في البداية نحن حريصون على التذكير بقيم - الليبرالية الديمقراطية - وفي مفهومها للعيش المشترك بين الطوائف والقوميات ، وفي إيمانها بالوحدة الوطنية ،
والإيمان هذا نزوع وتوجه وسلوك معرفي يعبر عندها و بشكل عفوي عن نزواعات الإنسان المحب للحياة والساعي لكي يكون الخير فيها عاماً ، إن الوحدة التي تعنيها الليبرالية الديمقراطية هي ليست الوحدة الإندماجية ولا هي الوحدة الإكراهية ، بل هي الوحدة التي يرتضيها الناس ويصوتون عليها بشكل تسالمي و طوعي .
هي الوحدة التي تقبل بالآخر كما هو تقبل فيه وفي وجوده وثقافتة وتكوينه ، والقبول هنا ليس إستجابة لدواعي مرحلية ، إذ الكلام هنا ليس كلاماً سياسياً لكنما هو مشاعر وشعور في الأحقية وفي الوجود وفي الهوية وهذه مكونات وطنية لايمكننا القفز عليها أو تجاوزها ، و نحن هنا لا نجادل في الحق ولا نرتضيه لنا ولغيرنا .
من هنا يأتي إيماننا بالفدرالية كصيغة ممكنة للعيش المشترك في الوطن الواحد ، وكصيغة مفترضة للخروج من الأزمات السياسية والنفسية والإجتماعية والثقافية التي تُصنع أو هي تعبير عن واقع حال ، والخروج ليس بمعنى الهروب أو عدم القدرة على التعاطي مع الأزمة ، بل هو في كيفية الحل ؟ وكيف يجب ان يكون ؟ ، و تمدنا هنا تجارب الدول المتحضرة بما لديها في هذا المجال ، تمدنا خبرتها وتمدنا طاقتها الإستيعابية في قبول التنوع وقبول التخالف ، وقبول الخصوصية الثقافية بما هي لغة وفنون وبماهي مفردات خطاب في الفكر وفي الحياة .
والذي يعزز هذه الخصوصية القدرة النفسية والسعة على التعاطي معها وإستيعابها ، وهذه القدرة وهذه السعة هي التي توفر الأمن والسلام و العكس صحيح ، فالسعة النفسية وعدم الإمتعاض والشعور بحقوق الأخرين في التعبير عن أنفسهم هي الدعامة الأولى لمعنى السلام كما إنه القاعدة التي ترسخ الطبيعة الجديدة والممكنة لمعنى الهوية ، وأرجوا الإنتباه إلى إننا في ذلك لا نريد الفصل الوطني أو التجزئه في جسد الدولة ، بل نريد الثقافة التي تُشيع الشعور بالحرية الثقافية والفكرية وفي الخطاب المجتمعي المحلي .
إن من يريد أو يؤمن بالوطن الواحد عليه أولاً : أن يؤمن بهذه الحقيقة فهي المقدمة الأولى لصناعة الدولة الحديثة ، كما إننا لا بد أن نعترف بأننا جميعاً وبدرجات متفاوتة أرتضينا أو قبلنا بتدمير أسس الدولة القديمة التي قامت على أساس الأحادية والمركزية في المؤوسسات وفي القرار - دولة دكتاتورية بإمتياز - .
إن قبولنا بالفدرالية ليس مناقضاً لإيماننا بالدولة المتحدة أو الواحدة ، كما إننا حين نعتبر تشكيل الأقاليم مبدأً دستورياً لا نصادر حق الدولة الواحدة ، هذه ثقافة مريضة والإيمان بها مرض كذلك ، أو هو تعبير عن سلطة الدولة التاريخية المركزية القاهرة ، إن مفهوم تشكيل الأقاليم الفدرالية من حيث هو وفي طبيعته الثقافية والإقتصادية والإدارة المحلية هو الممكن الذي قلناه في مسودة الدستور الذي كتبه - الحزب الليبرالي الديمقراطي العراقي - للجمهورية العراقية ، لأن ذلك يعزز ثقة مفهومنا عن الوطن الواحد في شكله المتحد المتسامح الممتد والقابل للعيش مع التنوع ، وتأتي قضية السعة النفسية في قبول الأقليم حتى وإن خرج هذا الإقليم من عباءة مفهوم أفعل ولا تفعل التاريخية والمركزية ، فنحن نعتبر الأقليم في فعله وفي عدمه إنما يتخذ ما يرآه ممكناً وصالحاً له وللمواطنيين الذين هم يعيشون في المحوطة الجغرافية التي يمتد ويعمل بها و عليها .
وفي طبيعة الأقليم تتنوع الصلاحية من فتح قنوات إتصال مع العالم الخارجي وفتح مكاتب لدول العالم دبلوماسية وتجارية ومعاملات إقتصادية من غير الرجوع للمركز ، ولا تعارض ولا تناقض في ذلك من الناحية الدستورية مع الحكومة المركزية ، إذ هناك ثمة أشياء سيادية على الجميع إحترامها وهي في الغالب محدودة ، وهناك ثمة أشياء فدرالية خاصة وهي في الغالب عامة وكثيرة .
وهنا أشير مع دواعي إحترامي وتشجيعي لتجربة - الإمارات العربية المتحدة – التي تعجبني فيها طبيعة تشكيلاتها وعدم تصادمها مع المركز ، إذ إن في كل إمارة مجلس تنفيذي هو بمثابة الحكومة المحلية وهناك أمير أو الشيخ الحاكم ذو السلطات الواسعة التي لا تتعارض مع سلطة رئيس الدولة المتحدة أو الإتحادية ، هذه التجربة أستوحاها الشيخ زايد رحمه الله من الواقع وأستطاع بفضل حنكته وحكمته لم الجميع وإحتضانهم ، ولم تضق عينه ولم يستحوذ على خير أو نعمه من البلاد لمصلحته أو لمصلحة إمارته ، وهنا تتجلى الطبيعة الممكنة التي يمكن القبول بها ، أقول يمكننا إستنساخ هذه التجربة على نحو أخر ينسجم مع طبيعة مجتمعنا وتركيبته العامة ، وفي ذلك لا نضيم ولا نُضام بل يمكننا إحتضان الجميع وتفتييت صور المشكلات وكيف تصنع ولماذا ؟ وكلامي هذا أخص فيه العراق الذي تتراكم فيه المشكلات ويتفنن البعض في صُنعها .
بل إني أظن إن الدولة الفدرالية المتحدة ممكنة لجميع البلدان العربية فمشكلاتها حسب ما أفرزته الثورات العربية واحدة ، فالطائفية والمذهبية والمشكلات النفسية والثقافية تسبب إرباك للجميع ، لهذا نقول الحل في الفدرالية كما قررتها - الليبرالية الديمقراطية - ففيها يكون الجميع مسؤولون وفيها يكون الكل سواسيه من غير أحقيات ، كما إن فيها يظهر كل فريق حجمه وقدرته من غير تسويف أو إدعاء ..