الكاتب/ عياد أحمد البطنيجي
في سياق الانشغال العربي على كل المستويات السياسية والنخبوية، فضلا عن المؤسسات البحثية ووسائل الإعلام بالصعود التركي وتداعياته الإقليمية والدولية، يثار التساؤل التالي: ما هي ملامح خطاب المثقفين العرب تجاه هذا الصعود التركي واتجاه التغير الذي لحق السياسة الخارجية التركية؟
بعد رصد ومتابعة لما كتب حول هذا الانشغال العربي في خطاب المثقفين، نستعرض في هذا المقال، ملامح هذا الخطاب وقسماته، وبعد ذلك نقدم رؤية نقدية لهذا الخطاب، بغرض الكشف عن البنية الفكرية للمثقفين العرب. وجدير بالذكر أن هذا المقال يتناول بعض القراءات للمثقفين وليس كلها، فهناك قراءات معمقة وتستحق التقدير ولكنها قليلة ونادرة. وعليه فنحن هنا نقدم قراءة للصفة الغالبة لخطاب المثقفين تجاه الصعود التركي، فهذا ما يستحق الدراسة والبحث.
وفي هذا السياق، نجد من بين المثقفين من وصف تأثير الصعود التركي بأنه "خطف الأبصار وأسر القلوب". وآخر يقول: "إن الشرق الأوسط دخل العصر التركي". وثالث يناشد وزير خارجة تركيا بإنقاذ بلاده قائلا: " لا تتركنا يا داود أوغلو"، لأنك "تحمل في حقيبتك أفكاراً وتمنيات وحلولاً وضمادات وعقاقير". ورابع يرى بأن ثمة "تحولات إستراتيجية مهمة في المنطقة أسهم فيها الموقف التركي". هذه التحولات جعلت "إسرائيل خالية من أي تحالفات إقليمية للمرة الأولى منذ تأسيسها". وخامس يقول: "أصبحت إسرائيل تسعى إلى استمالة تركيا عن طريق وساطة واشنطن" بعد أن كان العكس هو الذي يجري. وسادس: "فتركيا الخلافة ستعود بإذن الله قريبا"؛ لأن الجسد العربي صار بعد زوالها "هزيل ومهتري"، وبعودة تركيا "الخلافة" يعود "العز والمجد". وسابع يرد التغير في الموقف التركي من الحليف الاستراتيجي "إسرائيل" إلى "صحوة ضمير المسئولين الأتراك"، هذا الموقف الأخير في غاية الغرابة، كونه يرد هذا التحول في المسائل السياسية والإستراتيجية إلى الضمير، وبالتالي يسقط من اعتباره العوامل الموضوعية سواء أكانت داخل تركيا أو في محيطها الإقليمي والدولي، ويعزل المجتمع التركي بكامله عن هذا "التحول الكبير" ويحصره فقط في ضمير المسئولين الأتراك. أي دكتاتورية ورومانسية وليس أكثر من ذلك !.
والأغرب وتحت تأثير "السحر التركي" يصف بعضهم الشعب التركي بأنه "شعبٌ من أفضل شعوب المسلمين"؛ لأنه " شعب يتميز بحميَّة إسلامية عالية، وبرُوح إيمانية رائعة". بأي مقياس قاس ذلك ؟ لا نعلم. والأنكى أن هذا الموقف العنصري يأتي على لسان "رجل دين" يدعي بأنه مفكر إسلامي، ويحمل مشروعا فكريا لاستنهاض أمة الإسلام، هذا المفكر يرد عودة تركيا إلى حضنها الإسلامي بغية "الدفاع عن أهل السنة ضد الأحلام الصفوية الشيعية"؛ لأنه ليس للعرب، في ظل ضعفهم، غير " الاعتماد على تركيا السنية(...) لذلك يُعَلِّق عليهم أبناء العالم الإسلامي آمالَ الوقوف أمام التغلغل الشيعي المؤَيَّد بالأنظمة الغربية". والأكثر غرابة عندما تساءل أحد المثقفين العرب: "هل توحد تركيا المشرق العربي ؟". وفي لغة مفعمة بالتمني والرغبات صور أحدهم تركيا بالقوة الرئيسية في المنطقة، وأنها ستلعب أدوارا " حيوية في كل الملفات المطروحة، رغم انف إسرائيل ولوبياتها" .
