ثمة حقيقة لا يمكن نكرانها أو القفز عليها دون التأكيد عليها ، ألاّ وهي : إن العراق بفضل الديمقراطية غدى مختلفاً !! فهذا العراق المختلف لم يذق طعم وحلاوة الديمقراطية ولم يشعر بقيمتها واهميتها ، لأنه مع الأسف ضاعت هويته وأنسلخ عن عالمه من خلالها ، ولم يبق منه غير مجموعة حجر وتراب وذكريات ،
نعم كان يمكن للعراق ان يكون متقدماً بها ، وكان يمكن للإنتخابات ان تكون المظهر الذي يعبر عن حقيقتها وجوهرها ، وكان يمكن معها تبيان وإظهار هوية العراق الجديد من غير تشويه ، وكان يمكن لها ان تعبر عن نهاية الماضي بكل مايعنيه من أستبداد وظلم ، كان يمكن لها أن تكون البداية الموعودة لعصر النهضة والبناء ، كان يمكن ان تكون كذلك!!
لولا إن الجميع قد مارسها من غير قيم ومن غير وعي ومن غير ثقافة ، فصارت طريقاً للمناصب وللمقامات وللمظاهر الكذابه ، وانساق البعض بعيداً معها وراء أوهامه وأحلامه وطموحاته ، ناسياً مايعانيه العراق من طول التجارب وقسوة المعانات وسلسلة الهزايم والإنكسارات والوجع والألم ، هذا العراق كان يحلم نعم يحلم بمن يوفر له الحياة من غير كدورة ، حياة يشعر فيها إنه لازال حياً كائناً موجوداً يمارس طقوسه وعمله من غير ملاله .
الديمقراطية كما هي في الوعي الجماهيري ثقافة وسلوك إجتماعي حضاري وتربية أخلاقية وشعور ومسؤولية وطنية ، إنها قيم في الحياة الحرة التي ترفع من مستوى الوعي السياسي والإجتماعي لدى الجميع ، وتنمي لديهم قوة الشعور بالواجب الوطني والمسؤولية الوطنية ، فالديمقراطية لاتكون كذلك إذا أقتصر دورها في الحياة على التضليل والوهم والخديعة والكلام الذي لا يحمل في جوهره معنى نبيل وإيجابي ، والديمقراطية لا تكون كذلك إن لم تعبر عن الضمير بصدق ، وهي لاتكون كذلك إن لم تكن الضامن لحماية الناس من التعدي والخوف والجهل ، ولم تطلق فيهم روح المبادرة والخلاقية ، ولم تنطلق معهم لخلق أسس سليمة للحياة السياسية والإجتماعية ، فالديمقراطية ليست سلعة أو تجارة ينتفع بها نفر من الناس دون سواهم ، فالديمقراطية مهمتها القضاء على أسلوب العمل السياسي والإجتماعي البالي القديم ، و تحرير الذهن من عقلية الماضي وطريقة الإستحواذ على السلطة ، فهي نظام حياة طبيعي مغاير ومناقض للدكتاتورية والإستبداد والتفرد ، وهي روح كل الجماهير الممتلئة حب وتضحية ، وهي لذلك تتميز عن غيرها من النظم السياسية والإجتماعية .
ولكن رُب قائل يقول : ان الديمقراطية بالنسبة للكثير من أبناء الشعب العراقي قد فقدت معناها وقيمها ، وصارت عبارة عن مجرد شعارات وتزييف وتضييع للجهد والوقت ،
وأقول : نعم هذا صحيح بلحاظ الواقع الأليم والقاسي الذي يمر به الشعب العراقي والإستخدام السيء للديمقراطية من البعض ، لكن الديمقراطية في حقيقتها وجوهرها قيمة عظيمة تتجلى حين يعيشها ويمارسها الشعب بكيانه ووجدانه بصدق وصفاء ، وحين يتعرف على ثقافتها وآلياتها ووسائل إنتاجها وحركيتها وأنساقها في الحياة يشعر بأنها الضامن له ولمستقبله في ظل التدافع والفوضى واللانظام ، وحين يتسلل هذا الفهم لدى العامة وتُساوى بالدكتاتورية فالشعور هذا لدى المواطن مرتبط بالأفعال السيئة للحكام الجدد الذين ربطوا معناها في السلوك و الممارسة بنفس الطريقة التي كانت سائدة أيام النظام الدكتاتوري البائد .
