في هذا القسم نتابع البحث حول المفهوم والمصداق عن معنى التعدد المباح ، والتعدد يجوز في النكاح ولا يصح في الزواج ، والفرق بينهما فرق مفهومي ودلالي يظهر ذلك في اللغة وفي الإصطلاح .
والخلط بين النكاح وبين الزواج درج في لسان الناس من خلال العرف الذي أسسه الدين السياسي الذي ساد مع حاكمية عمر بن الخطاب ، والدين السياسي في العادة لا يعتني بالمفهوم الدلالي للكلمة بقدر تعلقه بما هو في مصلحة النظام والحكم السياسي ، ومفهوم التعدد يرتبط بمفهوم الحرية التي أباحها الله في الكتاب المجيد للناس كافة ، كما ورد في صيغة المتعة وصيغة الهبة و نكاح المحصنات كما في
قوله تعالى : - والمحصنات من النساء ، إلاّ ما ملكت أيمانكم ،
- النساء 24 - .
والإحصان في اللغة يعني المنع ، وهو أصل ثلاثي صحيح المصدر ، والمرأة المحصنة هي الممتنعة عن ممارسة الجنس مع قدرتها على ذلك وقيل هي - الراهبة - ، وكذا الرجل المحصن هو من يمنع نفسه عن ممارسة الجنس مع قدرته عليه ، والنص يعتبر نكاح المحصنات من حيث المبدأ جائز ولا مانع منه ، وأصل الجواز مرتبط بأصالة الإباحة ، وحين يتم الربط في النص بين نكاح المحصنات و ملك اليمين فهو يعني كون أصالة الإباحة في الحالين واحدة ، و معنى الإباحة هنا هو الإطلاق مع عدم التقييد لعامة النساء إلاّ ما خرج بدليل خاص .
وحين أكد الكتاب المجيد في غير موضع على أهمية نكاح المحصنات في أكثر من موقع فهذا دليل على إن المنع الذي يقول به البعض مخالف للأصل ، والأصل في هذا النص كون النكاح هنا أمر مقدر ورد في صيغة ولفظ - كتاب - ، نعم إن أصل الإباحة وأصل الجواز يرتبطان بالشرط الموضوعي الذي ورد في لسان المعنى عن - العفاف والحرية - ، ويخرج من عموم معنى الإباحة هنا السفاح بإعتباره فعل مخالف للشريعة .
وكما قلنا فإن النكاح المسموح هو فعل يتم عبر عقد صحيح يقع بين الطرفين ، ومنه عقد - المتعة - الذي يتم بين طرفين وضمن شروط صحيحه ، وهذا ما فهمناه من دلالة فعل - أستمتعتم - الوارد في سورة النساء ، ولأن فعل النكاح بشري عام كذلك جوازه عام كذلك ، وكما إن نكاح المرأة المحصنة المؤمنة بنبوة محمد بن عبدالله جائز ، كذلك يكون نكاح المحصنات من أهل الكتاب جائز على نحو عام ، بدليل قوله تعالى : - والمحصنات من المؤمنين والمحصنات من الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم إذا اتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين - المائدة 5 - .
النص يبين إن أصل الإباحة عام مطلق ولا خصوصية فيه ، وواضح إن النص يدلل على صحة العقد المؤقت أو المنقطع بدليل وجود قوله - أتيتموهن أجورهن - ، وقد مر إن عقد الإجارة عقد مؤقت مرتبط بزمن ومدة .
كما يظهر ذلك أيضاً بقوله تعالى : - إني أريد أن أنكحك أحدى أبنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج - القصص 27 - .
النص قال : اريد ان انكحك ولم يقل أريد أن أزوجك ، لأن الزواج لا تُذكر فيه المُدة ، لكن ذكرها في النكاح جائز مع تعدد مفهوم النكاح ومعناه ، و يظهر لي إن دلالة المعنى في هذا النص ترتبط بدلالة عقد المتعة ، ذلك لأنه قد جعل من النكاح مرتبط بمدة الأجر التي يقضيها عندهم - أجر العمل وأجر المنفعة - ، ومنه يتبين كذلك صحة عقد الإجارة الذي مر في القسم الثاني ، والذي يمكننا ضمه إلى مفهوم العقود المؤقته ، ويدل على صحة عقد الإجارة ،
قوله تعالى : - ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا أتيتموهن أجورهن – الممتحنة 10 - .
وكما قلنا فإن أصل الصحة مرتبط بأصل الإباحة ، وعقد الإجارة من مصاديق عقد نكاح المتعة ، وهذا النص يؤكد على ذلك ، وكما قلنا في القسم الثاني في جواز نكاح الهبة الذي لم يجعله الله خاصاً بالنبي كما ذهب إلى ذلك الإمام أبي حنيفة ، كذلك نقول نحن هنا بجواز نكاح الإجارة في لفظه ومعناه ، نعم منع الكتاب المجيد نكاح البدل الذي كان جارياً في الجاهلية ، كان يقول الرجل - بادلني بإمرأتك وأبادلك بإمرأتي - .
إن أصل وسبب إباحة تعدد النكاح في الكتاب المجيد ، مرتبط بالحاجة الطبيعية للبشر وكذلك لطبيعة الأوضاع والظروف التي يصنعها التنازع بين الدول والممالك ، كم إن للأصل قيمة موضوعية مرتبطة بالواقع الموضوعي الذي يتحدث عن عدد النساء في العالم قياساً إلى عدد الرجال ، وهناك ثمة جانب بايولوجي يرتبط بالطبيعة الفلسجية للمرأة فهي في العادة تبلغ قبل الرجل فهي بحاجة إلى الجنس ، وفي العادة تبلغ وهي بنت عشر سنيين على عكس الرجل الذي يبلغ في العادة وهو أبن خمسة عشر سنة ، وهناك الحاجة المادية التي من لوازمها حماية الرجل والمرأة على حد سواء من الوقوع بما هو أشد ، نعم الإباحة تتحرك في جانب موضوعي وطبيعي ، وهي من الفطرة التي حجبها الفقهاء لسوء قصد وخدمة لنوايا السلطان ، إذ إن الكتاب المجيد فتح الباب في هذا المجال لأنه يعي إن الجنس يرتبط بالغرائز والشهوات وحاله كحال الأكل والشرب ، الذي لا يجوز فيه الحد إلاّ مع الضرورة ، كذلك قال - أنكحوا ما طاب لكم من النساء - في صيغة العدد الكثير المضروب بنفسه ، وليس في صيغة العدد الصحيح وعلى هذا قال الزجاج والزمخشري وأبو مسلم الأصبهاني والشيخ متولي الشعراوي رحمه الله ، ومنه يظهر إن المنع وقع بفعل هيمنة الدين السياسي على الدين ، مما أربك العلاقة والقوة مع الكتاب المجيد ، ولهذا قال قائلهم : - إن وجد التعارض بين قول الكتاب وقول أصحابنا فالمعول عليه ما قاله أصحبنا - !!!! ، وقد جرى هذا في سلم فهم الكتاب والفقه والتاريخ والأخبار ، وتحول الناس إلى مقلدين وتابعين فتراجع الفكر والإجتهاد والبحث العلمي ، وكل ذلك بسبب تراجع الحرية التي صادرها رجال دين محسوبين وعاملين في خدمة السلطان والبلاط ، وفي مسألتنا هذه أيضاً قمعت الحرية تحت بند الزواج وتعريفه الفقهي السلطاني ، وأختفى التعدد الصحيح وشاع الفساد والإنحراف ، لهذا نردد من دون علم كلمة قالها الإمام – لولا عمر ما زنى إلاّ شقي - ...
يتبع