لقد نشـأت الليبرالية في الفكر السياسي الغربي وتطورت في القرن السابع عشر وان لفظة الليبرالية لم تكن متداولة قبل بداية القرن التاسع عشر ويعتبر (جون لوك) هو أول واهم الفلاسفة الليبراليين ،
وأن من أهم أسباب نشوءها هو الانتهاك العنيف والمدمر لقيمة الإنسان في أوربا تحت اسم الدين ( سلطة الكنيسة ) بالإضافة إلى استبداد الإقطاع والأنظمة الملكية الحاكمة للمجتمع والتي حطمت كرامة الإنسان ولم تبقي فيه مساحة لأدنى حرية ، أذ أن هذا الاستبداد والانتهاك قاد إلى ظهور صراع بين تلك الأنظمة المستبدة وبين القوى الفكرية والاجتماعية ، هذا الصراع كان مدعاة لنضوج الفكر الليبرالي ، فالنظام الملكي كان يعتبر أن الحكم هو حقه الموروث والمطلق والممنوح له من خالق الكون وفق مشيئة إلهية وان الحاكم ليس مسئولا اتجاه المحكوم بشيء ، عليه فقد رفضت القوى الفكرية والاجتماعية ادعاء هذا الحق ، وقررت بان الحكم ليس حكرا ً لفئة معينة بل يجب أن يكون مبنيا ً على رضا المحكوم لان الشعب هو مصدر الحكم وأن الحكم حينئذ مسألة أمانة لا مسألة حق، وهذا ما حدث بالفعل للملك جيمس الثاني الذي خلعه الشعب عن العرش عام 1688م في الثورة البيضاء الشهيرة والمعروفة بأسم الثورة المجيدة .
علاقة الليبرالية بالاتجاهات السياسية الأخرى
لقد ساهمت اتجاهات عديدة في صياغة الفكر الليبرالي بسبب مشكلة كان يعاني منها العديد من المفكرين على اختلاف توجهاتهم وهي مشكلة انتهاك حقوق الإنسان، ومن هذه الاتجاهات :
1- العلمانية والتي تعني فصل الدين عن السياسة ، إذ لاتكون الدولة ليبرالية ألا حيث تكون علمانية ، لكن يمكن ان تكون علمانية بعيدة كل البعد عن اية توجهات ليبرالية كالعلمانية الاستبدادية التي طالما أكتوت بنارها الشعوب العربية وبالاخص شعبنا العراقي طيلة عقود من الزمن .
2- العقلانية والتي ترى بأن العقل الإنساني بلغ من النضج قدرا يؤهله لآن يرى مصالحه ونشاطاته دون وصاية من أحد .
3- الإنسانية والتي تأتي من حقيقة الأيمان بالدفاع عن حقوق الفرد مع الثقة التامة بقدرات وقابليات الإنسان فإذا ضاعت حقوق الفرد ضاعت الليبرالية .
4- النفعيــة والتي تهدف إلى تحقيق النفع والسعادة إلى اكبر عدد ممكن من الناس، والليبرالية كفكرة إنسانية وجدت لأجل منافع الإنسان وكرامته ورفع معاناته من ذوي السلطة.
إن الليبرالية السياسية نظام سياسي يقوم على ثلاثة أسس هي العلمانية والديمقراطية والحرية الفردية ، وترى الليبرالية السياسية انه من الضروري أن تزداد إلى ابعد حد ممكن استقلالية السلطتين التشريعية والقضائية عن السلطة التنفيذية ، وإعطاء الأفراد ضمانات كافية في مواجهة تعسف السلطة .
