مواطن عراقي يتفحص مولد كهرباء بيتيا في متجر بمنطقة الكرادة - خارج بغداد («الشرق الأوسط»)
معد فياض
ماذا بقي في بغداد، من بغداد؟ وماذا تبقى من معالمها الحضارية، أبنيتها، مساجدها وكنائسها، شوارعها، حدائها، مقاهيها، أسواقها، مكتباتها، جامعاتها القديمة والحديثة، نهرها، نصبها الفنية، روحها، بهجتها وألقها، أغانيها وموسيقاها، مسارحها، ألوانها، دور السينما فيها، أزقتها العتيقة، بل الأكثر من هذا ناسها.
لا شيء تبقى من بغداد في بغداد اليوم، فهي ليست بغداد الأمس، وهي ليست بغداد البغداديين، هي ليست بغدادكم أو بغدادنا، أو بغداد كما عرفها أي زائر لها في السابق.. إنها وببساطة بغداد التي هي ليست ببغداد، ليست المدينة التي كان يتبغدد فيها المقيم والزائر منذ أن بنيت.. وحتى خربت.
»الشرق الأوسط» استغرقت لأكثر من شهر في سطح المدينة وعمقها، حولها وفوقها، فوق أرصفتها وعلى حافات نهرها، وبين ناسها وفي أسواقها، بحثا عن روح بغداد الألقة، فلم نجد سوى بقايا مدينة تتخرب كل ساعة ويوم أمام أهلها، وبرصد شهود عيان بعضهم يبكي من أجلها، والبعض الآخر يمعن في خرابها، وبعض ثالث لا يهمه ما يراه من مشاهدها الحزينة. هنا اكتشاف جديد لبغداد.. التي لم تعد بغداد. بغداد التي خرجت من بوابات الحروب والدمار متألقة دوما، إلا في هذه المرة، فقد خرجت ولم تعد حتى اليوم.
وراء أبواب الغرف المغلقة والمكيفة بصورة جيدة جدا وحول طاولات عامرة بالفواكه الصيفية العراقية وقناني المياه الصحية الباردة للغاية، وعلى إيقاع حركة الملاعق في أقداح (استكانات) الشاي البغدادي، تدور حوارات ونقاشات السياسيين وأنصاف السياسيين العراقيين، باسترخاء تام، لا حسابات فيه للوقت أو لمعاناة العراقيين الذين يتلظون بجحيم درجات الحرارة التي تتجاوز في أيام كثيرة من أشهر الصيف الطويلة الخامسة والخمسين، ووسط عواصف ترابية ترسل المئات من الأطفال وكبار السن إلى المستشفيات التي تشكو من أزمات في توفر أجهزة التنفس، يضاف إلى هذا انقطاع للتيار الكهربائي استمر في غالبية مناطق رصافة بغداد وكرخها إلى أكثر من عشر ساعات، وشحة غير مسبوقة في المياه.
»السياسيون العراقيون في نعيم»، هذا ما تقوله ندى عبد الكريم، (موظفة في إحدى الوزارات العراقية). وتضيف: «هم لا يعانون من انقطاع التيار الكهربائي ولا من شحة المياه ولا من عطل أجهزة التبريد، ولا من هموم عطل مولدات الطاقة الكهربائية البيتية السيئة المنشأ، ولا من أزمة النقل والاختناقات المرورية التي تجبر المواطنين على الانتظار في الشوارع وتحت أشعة شمس قاسية لأكثر من 45 دقيقة أو ساعة، كل هذا يجري بينما طلابنا يستعدون لخوض الامتحانات التي ستقرر مصيرهم ومستقبلهم». وتستطرد: «العراقيون تغلبوا على السياسيين في وطنيتهم، وفي صبرهم وقابلياتهم على التحمل». وتضيف هذه الموظفة ذات الـ34 عاما والتي تحمل شهادة ماجستير في اللغة الإنجليزية، في لهجة هي أشبه بالشكوى منها إلى الإيضاح: «لقد خرجنا وانتخبنا من اعتقدنا أنه يمثلنا وسوف يحقق التغيير الذي ننتظره منذ سنوات، ونتحمل كل يوم معاناة ليست إنسانية بكل المقاييس، ومع ذلك فهم يجرجرون مرة بالطول ومرات بالعرض ليس من أجلنا وليس لأغراض وطنية بل لأسباب شخصية ولمصالح ذاتية تخلو من الكياسة واللياقة»، مختتمة حديث شجونها بالمثل الشعبي: «من يده في الماء، ليس مثل الذي يده في النار وسياسيونا أيديهم في ماء بارد ونحن أيدينا في نار لاهبة».
