المسيحيين الذين تعرضوا وما زالوا يتعرضون للإرهاب والقتل والتهجير على أيدي عصابات مارقة خارجة على القانون؟ إذ أن كل ذلك قد ادى ولا زال يؤدي الى رحيل عدد من العوائل المسيحية الساكنة في مدينة الموصل إلى المدن الصغيرة والقرى ذات الغالبية المسيحية من السكان حيث يشكل سهل نينوى موطنا لها والقسم الآخر انتقل إلى أربيل ليكون بمنأى من عمليات الاختطاف والقتل وليضمن امنه وسلامته أو اضطر اللجوء والهجرة الى دول العالم المختلفة. إن مهمة حماية مسيحيي الموصل يرتبط بالدرجة الاساس بالدور الذي يجب أن تلعبه الحكومة العراقية بالتنسيق مع حكومة إقليم كردستان لضمان الوضع الطبيعي لحياة هؤلاء الناس من جميع النواحي.
2. كيف يمكن حماية الأيزيديين الذين تعرضوا للإرهاب في مناطق الموصل والتي ترتبط إداريا بمحافظة الموصل والتي هي من مهمات الحكومة الاتحادية ومجلس محافظة الموصل؟ إذ لا تزال رئاسة وحكومة الاقليم تسعيان لمعالجة الاثار السلبية التي يواجهها أتباع الديانة الإيزيدية في مناطق الموصل.
3. أما الشبك الذين يشكلون جزءاً من نسيج الشعب العراقي ويدينون بمذاهب عدة, فمنهم الشيعي ومنهم السني, ولكن لغتهم هي اللغة الكردية, فقد تعرضوا بدورهم الى عمليات الاختطاف والقتل.
4. كيف يمكن حماية أتباع الديانة المندائية في العراق وهم الذين يعتبرون من أصل أهل البلاد, كما هو حال المسيحيين والايزيديين, إذ أنهم قد تعرضوا إلى اضطهاد وتشريد كبيرين كما أجبرت أعداد كبيرة منهم على الهجرة وقتل البعض منهم خلال السنوات المنصرمة.
5. والمسألة الخامسة هي التي تتعلق بمحافظة ومدينة كركوك. لقد حصل الكثير من التوتر وارتكبت الكثير من الأخطاء. إلا أن الحل العملي لهذه المشكلة المعقدة غير الجديدة يرتبط بتطبيق المادة 140 من الدستور العراقي الدائم, إذ أنها تعالج جميع المسائل المعلقة سواء أكان بالنسبة لمن هجر منها من الكرد أو التركمان أو من جلب إليها من العرب من جهة, كما تؤكد على ضرورة إنجاز عملية التطبيع ومن ثم إحصاء سكانية وبالتالي إجراء الانتخابات فيها من جهة ثانية. ومن يحاول العودة إلى إحصاء 1957 وإحصاء 1962 وحتى 1965 ثم فترة حكم البعث الثانية سيجد طبيعة الدور الشوفيني الذي مارسته سلطة البعث في عملية التغيير الديموغرافي للسكان في هذه المحافظة والمدينة. وبالتالي فأن معالجتها تصب في صالح العراق.
6. وما دمنا نتحدث عن العنف, فان هناك مشكلة أخرى تنطلق من مواقع التخلف وعدم فهم تعاليم الدين ودور المرأة في المجتمع, وأعني بها العنف ضد المرأة وقتلها غسلاً للعار أو إرغامها على الانتحار, وهي ليست مشكلة كردستانية حسب, بل مشكلة عراقية وشرق أوسطية وتحتاج إلى معالجة جادة ومستمرة وصارمة بتطبيق القوانين وفق نصوص الدستور بهذا الصدد وأن يمارس القضاء دوره العادل. ولقد اتخذت حكومة اقليم كردستان خطوات مهمة في هذا المجال, ولكنها ما تزال غير كافية وبحاجة إلى مزيد من الجهد لمواجهة من يمارس قتل النساء عمداً ويدعي انتحارهم.