مفهوم الفكر الليبرالي:
أن حقيقة الليبرالية لابد إن تتضمن عاملين أساسيين إذ لا يتحقق النظام الليبرالي الا بهما ، الأول هو الاستقلالية ( غياب الإكراه ) والثاني هو دور السلطة في بناء النظام الليبرالي من خلال كفها عن التدخل في شؤون الفرد وفرض السيطرة بالقوة أو الاستخفاف بالإنسان وإجباره على اعتناق مالا يريد . وقد يتبادر إلى ذهن القارئ بأن المفهوم الأول ( الاستقلالية ) سوف يكون سببا في الفوضى والعبثية بسبب غياب العوائق التي تحد من قدرة الفرد على إن يفعل ما يشاء ، بل إن الاستقلالية التي يعنيها المفكرون الليبراليون هي الاستقلالية التامة للفرد عن طريق تحرره الذاتي المنسجم والمرتبط في نفس الوقت باحترام القوانين والأنظمة التي تتلاءم وبناء نظام سياسي ليبرالي متطور. ويؤكد الفكر الليبرالي على القبول بأفكار الأخر وأفعاله حتى وأن تعارضت معه بشرط المعاملة بالمثل ، والليبرالية لاتمنع أي دين أو مذهب من ممارسة طقوسه وشعائره ولا تدعو إلى أية عقيدة أو ملة ، إذ تقوم على الحياد التام تجاه كل العقائد والمذاهب والملل فلكل فرد الحق في اعتناق ما يشاء وله الاستقلال التام في ذلك وان لا يجبر على قبول فكر معين أبدا وان كان حقا ً ، كما تمنع أقحام الدين في السياسة أو في شؤون الحياة وهذه هي العلمانية لذا لانجد دولة ليبرالية الفلسفة ألا وهي علمانية التوجه في الفكر . كذلك يرفض الفكر الليبرالي أن تكون إرادة الفرد مسلوبة ، ويطالب بإخضاع الاراء والمعتقدات للنقد والتمحيص في جو من الحرية والانفتاح والعقلانية والقبول ، أنها فكر يرى الحق في أن يكون الفرد حراً وعليه مسؤولية تقصي الحقيقة واتخاذ الموقف الخاص والدفاع عنه وعلى كافة الأطراف السلطوية ( مجتمع ، قبيلة ، حكومة ، جماعة ، ملة ) أن تحترم هذه المزايا والرغبات في الإنسان. ويرى الفكر الليبرالي أن تحديد نطاق سلطة الدولة ( وان كانت ديمقراطية ) هو أمر ضروري كون أن هناك علاقة عكسية بين سلطة الدولة وحرية الفرد ، حيث كلما زادت سلطة الدولة وتوسع نطاقها نقصت حريات الفرد وضاق نطاقها ، بالإضافة إلى إصرار الفكر الليبرالي على إمكانية تمتع المواطن بقدر واف من الحريات دون أن يهدد ذلك استقرار المجتمع وأمنه. أما الليبرالية الاقتصادية فأنها تقوم على أساس منع الدولة من تولي الوظائف الصناعية أو التجارية ولا يحق لها التدخل في العلاقات الاقتصادية القائمة بين الأفراد والطبقات، وتنادي بإزالة قيود الدولة على الإنتاج والتجارة، وأن سبب هذه النظرة هو إلحاق الضرر بالمصلحة الاقتصادية الفردية والجماعية عندما تتدخل الدولة في الاقتصاد . ويعتبر آدم سميث ( 1723م – 1790م ) هو صاحب هذه النظرية ، فصاحب المتجر عندما يؤمن لنا ما نحتاجه من حاجيات يومية لا يفعل ذلك حرصا منه على حياة الناس بل بدافع مصلحته الخاصة وحبه للربح المادي ، والمستهلك بدوره لا يشتري السلع المتوافرة في السوق حرصا على مصلحة المنتج أو التاجر بل لامتلاكه الحاجة والرغبة على شراء ما يحتاج . لذا فأفضل خدمة تقدمها الدولة إلى المجتمع هي تسهيلها للإفراد سعيهم إلى خدمة مصالحهم الخاصة وان لا تتدخل باسم المصلحة العامة أو العدالة والمساواة فتمتلك كافة وسائل الإنتاج وتحدد كمياته وأسعاره وهذا هو مبدأ الاقتصاد الحر. إن الليبرالية هي السبيل الأصلح الذي يتيح لنا منهجا إطاريا للمحتوى الحضاري وهي خيار إستراتيجي لا يتعارض مع كافة المتبنيات العقائدية لشعبنا وتطلعاته نحو الأهداف النبيلة التي تنتشله من الجهل والتخلف والضياع . وأنا أتناول هذا الموضوع أدرك تمام الإدراك بأن فكرة الممارسة الليبرالية التي يتبناها الليبراليون هي موضع تساؤل لدى الإسلاميين