من يعش ظروف هذه المرأة العراقية، وملايين العراقيين فسوف يبرر لها تماديها المشروع في الحديث عن السياسيين العراقيين «الذين يتمتعون بامتيازات هي أقرب لامتيازات الآلهة في الديانات الوثنية القديمة، سيارات فارهة محصنة ضد الرصاص، سيارات أخرى لحماية هذا السياسي وذاك البرلماني السابق واللاحق، سيارة تطلق المنبهات لفتح الطريق أمام السياسي الذي يسرع للوصول إلى بيته الفاره سواء في المنطقة الخضراء أو في حي القادسية المخصص للوزراء وأعضاء البرلمان المزمنين، بيوت لا ينقطع عنها التيار الكهربائي أو التبريد، مع وفرة في المياه وفرة تسمح بملء المسابح المترفة الملحقة بفلات حي القادسية بجانب الكرخ، ورواتب ومخصصات مالية تفوق كل التصورات، هذه الامتيازات التي شكلت غشاوة على أعين الكثير من أهل السياسة فلا يشاهدون واقع حال الناس وبوضوح»، حسبما يقول فائق الجنابي، مدرس في جامعة بغداد، مضيفا: «الموضوع ليس أزمات في الخدمات وحسب بل إن هناك أزمة في مشاعر السياسيين، أعني مشاعرهم الوطنية، وإحساسهم بمعاناتنا اليومية، وأزمة في أن نتفاءل بحدوث تغيير حقيقي خاصة بعدما سرقوا أصواتنا في الانتخابات، فنحن صوتنا للتغيير، للقائمة العراقية التي فازت بغالبية المقاعد البرلمانية، ثم فوجئنا بأكثر من مؤامرة تحاك ضد أصواتنا ومصادرتها للالتفاف على خيارات الشعب العراقي وإبقاء الأوضاع على ما هي عليه».
في بغداد بالكاد تستطيع أن ترى لون السماء وفي وضح النهار لوجود ملايين الملايين من الأسلاك المتقاطعة مع بعضها لتشكل شبكة هائلة فوق هذه المدينة الكبيرة، هذه هي الأسلاك التي تزود البيوت والمحلات التجارية بالطاقة الكهربائية المشتراة من أصحاب المولدات الكهربائية الخاصة والمنتشرة بين كل الأحياء السكنية والمناطق التجارية.
ويقول الجنابي: «لقد تشكلت طبقة جديدة من الأغنياء، من تجار الطاقة الكهربائية التي تباع حسب الأمبير، فأنا مثلا أدفع ما يقرب من نصف مليون دينار شهريا ثمنا للامبيرات التي اشتريها وبواقع 22 ألف دينار عراقي (20 دولارا أميركيا) للأمبير شهريا، ويكفي العائلة المتوسطة العدد من 10 إلى 12 أمبيرا، أي عليهم أن يدفعوا مبلغ 340 ألف دينار عراقي (250 دولارا) شهريا، علما أن هذه الامبيرات وبهذا المبلغ المرتفع بالنسبة للعائلة العراقية لا تبعث البرودة لا في أرجاء البيت ولا في الثلاجات، إذ لا يشغل سوى ثلاجة واحدة وبعض المراوح والأضوية من دون أن تتمكن من تشغيل جهاز تبريد واحد وبذلك يعني أن دفع هذه المبالغ فقط لإضافة إحساس لدى العائلة أن هناك طاقة كهربائية»، موضحا أن «التيار الكهربائي الذي تجهزه الحكومة (الوطنية) يصيب الناس بالإرباك، فما أن تأتي الوطنية ويتم تشغيل الأجهزة الكهربائية البيتية حتى ينقطع التيار بعد عشر دقائق أو ربع ساعة».
