أنهى البرلمان بجلسته في الأول من آب 2011 القراءة الاولى لمشروع قانون الاحزاب الذي قدمته الحكومة. وإذ يعتبر تقديم مشروع القانون، الذي طال انتظاره، خطوة بالاتجاه الصحيح،
وكذلك تثبيته عدداً من المبادئ الديمقراطية السليمة في بناء الأحزاب وتمويلها، وتأكيده على اعتماد مبدأ المواطنة كأساس لتشكيلها، إلاّ أن المشروع أثار جدلاً واسعاً بشأن الكثير من بنوده التي انطوت على ثغرات جدية عدّها بعض السياسيين ورجال القانون انتهاكاً خطيراً للدستور في مجال الحريات وتقييداً لها، ومسعى ً لشرعنة التدخل السافر للسلطة التنفيذية في شؤون الحياة الحزبية وانتهاك استقلاليتها.
ان الاحزاب وسيلة لتطوير الحياة السياسية وتنظيم المجتمع، وللارتقاء بالوعي وتمكين المواطنين من المشاركة الفاعلة في ادارة شؤونه. وبما انها تعبر عن مصالح ورؤى الطبقات والفئات الاجتماعية، ونظراً لتعدد وتنوع هذه المصالح، فان الاحزاب والتعددية الحزبية هي حالة موضوعية في المجتمع وتعبيراته السياسية يجب احترامها وصيانتها وتنظيمها ديمقراطياً. لا ديمقراطية ، ولا ديمقراطية نيابية دون أحزاب سياسية، فهي اذاً أحد أركان النظام الديمقراطي. ويمثل غياب قانون للاحزاب في الفترة الماضية، خصوصاً منذ إقرار الدستور في 2005، خللاً كبيراً في العملية السياسية والنظام الانتخابي، تجلت نتائجه الوخيمة في الانتخابات البرلمانية، وآخرها تلك التي جرت في آذار 2010 وما شابها من انتهاكات وتجاوزات خطيرة، كان من بينها غياب ضوابط لتمويل الاحزاب، وساهم غياب هذا القانون، الى جوانب عوامل أخرى معروفة، في افراغ العملية الانتخابية من محتواها الديمقراطي وفرض هيمنة القوى المتنفذة، وبالتالي تكريس المحاصصة الطائفية والقومية البغيضة أساساً للحكم وتعميق أزمته التي عانى ويعاني منها شعبنا ويدفع ثمنها غالياً.
من البديهي اذا، ان يتطلع شعبنا الى تشريع قانون للاحزاب يكون ديمقراطياً وليس مقيداً للحريات، ويكون رصيناً، متزناً، محايداً، لا أن يكون منحازاً الى القوى المتنفذة وراعياً لمصالحها وضامناً لإدامة هيمنتها وإحكام قبضتها على السلطة بالضد من ارادة الشعب. كما ينبغي ان يكون مساعداً على تشكيل الاحزاب، بدلاً من وضع عقبات وشروط تعيق النهوض بدورها المطلوب في ضمان أوسع مشاركة للمواطنين في الحياة السياسية وتحقيق تطلعاتهم المشروعة. ومن المفترض، حسب الفقه القانوني، أن تتوفر السمات التالية في هذا القانون: ضمان الشفافية، الاستقلالية والحرية، العدالة والمساواة، الوضوح والاختصار والبساطة. فهل تتوفر هذه السمات والمعايير في مشروع قانون الاحزاب الذي أقرته الحكومة وقدمته الى البرلمان؟
ان المسألة الأخطر في مشروع القانون تتمثل في المادة (2) /ثالثاً، والمادة (19)/ثانياً، التي تتضمن تشكيل ما يسمى بـ"دائرة الاحزاب السياسية" وتكون تابعة لوزارة العدل ويرأسها موظف بدرجة مديرعام!
ان القاء نظرة سريعة على الصلاحيات المناطة بهذه الدائرة التابعة لوزارة العدل يكشف مدى التدخل الفاضح الذي ستمارسه الحكومة في شؤون الاحزاب السياسية في حال تمرير مشروع القانون بصيغته الحالية.
ومن شأن استحداث مثل هذه "الدائرة"، التابعة لوزارة العدل، تمكين السلطة التنفيذية من التدخل الفظ في الحياة الحزبية وانتهاك الحريات والحقوق الديمقراطية التي كفلها الدستور. ويعني عملياً تنصيب الحكومة "رقيباً" على الأحزاب ونشاطها السياسي.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد. فهذه "الدائرة" وصلاحياتها هي جزء من منظومة تشريعية/اجرائية تنتهك المعايير التي أشرنا اليها أعلاه والتي يفترض توفرها في أي قانون ديمقراطي للاحزاب. وتبدو "بصمات" الحكومة واضحة في بنود مشروع القانون وفقراته، في المجالات الاتية:
- تحديد محكمة القضاء الإداري،كجهة تمنح إجازة تأسيس الاحزاب، وهي تابعة للسلطة التنفيذية.
- التدخل الواسع في التنظيم الداخلي للاحزاب والتجاوز على حقوقها، وما تمثله المادة (32/ ثانيا) من انتهاك لمبدأي الحرية والاستقلالية. ووفقا لصياغات القانون تصادر حقوق الاحزاب في وضع أنظمتها الداخلية من قبل السلطة التنفيذية. كما تتيح مواد مشروع القانون، في اكثر من موضع ، امكانية للسلطة التنفيذية في حجب الاجازة عن حزب ما او ايقاف نشاطه.
- تعتبر المبادئ المتماثلة في برنامج الحزب وعدم تميزه عن برامج احزاب اخرى سببا في عدم منحه الاجازة (المادة (8)/ثانياً). وفي ظل غياب معايير وأسس التمييز فان هذا النص يكون عرضة للاجتهادات المتناقضة.
- إيقاف نشاط أي حزب يمكن أن يتم عن طريق تقرير ينظمه موظف في "دائرة الاحزاب".
ولابد من لفت الانتباه ايضاً الى الطبيعة العقابية المفرطة لمشروع القانون، كما يتبين من "الاحكام الجزائية" في الفصل العاشر.
كما يشار الى صياغات مبهمة ومربكة، واخرى قابلة للتأويل، يتضمنها مشروع القانون.
ولا توضح المادة (5)/ثانياً، التي تنص على انه لا يجوز تأسيس الحزب على أساس "... التعصب الطائفي او العرقي او القومي" كيف يفسّر ويقاس هذا التعصب؟ كما ان هذه المادة لا تذكر التعصب الديني.
ان هذه الملاحظات المكثفة حول مشروع قانون الاحزاب السياسية لا تتناول كل الثغرات التي يتضمنها، بل سعت الى تسليط الضوء على أبرزها وأكثرية جدية، وما يشكل انتهاكاً خطيراً للحريات والحقوق الديمقراطية التي يكفلها الدستور، بهدف الاسراع الى معالجتها بصورة جذرية ولضمان تشريع قانون ديمقراطي للأحزاب.
ومن اجل تحقيق هذا الهدف، نؤكد من جديد على جميع قوى شعبنا، والباحثين والمختصين ومنظمات المجتمع المدني الحريصين على حقوق وحريات المواطنين دون تمييز، وارساء مقومات دولة مدنية ديمقراطية حديثة، الإسراع في تقديم أرائهم وملاحظاتهم حول مشروع قانون الأحزاب ، وعلى البرلمان التعامل بجدية مع ما يقدم بشأنه، سواء من الاحزاب والكتل الممثلة فيه او ما يرد من خارجه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
افتتاحية جريدة "طريق الشعب"