قبل أن نبدأ فى مناقشة قصة محمد دعونا أولا نتعرف إلى مفهوم النبوة بشكل عام، فهى قد ظلت محصورة فى بنى إسرائيل لآلاف السنين، ولم تتخطى حدودهم إلى الخارج تقريبا، وربما كان محمد هو النبى الوحيد من خارج اليهود، وبالتأكيد هو النبى الوحيد الذى نملك معلومات كثيرة للغاية عن فترة نبوته وتفاصيلها.!
ونسأل أولا: ماهو النبى؟
هى تعريب للكلمة العبرية “نافى” أى المستشرف للغيب، أو الرائى للمستقبل، أى ذلك الرجل الذى يعلم ماتخبئه فى بيتك، ويعلم مالذى سوف يحدث لك فى المستقبل، ولو ظهر فى عصرنا هذا لأطلقوا عليه صفة العراف أو الساحر، ذلك الذى يخرج لك البيضة من القبعة، أو يخرج حمامة تطير من جيبه…إلخ، وتلك الوظيفة كانت حكرا على بنى إسرائيل على مايبدو لآلاف السنين حتى مل منهم الإله أو يئس فحولها للعرب على يد محمد، والحقيقة أن أنبياء إسرائيل قديما كانوا كثيرى العدد إلى حد مزعج، ربما مثل مجاذيب الحسين عندنا الآن، إلى درجة أنه تم قتل 450 نبيا منهم فى ساعة واحدة، كلهم بالطبع كانوا عالة على المجتمع ويعيشون من تبرعات المؤمنين السذج.
وكيف كان الوحى يأتى لأنبياء العهد القديم؟
يقال لنا أن الوحى له عدة طرق لإيصال الرسالة للنبى، منها أن ينطق الوحى بلسان النبى، أى أن ماينطقه النبى لايكون معبرا عن رأى شخصى، بل يكون هو ماأراد الإله توصيله للبشر.
وهناك طريقة أخرى للوحى، وهى أن يتكلم الإله مباشرة مع النبى من وراء حجاب، كما فعل مع موسى مثلا.
وهناك طريقة ثالثة للوحى: وهى أن يتنكر الإله فى شخصية آدمى، ويهبط للأرض ويتعامل مع الناس على أنه بشرى ويؤدى رسالته ويرجع لسمائه دون أن يعرف أحد أنه هو الله نفسه.
وربما نجد أنواعا طريفة من الوحى فى التاريخ الدينى، فهناك الغراب الذى يحمل اللحم للنبى، وهناك الهدهد الذى يحمل الأخبار لنبى آخر، وهناك الناقة المأمورة مباشرة من الله…إلخ.!
وهناك أخيرا طريقة الوحى فى حالة النبى محمد:وهى أن يرسل له الرب رسولا خاصا هو السيد جبريل مرسول الرب، وقيل لنا أن جبريل كان يلقى بالكلام فى قلب محمد دون أن يراه، وقيل أيضا أن محمدا كان يرى جبريل وأنه وجد له ستمائة جناح؟ ونحن نصدق ذلك بالطبع فالمسافة من الأرض للسماء بعيدة للغاية ويلزمها عدد ضخم من الأجنحة، وهناك أيضا طريقة لطيفة أخرى وهى أن يتنكر السيد جبريل فى هيئة دحية الكلبى الصحابى الوسيم وينقل للنبى الرغبات أو الأوامر الإلهية دون أن يشك فيه أحد.!
وعندما سئل محمد عن كيفية الوحى رد قائلا:
“أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس وهو أشده على، فيفصم عنى وقد وعيت عنه ماقال وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى فأعى مايقول) قالت عائشة رض: “وقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا”(صحيح البخارى ج 1، باب كيف كان بدء الوحى إلى الرسول ص ص 145 ).!
“والقرآن نفسه يؤكد أن الوحى يصل لكل الكائنات، الحى منها والجماد أيضا:
”وأوحى ربك إلى النحل أن أتخذى من الجبال بيوتا،ومن الشجر ومما يعرشون”..”النحل” .!
ويلاحظ هشام معيط أن كيفية الوحى فى التراث الإسلامى تجعله هو الفاعل بينما الرسول مفعول به على الدوام، فماهو إلا وعاء للوحى ربما بلاإرادة منه، وهو مايهمش من دوره فى الرسالة:
“لقد خبا دور محمد تماما فى الوحى، وهذا مايتماشى مع المعتقد الإسلامى فى أن القرآن الكريم كلام الله بحذافيره لفظا ومعنى، وهذا مامنح الإسلام مصداقية وقوة”(هشام معيط، الوحى والقرآن والنبوة، ص 41 ).!