أزمة الكهرباء التي بدأت منذ عام 1991 على أثر القصف الجوي والصاروخي الأميركي للبنية التحتية العراقية، استفحلت كثيرا بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وكان العراقيون قد اعتقدوا بأن وجود الأميركيين في بلدهم سوف يصلح ما يمكن إصلاحه، وعلى الأقل موضوع أزمة الكهرباء والماء، لكن المشكلة تعقدت كثيرا، وتشابكت مثل تشابك أسلاك التيار الكهربائي في سماوات العراق عامة، وسماء بغداد خاصة. وفي ذلك يقول صفاء الدليمي، مدرس ومن سكان حي العدل بجانب الكرخ من بغداد: «لقد كان قادة المعارضة في الأمس يقولون ويطبلون في القنوات الإعلامية العربية والعالمية بأن صدام حسين يتعمد قطع التيار الكهربائي لإشغال وإلهاء الشعب العراقي عن الأمور السياسية من جهة، ويستخدم هذا الموضوع كعقوبة ضد أبناء شعبه، مع أن التيار الكهربائي وقتذاك كان ينقطع ما بين ساعتين أو أربع ساعات في أسوأ الحالات، ولا ندري ماذا يقول قادة معارضة الأمس الذين يحكمون العراق اليوم وهم يقطعون التيار الكهربائي ما بين 10 إلى 14 ساعة في اليوم، هل هي عقوبات جديدة يفرضونها علينا، أم إنهم يريدون إشغال الشعب عن أخطائهم واختلاساتهم وسوء الأوضاع الأمنية عامة».
ووجد البعض في الأزمة فرصة للكسب السريع والخيالي وظهرت طبقة أصحاب مولدات الطاقة الكهربائية وباعة الكهرباء الذين يثرون على حساب الناس وهناك تجار المولدات الكهربائية البيتية الذين سجلت مبيعاتهم أرباحا هائلة على مدى السنوات الماضية، ومعهم برزت في الضرورة فئة باعة وقود المولدات (بنزين وديزل) في السوق السوداء وبأسعار عالية، كما طفت على السطح، بالضرورة، طبقة مصلحي أعطاب هذه المولدات بسبب «استيراد هذه المولدات من مناشئ رخيصة وسيئة»، حسبما يوضح الدليمي. معاناة أخرى تضاف إلى حياة العراقيين الصعبة للغاية، تلك هي انقطاع مياه الشرب التي لا تصلح أصلا للشرب حسب تأكيد الدكتور زيد معلة، اختصاصي طب عام، الذي قال «إن المياه القادمة عبر الصنابير شحيحة وغير صالحة للشرب»، وتأكيدا لكلامه أحضر قدح ماء شفافا وملأه من ماء الصنبور فجاء الماء ممزوجا بالطين ذا لون مائل للبني، وقال: «هذا أوضح دليل، وفي بعض الأحيان يكون الماء مصحوبا بالحشرات الناعمة».
العراقيون المتمكنون ماديا يشترون زجاجات المياه الصحية الصغيرة منها والكبيرة لاستخدامها للشرب وأحيانا لغسل أجسادهم، وتشكو مريم حسن، تعمل صيدلانية في حي الحارثية بجانب الكرخ من بغداد، قائلة: «لاحظت أن شعر راسي بدأ في التساقط، وأن حبوبا ناعمة ظهرت على جلدي، وبعد المراجعات الطبية وإجراء التحاليل تأكدت بأن ما يحدث هو بسبب استخدام مياه الحنفيات القادمة من إسالة الماء الحكومية، كونها مياها غير معقمة، والمعروف أن نسب التلوث في أنهار العراق تبلغ درجات قياسية وغير صالحة للاستخدام البشري، لهذا يجب معالجتها كيميائيا بصورة جيدة وهذا لا يحدث على الإطلاق».
وتعلق مريم قائلة: «نحن نشتري قناني المياه المستوردة من الأردن أو الكويت أو السعودية»، تسخر بمرارة وهي تنوه: «هل من المعقول أن يستورد العراق، بلد الرافدين والأنهار قناني المياه من دول لا أنهار فيها».
الشرق الاوسط