هذا على المستوى الفردي. أما على المستوى المؤسساتي، فهذه مؤسسة تمنح أوردغان جائزة العام 2010 " تقديرا للمنجزات الاستثنائية". وتلك تمنحه جائزة لـ"خدمة الإسلام "باعتباره أنموذجا" ولـ"قيامه بجهود عظيمة وبناءة". وأخرى تشيد بموقف أردوغان في مؤتمر دافوس، وتعتبر موقفه دليلا على " زوال عصر قوة السلاح ".
وفي ضوء هذه الرؤى، يتبن أن بعض العرب الذين بدؤوا بملاحظة التحول في السياسة الخارجية التركية، تعاملوا تعاملا ساذجا ومبالغا فيما يخص هذا التحول، والدور الموعود لتركيا، ليس الإقليمي فحسب بل والعالمي أيضا كما يجري تصويره. ورغم أن ملامح السياسة التركية ما زالت قيد التشكل، وأن قسمات المشروع التركي لم تتبلور بعد، إلا أن البعض أصدر أحكامه قطعية ويقينية.
والملفت للنظر أن هناك هالة كبيرة أحاطت هذا التغير التركي، ورسم دور يفوق طاقة تركيا وقدراتها وكأنها تعمل في فراغ دون أخذ قدراتها الفعلية وارتباطاتها الجيو-ستراتيجية، فضلا عن إضفاء نوع من الرومانسية والبطولة والشجاعة والمرونة الفائقة عليها. وبالتالي إحلال رغباتهم الذاتيّة محلّ الواقع، وكأننا لا نحلل هذا التحول المرتبط بدولة تتحرك في سياق إقليمي ودولي يضع عليها قيودا بقدر ما يفتح أمامها فرصا للتحرك، بل يتجاوز هذا "التحليل" وكأنك تقرأ لعاشقة تكتب عن عشيقها، أو عاجزا ينتظر المخلص. مع العلم أن تركيا لا تملك إلا القليل من الوسائل الخاصة اللازمة لتحقيق مصالحها التي لا تتناسب مع ارتباطاتها الإستراتيجية وتطلعاتها الإقليمية.
هذا التبسيط هو هروب من الواقع وانحياز وتشويه لحقيقة هذا التغير في السياسة التركية، واستغراقا في الرومانسية والخيال، بعيدا عن ارتباطات الواقع وحدود الحركة. وهذا يؤكد أن الفكر العلمي والموضوعي لم يكن جزءا من خطاب هؤلاء، بل سيطر الفكر الرغبي، والرومانسية الفاقعة على العقلانية، والتمني على الواقع، والحلم على الحقيقة، وهو تعويض سيكولوجي عن نقص حاد يعتري هؤلاء، وتعبير عن ضيقٍ من الأوضاع القائمة المزرية، وفي نفس الوقت يعكس حالة الفراغ الذي يعاني منه النظام الإقليمي العربي. وبالتالي ثمة أزمة منهجيّة في تفكيرهم. وباعتبار أن ثمة علاقة بين المعرفة والأطر الاجتماعية، فموقف هؤلاء الفكري مرتبط بضعف وترهل وهشاشة البنى السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد العربية. ويؤكد موقفهم "الفكري" هذا بأن الميثولوجيا( الأساطير والزيف والأوهام) تبرز في الفكر السياسي الوضعي كما في الخرافة الشعبية، مكتسيا، في كل حالة، شكلا خاصا من "العقلانية" أو المعقولية، كما يقول فالح عبد الجبار في كتابة "معالم العقلانية والخرافة في الفكر السياسي العربي، (ص54). وعليه فهذه الميثولوجيا عميقة الجذور في زوايا التفكير والوعي الاجتماعي. إذ تؤكد هذه القراءات أن هؤلاء المثقفين لم يتحرروا من إسار الايديولوجيا وأنها لا تزال فاعلة في وعيهم وتكوينهم الفكري، وبالتالي كل الحديث الذي قيل حول نهاية الايديولوجيا هو حديث ليس له أي سند واقعي. أضف إلى ذلك أن ولائهم السياسي لأنظمتهم كان طاغيا وعلى حساب التحليل الموضوعي المرتبط بالمصلحة القومية للعرب، وهذا يعني ضعف الفكر القومي لديهم. فمثلا نجد معظم المثقفين السوريين مرحبين بالصعود التركي، وفي المقابل نجد أن المصريين متوجسون وتنتابهم نزاعات شكك عميقة من الدور التركي. وهذا يعني أن مواقف هؤلاء غير مستقل عن مواقف أنظمتهم السياسية، كون أن النظام السوري رحب بهذا الدور، أما نظيره المصري عبر عن مخاوفه العميقة من هذا الصعود. وهذا ينبئ بأن الدور التركي الصاعد قد يحدث المزيد من الانقسامات العربية- العربية.