فالديمقراطية كما نفهمها هي الضمان للتقدم وللحرية وللحياة الكريمة ، لأنها تعني عندنا حكم الشعب لنفسه عبر الإنتخابات الحرة ، كما لا يجب ان يكون الحكم على الديمقراطية من خلال سلوك سياسي العهد الجديد الغير متعلمين والغير مثقفين والمشبعين سلوكياً بالمذهب العتيق لمفهوم السلطة والحكم ، نعم لم نكن نحلم بديمقراطية متسعة كما هي في الغرب لكننا كنا نطمح ليكون إنساننا يشعر بمعنى الحرية وبمن يكون مؤهلاً لإدارة السلطة ، ولذلك وقفنا موقفاً إيجابياً منها منذ البداية ظانين إنها البداية الحسنة حين تمظهرت في الإنتخابات ، لكن هذا الظن وهذا الفعل لم يكن كافياً طالما إن الفاعل فيها لا يحترم رأي الشعب وحكم الإنتخابات وماتؤدي إليه ، ونحن نعتقد إن النكسة والمأزق الذي واجه الديمقراطية هو ذلك العقل السياسي العراقي الغير مُحرر من ذهنية الماضي وإسقاطاتها ، ولكي يتم ذلك لابد من خلق ثقافة ديمقراطية عالية ووعي إجتماعي يؤهل للدخول الفعلي بحركة الديمقراطية وقيمها ، كما يجب التذكير بهذه الحقيقة إن الديمقراطية التي نشأت في العراق إنما جاءت مصادفة ولم تأتي عن طريق التحرر والفعل الشعبي ، ولكنها مع ذلك جاءت مستجيبة وملبية لرغبة الشعب وما كان ينتظره من إنعتاق وتحرر من سلطة الحزب الواحد والرجل الواحد ، فكانت هي بمثابة الشرط الضروري لتقدم وتطور الشعب كما كانت هي الشرط اللازم لحيويته وفعله الموجب في الحياة .
ويجب ان لا يغرب عن البال إن مايتعرض له العراق اليوم من كارثة إنما كانت وتكون بفعل الكلام والشعارات التي يتغنى بها السياسيون الجدد وأعوانهم المنتفعون ، الذين تنكروا لمعانيها الإيجابية الرفيعة مما سهل الوقوع في الكارثة التي مهدت للإخفاق الشعبي هذا والذي يمثل الخطر الحقيقي على العراق وعلى شعبه ، أكثر بكثير من خطر الأرهابيين والقاعدة والفرق السائبة التي تقتل من غير رحمة ، كما يجب التذكير بهذه الحقيقة إن الكثير من أبناء الشعب اليوم يقفوا موقفاً سلبياً من هذه الخروقات والتجاوزات التي تحصل ضد الديمقراطية ومشروعها ، وهو موقف يعبر تارة عن حجج يروجها المنتفعون كالخوف من العودة إلى أحضان النظام السابق ، وتارة يكون من خلال التطبيل للخطر القادم من وراء الحدود ، وتارة بتخويف الناس من خطر الوقوع في الحرب الأهلية الدينية وهكذا ، والحق ان اللوم في تآكل ونهاية عصر الديمقراطية في العراق يقع على أولئك الذين شوهو معنى الديمقراطية ومسخوها طوال السنوات السبع الأخيرة ، وإذا تعرضت الديمقراطية للخطر اليوم فالمسؤولية تقع على أبطالها الجدد الزائفين الذين حولوها عن مسارها الصحيح ، وقرنوها بالدكتاتورية والأستبداد والظلم والخيانة والإرتماء بأحضان دول الجوار الفاسدة ، ونسوا إنهم لم يكن ليصلوا إلى ما وصلوا إليه لولا الديمقراطية ومنهجها في الحكم ، إن الديمقراطية جاءت ووفدت لتحرير الإنسان العراقي من هيمنة الأستبداد وتحريره من الظلم جاءت لتكون له الضمان لمستقبله ومستقبل أجياله ، ولم تأتي لتكون سيفاً جديداً يجرد الشعب من كرامته وحريته وإنسانيته ...