إن أبناء الشعب العراقي بحاجة إلى إعادة النظر بكامل المشهد السياسي، وبطبيعة تعامل الأحزاب الحاكمة بمصالح الشعب العراقي، وإن الواقع الحالي يؤشر إلى عدم تحسن الأوضاع الاقتصادية أو الخدمات في العراق طالما بقي السياق الحالي قائماً،
ثلاثة أنواع من السكر تطال المجتمع الإنساني، سكرة الخمرة وهي اقلها ضرراً وفتكاً، ثم سكرة الغنى وهي أكثر أثراً وضرراً من الأولى، ثم سكرة الحكم التي تعتبر أشد فتكاً على المرء والمجتمع.
ويذكر العرفانيون وأهل الدراية، أن من أقوى أدوات الشيطان التي يستعملها ضد المؤمن هي سكرة الحكم، فالصفات الإيمانية والتاريخ المزين بلون الدين واللغة المرهفة التي تتفجر عن قريحة المؤمن كلها ملاءات يرقص لها الشيطان ويغشى بها عيون وعقول المجتمع من أجل أن يبلغ ضالته ويطعن الحق في الصميم، وبذلك يكون الشيطان قد طعن كبد الإيمان بنصال أهله وهذا ما مايبدو للآخرين وما يريد الشيطان أن يظهره فعلاً.
نحن في زمن سيئ، وهذا لا يعني أن الدنيا قد خلت من بريق الحق وممن يحملون بقايا أمل الإصلاح، ونعتقد أن خلو الدنيا من بقايا ذلك الأمل هو نهايتها الحتمية وهذا ما تؤكده السنن الإلهية، فالمجتمعات قديماً عندما توشك أن تتعرى من لباس الحق والحقيقة، يبعث الله لها من الأنبياء من يعيد إليها ولو بالإكراه ذلك اللباس.
ولكن الذي أريد أن أقوله هو أننا في زمن قد غلب فيه الباطل وقلت المروءة واستشرت عبادة الإنسان لنفسه ولمصالحه وخفتت في وجدانه مشاعر الإحساس بألم الضمير. وهذا ما نراه واضحاً وجلياً في معالم الحكم في العراق خلال السنوات الست الماضية، ويبدو أن إعصار النظام السابق والذي عصف بنا سنوات طوال هو الذي جعلنا نحلم بربيع نحقق به طموحات ضاعت مع ضياع العمر وتسارع السنين، طموحات لم تزل مجرد حلم، وما تحقق منها لا يعدو أن يكون غيضاً من فيض.
لقد اتصفت طبيعة الحكم في العراق بعد سقوط النظام الصدامي البعثي بثلاثة معالم سلبية صارخة كانت وما زالت سبباً في معاناته وبشكل يوحي وكأن عذابات النظام السابق لم تذهب بذهابه وإنما استمرت ولكن بشكل آخر ومن قبل أناس آخرين كان المفروض أن يكونوا سبباً في سعادته وإرجاع حقوقه، وهذه المعالم هي كثرة الولاءات، وإبعاد الكفاءات، وتفشي السرقات.
أما الولاءات فتتمثل في نوعين؛ ولاءات الحزب أو الجهة السياسية الحاكمة وولاءات المسؤول الذي عين كحصة لهذه الجهة أو تلك، فالمحاصصة التي بنيت عليها طريقة الحكم سلبت من كامل الشعب الحق في شغل المناصب ومنحتها الى مجموعة محدودة تمثل الحزب أو الجهة أو القائمة ومن الطبيعي أن تميل تلك المجموعة الى العناصر التي تنسجم معها ولا تنتقدها وتحافظ على مصالحها وتخلص للجهة السياسية حصراً وإن كانت تفتقد الإخلاص للشعب والوطن.
أما ولاءات المسؤول وهي من الكوارث التي تحل علينا فقد منحت الصلاحيات الممنوحة للوزراء ووكلائهم في التعيين الى اختيار عناصر هي الأخرى تنسجم مع تطلعاتهم المادية وغيرها واستبعدت العناصر المخلصة، فأصبحت الوزارة بكل مفاصلها في الدولة أشبه بمملكة لحزب الوزير والمقربين منه والأصدقاء الذين يضمن التنسيق معهم في سرقة قوت الفقراء، ومن أجل أن يحقق تلك الأهداف دونما صداع يأتيه من العامة نرى سيادته يغلق كل أبواب الإتصال به ويصبح التحدث معه عبر الهاتف ضرباً من المحال.
والأمر الخطير الآخر الذي يكاد يقصم ظهر العراق هو دفع الكفاءات المخلصة بعيدا عن مواقعهم الطبيعية في المشاركة في بناء الوطن، فالمعروف أن المخلص الكفء يتصف بأمور قلما تجدها في غيره منها رجاحة العقل والأمانة، وهاتان الخصلتان لا ترضيان المسؤول السارق، لأن الخائن هو الآخر يتصف بقلة الكفاءة ودناءة النفس، وهاتان الخصلتان تتناقضان تماماً مع ما يمتلكه الكفء الأمين الأمر الذي يجعل التقاءهما صعباً.
فوجود الأمين يعني كشف السرقات وكشف خيبة أداء السارق، ولهذه الأسباب نرى أن أغلب المسؤولين الذين جاءت بهم الأحزاب الحاكمة والمحاصصة السياسية هم من السارقين وعديمي القدرة على أداء مهامهم الوظيفية، الأمر الذي دفعهم إلى تقريب أمثالهم وسد الطريق على الكفاءات المخلصة والأمينة من أبناء الشعب في المشاركة ببناء الوطن، والأمثلة كثيرة في هذا الأمر ومنها وزير التجارة السابق السوداني وأيهم السامرائي وطارق الهاشمي والصافي وجمع غفير من نواب الحزب الحاكم والكتل المتنفذة، والمشكلة أن كل مسؤول كبير غير أمين وغير كفء ينصبه الحزب أو الكتلة يأتي بمجاميع من أمثاله، وهؤلاء بدورهم يمهدون الطريق لأمثالهم من الفاشلين.
