القارئ للتاريخ وخاصة التاريخ السياسي للدول سيلاحظ أن الدولة الدينية، وأعنى بها الدولة التى يقيم حاكم الدولة فيها سياسته على التوجيهات الدينية والمستشارين الدينين، كانت دائما وبدون استثناء دولة مستبدة تقمع الحريات وتقهر مواطنيها.
ولتجنب الدخول في تفاصيل قد تحتاج إلى بحث مستقل يؤرخ لمسار الدولة الدينية منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا. دعونا ننظر نظرة سريعة إلى تاريخ الدولة الدينية فى المسيحية والإسلام. سنرى انه منذ اعتنق الإمبراطور قسطنتين المسيحية وفرض على المسيحيين مذهب واحد، سنجد أن مسار الحكم الديني المسيحي كان واحدا حتى تخلصت أوربا من هذا الحكم الثيوقراطى القاسي من خلال ثورات دينية تمثلت فى ظهور البروتستانت أو الثورات الشعبية مثل الثورة الفرنسية. فقد تم اضطهاد كل من خالف الحاكم الديني المدعوم من الكنيسة فتم قتله وحبسه سواء كان هذا الخلاف علمي أو ديني أو حتى مذهبي. حتى أن عصر الشهداء المصري هو نتاج القهر الروماني للمصريين لمجرد أنهم يعتنقون مذهب مسيحيا مخالف لمذهب حاكم الدولة. حتى سقط هذا الحكم المستبد وفرضت العلمانية نفسها كضرورة حضارية وإنسانية كانت طريق خروج أوربا من عصور الظلام إلى عصر التنوير والعلم.
أما على الجانب الإسلامي فلم يختلف الأمر كثيرا، فيمكن رصد الاستبداد الديني منذ قرر أبو بكر الصديق مقاتلة مانعي إرسال الزكاة إلى المدينة ثم فى سياسات عثمان بن عفان والذي واجه الثورة علية والمطالبة برحيله برده الشهير "لا أنزع قميص ألبسانيه الله" فهو يرى انه معين من قبل الله وليس من قبل الأمة وبالتالي لا يملك أي إنسان عزلة. ثم استبداد معاوية والأمويين من بعدة بالأمر وقتلهم لكل معارض لهم ولعل في سيرة رجلهم القوى الحجاج بن يوسف الثقفي ما يغنى عن الدخول في التفاصيل. ثم الدولة العباسية والتى أجرت الدماء أنهارا منذ اللحظة الأولى، ودولة بنى عثمان التى كان يفتتح سلاطينها حكمهم بقتل أخوتهم منعا للفتنة وجرائم العثمانيين فى الدول التى احتلوها تفيض بها كتب التاريخ.
أما في عصرنا الحديث فنظرة سريعة إلى إيران وأفغانستان والسعودية وغزة والسودان والصومال تغنى عن أي كلام. فهذه الدول المنكوبة بالحكم الديني ورغم اختلاف القائمين على الحكم من حيث انتمائهم الفكري فأفغانستان وهابية جهاديه، وإيران شيعية، والسعودية وهابية أمريكية، وغزة والسودان إخوانيه وأخيرا الصومال يتصارع عليها الإخوانجية والوهابية الجهاديه. إلا أنهم جميعا يدعون أنهم من يمثل الدين الحق على هذه الأرض وبالتالي فطاعتهم واجبة ومعارضتهم كفر ومحاربة لله ورسوله. وجزاء محاربة الله ورسوله معروفة هي القتل أو الصلب أو قطع الأيد والأرجل من خلاف. فغير مسموح بمعارضة الدولة في أي أمر من الأمور على طريقة إن أوريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد. أو كما عبر عن ذلك مرشد الإخوان محمد بديع "نحمل ماء السماء الطهور لتطهير المجتمع المصري من نجاساته"
هذه هي الحكومة فى الدولة الدينية فماذا عن المجتمع أو الشعب فى مثل تلك الدولة المستبدة القاهرة؟
عندما يجد الإنسان نفسه فى مواجهه قوة غاشمة لا يستطيع أمامها حولا ولا قوة، يلجأ الإنسان إلى النفاق بإظهار خلاف ما يبطن طلبا للسلامة وأملا فى النجاة برزقه وحياته.
ففي السياسة سيلهج لسانه بالثناء والدعاء لولى الأمر حاكم البلاد والعباد ظل الله وخليفة رسول الله، فى الوقت الذي يلعنه فى نفسه سرا ودون أن يسمعه أحد خوفا من أن تطير رقبته أو يختفي فى غياهب السجون دون محاكمة ودون أن يعلم أحد مكانه.
أما فى المجال الاقتصادي حيث يكون المرتبطين بالمذهب الديني للحاكم هم أصحاب الحظوة الاقتصادية والمنفذين لمشاريع الدولة الكبرى التى تتخطى أرباحها الملايين، لا يجد رجال الأعمال حفاظا على أموالهم وأعمالهم إلا لبس القناع الديني طلبا لعطف الحاكم. فى نفس الوقت الذي يصبون فيه اللعانات على الحاكم المستبد الذي يفرض رؤيته الدينية عليهم.
وفى مجال الاجتماع يصبح الأمر أكثر سؤً. فنرى محجبات ومنقبات وملتحين، ومصليين ومصليات بالإكراه. فتكون النتيجة أن يكون تحت الحجاب والنقاب دعارة وتحت اللحى نصب واحتيال، ومصلين ومصليات ملحدين وملحدات. لا يجمعهم إلا هدف واحد هو النجاة من بطش الحاكم الفقيه.
وتكون الكارثة الكبرى على مستوى الاعتقاد، عندما تجد شعب أغلبيته الكاسحة حسب سجلات الدولة من المؤمنين والمؤمنات على مذهب الحاكم الديني. ولكنهم فى الحقيقة ليسوا كذلك فمنهم من يعتنق عقيدة أخرى غير عقيدة المستبد المؤمن، ومنهم من يكون قد كفر بكل العقائد بعد رأي ما رأي ممن يحملون راية الإله ويقولون أنهم يحكمون بشريعته. فأمر العقيدة أمر خطير فى الدولة الدينية، فقد تكلفك كلمة تقولها بغير قصد حياتك، لأن العسس وحراس العقيدة فهموا منها انك تسخر من عقيدة سيدنا الولي.
هذا ما فعلة ويفعله الحكم الديني منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا. حكم مستبد ومجتمع منافق.