ولكن التساؤل هنا: هل توافق تركيا على هذه القراءات الساذجة ؟ بعبارة أخرى: كيف ترى تركيا نفسها ؟
إذا كانت تركيا بهذه القوة، كما يصورها هؤلاء، لماذا لم توفق حتى الآن في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟!، ولو كانت تركيا بهذا "السحر" لكان الأولى أن يستجدي الاتحاد الأوربي لكي تمن عليه وتقبل تركيا الدخول في الاتحاد بدلا من العكس!. ولو كانت تركيا كذلك لما شعرت بأنها مهملة، ولا تم تجاوزها في عملية تشكيل الصرح الأمني للقارة الأوروبية، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، رغم أنها تعتبر نفسها داخله بعمق وفي نسيج الصرح الأمني الأوروبي، ولما انحاز الاتحاد الأوروبي إلى اليونان، خصم تركيا اللدود، ولما فضلها على تركيا في مجالات الأمن والدفاع وغيرها من المجالات الأخرى. ولو كانت بهذه القوة لحسبت واشنطن لتركيا ألف حساب قبل أن تستخدم "قضية الأرمن" ضدّ تركيا، عندما قررت لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس الأمريكي بوصف المجازر التي وقعت عام 1915، وراح ضحيتها آلاف من الأرمن، بـ"الإبادة الجماعية"، ولما صوت البرلمان السويدي أيضا على قرار يعتبر ما جرى مع الأرمن هو إبادة، بل ذهب البرلمان السويدي أبعد من ذلك حيث نص القرار أن "السويد تعترف بإبادة عام 1915 ضد الأرمن، والآشوريين، والسريان، والكلدانيين، واليونانيين، الذين كانوا مقيمين" في أراضي السلطنة العثمانية، وبالتالي كل الأقليات المسيحية التي كانت مقيمة هناك. وذلك دون أن تعير العلاقات التركية-السويدية أي اهتمام. والغريب أن من الكتاب من اعتبر أن هذين القرارين يعدان في الحقيقة "انتصارا لتركيا"، رغم أن تركيا سارعت إلى التنديد بهذا التصويت، وعبرت عن استيائها وامتعاضها. وقام الرئيس التركي، عبدالله غل، بالاتصال بالرئيس الأمريكي، باراك اوباما، وطلب منه التدخل للحيلولة دون مصادقة الكونجرس على توصية اللجنة. كما وطالبت السويد أن "تتخذ خطوات للتعويض" عن قرارها الذي "لن يفيد العلاقات الثنائية وقد يلحق بها الضرر". بأي عقل قرأ كاتبنا هذا "الانتصار" ؟ بالطبع لا ندري، رغم أن تركيا لا تعتبره كذلك. وهكذا يتبن أن تركيا لا تشكل قيمة كبرى للاتحاد الأوروبي وبخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، الذي قلل من قيمة تركيا الإستراتيجية، ما أثار نقاشات داخلية حامية حول دور تركيا الإقليمي، لإعادة تقويم أهميتها الإستراتيجية، وإعادة تحديد مكانتها في المنظومة السياسية الجديدة على الصعيد الدولي. ولكن هذا لا يعني أنها فقدت قيمتها. نحن لا نقلل من قيمة تركيا، فلها مكانتها واحترامها، ولكن نقلل من قيمة المبالغة في الدور التركي، الذي يحاول أن يصوره البعض كـ"قبضاي إقليمي"، وكـ"عودة صلاح الدين". فأي مبتدئ في علم السياسة يدرك أن أية دولة تتبع سياسة ترمي إلى تحقيق مصالحها أينما وجدت. وعليه، فتركيا تعي جيدا دورها ولن تستطيع الذهاب بعيدا عن الخط المرسوم، ولن تتجاوز الخطوط الحمر؛ لأنها تدرك أن السياسة هي انعكاس لموازين القوى. وهذا ما نلمسه في تفكير أحمد داود أوغلو القائم على الموازنة بين "قوة الأمر الواقع"، و"قوة الحق الأصيل" في ضوء موازين القوى. هذا المبدأ يؤكد أن تركيا بلد يتبع مبادئ النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، بلد يؤمن بتوازن القوة وبضرورة السعي إلى تحقيق المصالح القومية حتى لو اقتضت الضرورة تحقيق هذه المصالح على حساب دول أخرى. وفي ظل موازين القوى السائدة، ستتأثر سياسة تركيا تجاه المنطقة العربية بروابطها المصلحية والاقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية، مما يجعلها لا تجرؤ على التعامل مع المنطقة بعيدا عن المشروع الأمريكي وسياسته في المنطقة.