ولهشام معيط أيضا رأى مهم وكاشف للغاية فى موضوع النبوة وكيفية الوحى:
“يقول إريميا نفسه: من لم يكن مرهقا مزعجا وتكلم وهو مجبر (من قوة خارجية) بل من تلقاء قلبه فلايكون نبيا، أصيلا” وهكذا النبوة فعلا بالمعنى الدقيق، لابد من قوة خارجية أو تبدو كذلك بكل صدق ، لابد أن يخبو العقل الذاتى، ولابد أن ينزعج النبى ويدخل فى حالة أزمة وإرهاق داخلى”(هشام معيط، الوحى والقرآن والنبوة، ص 76 ).!
وهو السؤال نفسه الذى يؤرق فكر د البوطى:
“أهو نوع من الإلهام النفسى، أم هو حركة فكرية داخلية، أم هو إشراق روحى جاءه عن طريق الكشف التدريجى، أم هو ضرب من الصرع والجنون كان ينتابه كما قيل، أم هو إستقبال لحقيقة ذاتية مستقلة عن كيانه يتلقاها من خارج فكره وشعوره؟. ( د محمد سعيد رمضان البوطى، من روائع القرآن، ص 27 ).!
هذا باختصار شديد هو طرق الوحى من الله للأنبياء، فهل كان محمد نبيا يوحى إليه، أم أنه كان مريضا بالصرع كما يقول عنه بعض المستشرقين؟
“الحقيقة أن الأعراض المصاحبة للو حى عند محمد ليست هى أعراض الصرع، فالصرع يؤدى إلى إنهيار القوة البدنية والعقلية، بينما كان محمد ص فى كامل قواه العقلية والبدنية، وفى كامل ملكاته(محمد فى مكة ، مونتجمرى وات ص 130 ).!
نستطيع أن نقول بثقة أن الأعراض التى كانت تصيب محمد مختلفة تماما عما تصيب مرضى الصرع، لسبب بسيط وجوهرى وهو أن محمد بمجرد إفاقته من تلك الحالة، كان على الفور يردد آيات جديدة وصلته من القوى العليا أو جبريل، ومريض الصرع لايمكن أن ينهى نوبته بكلام منسق عاقل مثلما كان يفعل محمد، ومن هنا نستطيع بعقولنا أن نرفض هذا الإتهام.!
ونأتى للسؤال الثانى المهم: كيف لنا أن نفرق بين النبى الصادق ومدعى النبوة؟
هناك مقياس للنبوة طرحه بن الواندى ملحدنا الشهير، هذا المقياس هو العقل:
“إن الرسول أتى بما كان منافرا للعقول، مثل الصلاة وغسل الجنابة ورمى الحجارة أو الجمرات فى الحج، والطواف حول بيت لايمسع ولايبصر، والعدو بين حجرين لايضران ولا ينفعان، وهذا كله مما لا يقتضيه العقل، فمالفرق بين الصفا والمرة إلا كالفرق بين بي أبى قبيس وحرى، ومالطواف على البيت إلا كالطواف على غيره من البيوت”.( ابن الواندى الملحد، ص 21 ).
إذن بالعقل توصل هذا المفكر إلى زيف نبوة محمد، فمن حقنا بالعقل إذن أن نضع النبوة تحت منظار العقل، فإن أتى النبى بمايخالف العقل حسبناه من الكذبة، والعكس بالعكس قطعا.!
النبى الصادق هو الذى يستطيع أن يأتى بالمعجزات ليراها الناس ويؤمنوا بقربه من الإله، فهناك من يثبت نبوته بأن يمنع المطر عن قومه لعدة سنوات، وهناك من يثبتها بأن يجعل النار تلتهم القربان الذى قدمه للإله، وهناك من يركب فى مركبة نارية تطير به إلى السماء أمام الناس جميعا، وهناك من يحى الموتى، وهناك من يجعل المرأة العقيم تحبل، وأطرف معجزة كانت للنبى إليشع الذى عندما عايره الأطفال بأنه أقرع أثبت الرجل نبوته بأن إستدعى دبا لتأكل عشرات الأطفال والمعجزة ليست فى موت الأطفال بل فى ظهور دب لأول وآخر مرة فى فلسطين.!