إن معالجة المشكلات المتعلقة بحقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق المرأة مثلاً تستوجب اعتماد سلسلة من السياسات والإجراءات التي تفضي إلى ذلك, ومنها:
1 . العمل من اجل تغيير الوعي المشوه الراهن إزاء حقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق أتباع الديانات والمذاهب الدينية والتثقيف باللائحة الدولية لحقوق الإنسان وبقية المواثيق واللوائح الدولية لشرعة حقوق الإنسان لتغيير الوعي الشعبي المتخلف عبر أجهزة الإعلام. إضافة إلى نشر التجاوزات التي تقع عليها دون تردد لمعالجتها ومعاقبة مرتكبيها ومنع ظهورها ثانية.
2 . التثقيف العام من جانب الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم بما ورد في اللوائح الدولية حول حقوق الإنسان وحقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب, إضافة إلى وضع مواد خاصة في المناهج التدريسية في كل مراحل الدراسة الابتدائية والثانوية والمهنية والكليات والجامعات تتضمن دراسة متقدمة ومتطورة وفق مراحل الدراسة حول المجتمع المدني وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والتآخي بين الشعوب ودور الإقليم والمجتمع والإعلام والتعليم والثقافة العامة في كل ذلك.
3 . العمل الجاد من أجل القيام بحملة مستمرة وطويلة الأمد من أجل التنوير الديني والاجتماعي لوضع حدٍ لأولئك الذين يتصيدون في الماء العكر والغارقون في الجهل عبر التعاليم الدينية والمذهبية وترويج الخرافات والطقوس غير الواقعية وإثارة الكراهية والأحقاد والصراعات بين أتباع الديانات والمذاهب في العراق.
4 . تنشيط دور منظمات المجتمع المدني في الدعوة إلى الاعتراف المتبادل والتسامح في إطار المجتمع المدني.
5 . عرض افلام وثائقية وتقديم اعمال مسرحية تعالج المشكلات الاجتماعية والقومية والتجاوزات على حقوق الإنسان بما يسهم في إعادة تثقيف الإنسان في كردستان, كما أن كل العراق بحاجة ماسة إلى ذلك.
6 . زيادة النشر الأدبي الإنساني حول المشكلات التي تنشا بين اتباع القوميات والديانات والمذاهب المختلفة وأسباب ذلك والعواقب التي تترتب عليها, وخاصة قضايا التطرف والعنف اللذين ينبغي مكافحتهما في المجتمع ولأمد طويل بسبب عمق التطرف والعنف اللذين سادا في المجتمع العراقي عموماً, ومنه إقليم كردستان.
7 . معالجة المشكلات التي ظهرت في الصراع بين الأفراد والجماعات, وخاصة في ما يخص الإيزيديين الذي واجهوا مشكلات غير قليلة خلال السنوات الأخيرة وفقد الكثير من الناس الأبرياء حياتهم.
8 . توفير ميزانية مناسبة لمزاولة مثل هذه السياسات والنشاطات, بما في ذلك لمنظمات المجتمع المدني التي لها خبرة وممارسة بمعالجة مثل هذه المشكلات, إضافة الى وضع جوائز تقديرية تساعد على تنشيط المنافسة والعمل الجاد في هذا الاتجاه الإيجابي.
9 . أما مبدأ الحوار, فانه يشكل في المجتمع المدني الديمقراطي قاعدة اساسية لمعالجة المشكلات التي تواجه المجتمع او الحكومة, وتكمن اهميته بحل الخلافات والاختلافات بالطرق التفاوضية السلمية ونبذ العنف او القوة او التهديد او اتخاذ مواقف سلبية ومتشنجة تؤدي احيانا الى القطيعة وحتى استخدام العنف.
* إعلامي ووزير سابق
عضو الأمانة العامة لهيئة أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق
|