وسبق وأن ذكرت في مقال لي سابق أن أحد مسؤولي الحزب الحاكم ذكر لي بصراحة ودون خجل أن الذين عينهم الحزب أغلبهم: ممن يقبلون الأحذية. وعندما سألته عن سبب عدم تقريب المخلصين قال: إن الوقت لم يكن مواتياً بعد.
ونأتي لنناقش الأمر الثالث الذي يوشك أن يقصم ظهر عراقنا الحبيب وهو تفشي السرقات، وامتصاص خزينة الدولة لحسابات الأحزاب والشخصيات السياسية المتنفذة، وكلنا نعلم أن هناك أشخاصاً ما كانوا يمتلكون شيئاً قبل دخولهم للعراق، بينما الآن يمتلكون مكاتب سياسية خاصة كثيرة وقنوات فضائية تحرق من أموال الفقراء والمساكين في العراق أموالاً طائلة، هذه الأموال جمعوها بفعل استحواذهم على منافذ الصرف في الوزارات واستغلال وجودهم في السلطة، كما أن بعض الأحزاب الحاكمة لديها شخصيات يعرفها البعض متخصصة في تبيض الأموال العراقية المسروقة قبل إيداعها في حسابات بمصارف الدول الغربية، وأن من الدول التي يتم تبييض الأموال فيها هي بعض الدول الخليجية ومنها إمارة دبي.
إن سبب تفشي ظاهرة سرقة المال العام هو استمراء الشخصيات السياسية والأحزاب لهذه الظاهرة، وخاصة أن تكرار السرقة حولها إلى مَلَكَة لدى المسؤولين، وإستراتيجية لدى الحزب، ولقد رأينا كم من الأموال صرفت من قبل الأحزاب والشخصيات في الانتخابات الماضية، وسوف تحرق هذه الأحزاب أموالاً أكثر في الانتخابات القادمة، بعد أن أدركت أن حالات الفقر والعوز وقلة الوعي لدى الكثير من أبناء الشعب أصبحت الآلية المثلى لدى تلك الأحزاب للبقاء في السلطة فترة أطول، فتلك الحالات تمهد الطريق لتلك الأحزاب في شراء الذمم وما مكاتب الإسناد العشائري التي نسمع عنها والتي تنتشر في الوسط والجنوب إلا مكاتب لشراء الذمم، ولو أردنا أن نتمعن في طبيعة عملها فإننا نراها في الأوقات العادية تمهد للحزب الذي تنتمي إليه وتنشط في وقت الانتخابات لجمع أكبر عدد من الضمائر الرخيصة المعروضة للبيع.
وفي ختام هذا المقال أود أن أسوق للتاريخ مثالاً حقيقياً وهو: أن لجنة النزاهة في المحافظة طلبت من أحد المخلصين من أصحاب الكفاءات أن يعمل معها للاستفادة من خبرته، وقدم رسالة لرئيس مجلس المحافظة وهو من حزب الدعوة يطلب فيها الموافقة على العمل ضمن اللجنة، إلا أن رئيس المجلس رفض الطلب، وعندما حاول معرفة السبب من بعض شخصيات الحزب الذي ينتمي إليه رئيس المجلس أخبر بصريح العبارة أن رئيس المجلس يوافق على أن تعمل في أي لجنة من لجان المجلس عدا لجنة النزاهة، وهنا يحق للعقلاء أن يتساءلوا لماذا النزاهة بالذات لا يسمح لهذا الرجل العمل بها؟ أترك معرفة دوافع ذلك لذكاء القارئ الكريم.
إن أبناء الشعب العراقي بحاجة إلى إعادة النظر بكامل المشهد السياسي، وبطبيعة تعامل الأحزاب الحاكمة بمصالح الشعب العراقي، وإن الواقع الحالي يؤشر إلى عدم تحسن الأوضاع الاقتصادية أو الخدمات في العراق طالما بقي السياق الحالي قائماً، وهذا يعني أن على الشعب أن يقول كلمته وعلى النخب والمثقفين وعلماء الدين المخلصين أن يشاركوا في انقاذ العراق من ظاهرة تفضيل الولاءات على الكفاءات وعدم محاربة السرقات، السرقات التي أنهكت الفقراء وعمقت التفاوت الطبقي وجعلت مصادر الثروة بيد طبقة واحدة، وأن أكبر دليل على مشاركة رئاسة السلطة التنفيذية في سرقة المال العام، أنها لم تحيل سارقا واحداً من السراق الكبار إلى القضاء لحد الآن، بل أخرجت الكثير منهم إلى الخارج وتسترت على من بقي منهم في الداخل.
إن الإصرار من قبل رأس الحكومة على تكريس استقطاب الولاءات و الإصرار على إبعاد الكفاءات والصمت على تفشي السرقات هو الذي قاد البلاد إلى ما هو عليه اليوم من تعقيد في المشهد السياسي وخلاف عميق ومعقد يصعب أن تجد له حلاً، وهذا دليل على أن الذين يمسكون بزمام السلطة في العراق لا خبرة لهم في الحكم وأن إدارتهم تعتمد العشوائية والارتجالية في اتخاذ القرارات الأمر الذي قاد البلد إلى هاوية نسأل الله أن يجنب شعبنا شرورها.
د.طالب الرماحي