وهنا نستطيع أن نقدم فرضية أولية وهي: أن أولوية المشروع التركي في المنطقة ستكون اقتصادية، وسيبتعد قدر الإمكان عن الأبعاد السياسية والإستراتيجية التي تثير حساسية المشاريع الأخرى في المنطقة، وحتى لا يصطدم معها. فقد تبين أن تفاعلات تركيا حتى الآن محصورة فقط بإيران، العراق، سورية، لبنان، والأردن، بهدف تحرير التجارة بين تركيا ودول المشرق العربي خصوصا، بغية تدشين سوق مشتركة. وقد عبر أحمد داود أوغلو عن تطلعات تركيا في تكثيف التفاعلات التجارية والاقتصادية والمالية بينها ودول المشرق العربي في العديد من محادثاته مع الجانب العربي. وعليه، فتركيا لن تضيف لنا نحن العرب إضافة إستراتيجية، ولن تقوم بأي دور بدلا عنا نحن معشر العرب.
تأسيسا على ما تقدم فإن الزعم، الذي يكثر ترديده، حول الدور الإقليمي والعالمي لتركيا، زعما يقوم على قدر هائل من المبالغة، فإن المرء لا يستطيع أن ينفي حقيقة أن تركيا لها مكانتها الخاصة في السياق الإقليمي والدولي، ولكن ما نقره نحن أن تركيا تواجه مخاطر أمنية لن تستطيع مواجهتها وتعزيز استقرارها الأمني لوحدها ودون مساعدة واشنطن والغرب وحتى إسرائيل.كما أن تحقيق تطلعاتها الاقتصادية بحاجة إلى إسناد أمريكي وغربي. لذا فإن سياستها سوف تأخذ بعين الاعتبار مصالح هؤلاء أكثر من غيرهم، حتى لو تطلب الأمر ضرب مصالح العرب بعرض الحائط، طالما بقي العرب غير مؤثرين في لعبة التوازنات السياسية، وبقاءهم أحد مكونات اللعبة السياسية، ولكنهم ليسوا المؤثرين الوحيدين أو اللاعبين الرئيسين، فقط هم قطعة شطرنج تمارس الضغوط عليهم من اللاعبين الرئيسيين.
وما يكشف عن القدرة المحدودة لتركيا هي المبادئ التي تقوم عليها سياستها الخارجية، أي "الموازنة" و"المسالك المتعددة". هذان المبدءان صكا بفعل الموقع الجغرافي الحساس لتركيا، وسوف نتحدث عن ذلك في مقال آخر، ولكن المهم في هذا السياق، أن هذين المبدأين يكشفان عن ضعف بنيوي في تركيب السياسة التركية. إن التركيز على مبدأ "المسالك المتعددة" وعدم القدرة على انتهاج سياسة ذات حد واحد، وإضفاء صفة التعددية على سياستها الخارجية، هذا يشي بأن تركيا عاجزة عن العمل بمفردها، وبذا لا تستطيع أن تفرض نفوذها، ونجاح سياستها مرهون بقبول الآخرين بها، وأن لا تكون على حساب مصالحهم، واجتراح سياسات تحظى بموافقة الجميع. ولا أعرف دولة استطاعت أن تبني علاقات متوازنة ومتكافئة مع الجميع، إلا الدول الضعيفة التي ليس لديها مشروع أو فلسفة سياسية خاصة، أو رؤية واضحة تسعى إلى تطبيقها، فالدول التي تسعى إلى التورط الإقليمي والدولي يجب أن تأخذ مواقف محددة وواضحة. كل ذلك يظهر مدى التحديات والمأزق التي تواجهه تركيا، ومدى التحديات التي تظهر مدى صعوبة تحقيق هذه المبادئ؛ لأن تركيا سوف تضطر في النهاية لأن تُقدِم على خيارات واضحة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لن تقبل الدول المنخرطة معها في تفاعلات ومصالح متبادلة بأن تستمر بسياسة الموازنة هذه، وتدهور علاقاتها مع إسرائيل دليل على ذلك. ورغم ما فعلته إسرائيل بتركيا، عن سابق دراية وتخطيط، بإهانة سفيرها، إلا أن الأزمة تم تجاوزها "فكان الاستقبال [التركي] الحافل لايهود باراك وتجديد الالتزامات الإستراتيجية تجاه إسرائيل" على حد قول أحد الكتاب النابهين. هذه هي لعبة التوازنات التي لا يدركها الكثيرون من المثقفين هؤلاء.