والسؤال هو: هل قام محمد بمعجزة مثل هذه المعجزات؟
يقول المسلمون أن لمحمد معجزات كثيرة، فهو يتكلم مع الحجارة ومع جذع النخلة، وأن هناك سحابة تظلله فى الشمس الحارقة، وانه يفهم لغة الناقة، وأنه يعلم المستقبل، وأهم معجزاته أنه زار بيت المقدس وصعد للسماء وقابل الرب شخصيا وعاد للأرض فى جزء من الليل.!
ولكن تواجهنا مشكلتان فى هذه المعجزات:
الأولى انها جميعا معجزات سرية لم يرها أحد على الإطلاق، والأساس فى المعجزة أن تكون علنية حتى تقنع الناس بصحتها.
المشكلة الأخرى أن القرآن نفى عن محمد قيامه بأى معجزة على الإطلاق :
هنا نعيد سؤالنا: هل كان محمدا نبيا؟
بالمقاييس السابقة لا لم يكن محمد نبيا، فهو لم يقترف المعجزات، ولم يصعد للسماء على مرأى من الجميع، ولم يشق بحرا أو يحى ميتا، ولم يفعل حتى مافعله موسى ببساطة بأن جلب الضفادع والجراد على أعدائه، ولكن لكوننا لانعرف كل الحقيقة فمن حقنا أن نحسب أن هناك طرقا أخرى للوصال بين الإله والبشر غير ماعرف اليهود، فمحمد كان يتلقى تعليماته من جبريل شخصيا، أما مباشرة من فم لفم، وإما بأن يلقى فى قلبه مايشاء، وإما بالموافقة على كلام أحد الصحابة وإعطاء الجملة التوقيع الإلهى، أى أننا لانعرف كيف ولم يختار الله أنبياءه، ولانعرف أيضا كيفية دعمه لهم من فوق سبع سموات، ولكنا فى نفس الوقت لانستطيع أن ننكر التأثير العظيم الذى أحدثه محمد فى العالم.
و يبقى لنا أهم مافى الموضوع وهو إخلاص محمد لقضيته وتعريض حياته للخطر من أجل إتمامها رغم كثرة الأعداء والعقبات، هذا التصميم العجيب يبين لنا بالتأكيد أن محمدا كان يؤمن تماما بوجود صلة ما بينه وبين السماء، وانها هى التى كلفته بنقل رسالتها للبشر، فمن المستحيل أن تجد كاذبا أو مدعيا يواجه ماواجهه محمد فى حياته من عقبات ومصاعب ويصبر عليها، إلا لو كان متأكدا من عدالة قضيته ومن دعم السماء له أيضا.
ولعل أجمل ماقيل فى مسألة النبوة هذه، هو ماقاله معروف الرصافى:
“إن كان محمد قد قال للناس إن الله أرسلنى إليكم بشيرا ونذيرا، وهو بهذا القول قد وقف بين الناس موقف المصلح المخلص، فهو صادق فيما قال لأن إصلاحهم يقتضى أن يقول أنه رسول الله، وإن كنا قد عجبنا من قوله”إنى رسول الله” فذلك لأننا لانفهم معنى الرسول إلا بالطريقة المألوفة عندنا وهى أن يعمد الرجل منا إلى آخر فيقول له مباشرة أو بالواسطة إذهب إلى فلان وقل له كذا وكذا، فيكون الذاهب عندنا رسولا مع أنه فى الحقيقة لاينحصر كونه رسولا فى هذه الطريقة، بل أن الرجل إذا ألقى الله فى روعه الإصلاح وألهمه القيام بالدعوة إلى الإصلاح وأتاه من العزم والصبر والحكمة ما هو كاف لنجاح الدعوة كان بالضرورة رسول الله أى رسول الوجود الكلى المطلق اللامتناهى، فكل من كان كذلك كان رسول الله، وكل من قام بالدعوة على هذا الوجه من المصلحين فهو رسول الله.!( معروف الرصافى، الشخصية المحمدية، ص 45) .!
حسنا نحن سنصدق أن محمدا كان بالفعل رسولا من إله قابع هناك فى السماء السابعة، وهذا الإله لكى يستحق منا العبادة لابد وأن يكون خيرا، وبالتالى ستكون تصرفات نبيه وتعليماته تحمل المثل الأعلى السماوى لما يراد لنا أن نفعل، فهو فى النهاية قدوتنا نحن البشر العاجزين عن إيجاد صلة مع السماء، فهل كان محمد قدوة للبشرية لو اقتدت بهديه سارت على طريق الخير؟
فلنبدأ سويا فى إلقاء الضوء على أهم المراحل فى حياة محمد علنا نظفر بالإجابة اليقينية.