كون أن هناك الكثير منهم لا يزال يعيش حساسية المصطلحات الغربية وينظر إلى الليبرالية كمبدأ مستورد ولد من رحم حضارة وثقافة مغايرتين لحضارتنا وثقافتنا وبذلك تلتبس الرؤية عندهم من خلال هذا التضاد المفترض . فيما نرى إن هذا الالتباس في غير محله لأن الله سبحانه وتعالى وهو مصدر السلطات قد أوكل مهمة الخلافة إلى الإنسان منذ أن خلق ادم (( وإذ قال ربك للملائكة أني جاعل في الأرض خليفة )) وهذا تأكيد على إن الإنسان هو محور الحياة وان الدين إنما جاء من اجل الإنسان وحفظ كرامته التي طالما عبث بها العابثون على مر العصور ، ونرى بأن تبني المنهج الليبرالي الذي لا يمس المتبنى الحضاري الإسلامي سيكون كفيلا بتصحيح تلك الرؤية . إن الحرية قيمة كبيرة بل جوهرية في بناء مجتمع ديمقراطي ، وان الحرية التي ننشدها هي تلك الحرية التي تتصل بعقولنا كممارسة وبحواسنا كفعل وتكرس إحساسنا بالوجود والقيمة وهي الحرية المحسوسة وليست الحرية التأملية التي تشغل بال الشعراء والمفكرين . ومثلما نؤمن بان الإسلام لا يقبل الإكراه وهو المؤشر على النور في بحر الظلام ، نؤمن بالحرية ونعتبرها حقا مقدسا وهذه القداسة تأتي من احترام القانون للإنسان
( أفرادا وجماعات ) والتزام السلطة باحترام أرائه كونها سلطة يفترض أن تنبثق منه لتسعى إلى تفجير طاقاته ودمجها في عملية البناء والتغيير . ولكي لانقع في هاوية الفهم الخاطئ للفكر الليبرالي فأننا نحتاج إلى وعي سياسي عميق للحياة والواقع والتاريخ وهذا ما تتطلبه عملية النهوض الحضاري والتغيير الشامل الذي نصبو إليه في عراق اليوم . وإذا ما رجعنا إلى نقطة البداية كما أسلفنا بأن الليبرالية تقوم على أساس حق التمتع الآمن بالحياة وحرية إبداء الرأي وحق الملكية والعدل والمساواة ، فأننا لانجد أي نقاط اختلاف مع ما جاء به ديننا الإسلامي الحنيف ، بل على العكس نرى بان الدين يدعم جوهر الليبرالية ويعزز منهجيتها ، بل إن الإسلام يتصدى لمسألة التخلف الحضاري للأمة ويؤكد على مسألة التقدم البشري في كل الميادين التي من شأنها تسهيل دور الأمة في مسيرتها نحو الرقي. كما ان الأهداف الأساسية التي تسعى أليها الليبرالية هي أهداف إنسانية تسبق في وجودها الحضارة الغربية كما تسبق التاريخ الذي تم فيه ولادة مصطلح الليبرالية ، وهذه الأهداف هي الحرية والعدالة والمساواة وهي مبادئ تمثل أرثا إنسانيا عاما وقيما إنسانية عليا ، كون إن الإنسان في كل مرحلة تاريخية يتطلع أليها كحلم يتوق إلى تحقيقه على ارض الواقع ، وان ما حقـقته الحضارة الغربية هو نجاحها في أيجاد مجموعة من الآليات القانونية والسياسية التي قربت شيئا من ذلك الحلم إلى ارض الواقع وان الليبرالية هي إحدى هذه الآليات. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا نقف عاجزين كشعوب عربية على القدرة في استنساخ المنجزات التي حققتها الحضارة الغربية والاستفادة من النماذج التي قدمتها ولازالت تقدمها للإنسانية ، أليس من الممكن للثقافة العربية إن توجد آلية أو سبيل أخر تحقق به الهدف نفسه الذي نجحت في تحقيقه الحضارة الغربية ؟ بكل بساطة نجد إن الجواب هو عقدة التخلف التي تعاني منها الثقافة العربية والتي طالما كنا أسرى لها والمخاوف التي تسيطر على الشعوب العربية من الحضارة الغربية بالإضافة إلى المساهمة الفاعلة للأنظمة العربية في مقاومة موجة التغيير والإصلاح كما يحصل الآن في معظم البلدان العربية وعدم السماح للشعوب بالانفتاح على العالم الغربي ، لذا علينا أن نخرج من شرنقة الرواسب الضارة والمتغلغلة في أعماق الثقافة العربية والاستفادة من كل تجربة إيجابية تنسجم وتتلاءم مع تراثنا وأخلاقياتنا.