تعمد الخطاب الإسلامي السياسي مقابلة العلمانية بالإلحاد، وهو خطاب جرى عليه آباء الإسلام السياسي الإخوان المسلمون، بل أكثر من هذا تعمدوا النَّظر إلى العلمانية على أنها الانحلال والتنصل من الأعراف والتقاليد، وما تشبع به النَّاس من أحكام دينية اجتماعية. إنها وسيلة لشن الحرب على مَنْ لا يريد للدين الورطة بإدارة الدولة، عن طريق أحزاب ومنظمات بشرية ليس لها قدسية، سواء كانت عن طريق المرشد، كمثال الإخوان المسلمين،
أو الولي الفقيه، كما الحال في الأحزاب الدينية الشيعية.
وبعد جعل العلمانية والإلحاد على صعيد واحد، يأتون على تغريب فصل الدين عن الدولة، وجعلها دعوة أوروبية، لا تناسب شعوبنا، وتجدهم ينظرون إلى الدول، ذات الأنظمة العلمانية والليبرالية، بالموبقات فقط، مع أنهم أنفسهم، شيعتهم وسنتهم، سلفيوهم ومعاصروهم، تنعموا بالأنظمة العلمانية، ولم تحبس لهم العلمانية شعيرة عبادة، ولم تسألهم، عند نيل المساعدات، بما فيها إيجارات البيوت الفارهة، ولم يُسأل المعوقون منهم، الصادقون والكاذبون المتحايلون، عن ديانتهم وعن مذاهبهم! وهذا كله بفضل العلمانية.
أما أن العلمانية هي نظيرة الإلحاد فهذا باطل من الأصل، وهو امتشاق سلاح الدين ضد الدولة المدنية. فإذا كان الأمر كذلك هناك عدد ليس بالقليل، ومن كبار الفقهاء، يرون فصل الدين عن الدولة، وهم بهذا استندوا الى رؤية دينية واضحة المعالم.
أما الثانية فليست العلمانية بضاعة نشأت بأوروبا، واستوردها أهل الشرق، إنما هي فكرة بسيطة جداً، وليكن اسمها: ديمقراطية، مدنية إلخ... من الأسماء، وأراها ذات وجود قرآني ونبوي أيضاً، فالآيات الدالة عليها أكثر بكثير من اللاتي تفسر على أنها دالة على عكسها.
فكم نص قرآني وردت فيه دالة عدم السيطرة: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ» (الخاشية، آية: 22) مثلاً! وكم نص دلَّ على أن الدين البلاغ: «مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ» (المائدة، آية: 99)! وكم نص فيه دالة الحرية الدينية، وهي ما لا ينسجم مع هيمنة الدين على الدولة: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (يونس، آية: 99). وهناك آيات فيها دالة نفي الحفظ والوكالة، وكلها من مفردات السلطة.
لو سألت أحد الداعين إلى الدولة الدينية، أو أسلمة الدولة، ماذا بعد أربعة عشر قرناً، من خلفاء وحكام أنابوا الله في الأرض قولاً، فأين النموذج، الذي يُقتدى به! وهنا ينشق الجواب الإسلامي إلى مَنْ يقول: إنها دولة الخلفاء الراشدين! ولا تجده يتحدث عن قتل ثلاثة خلفاء من أربعة، في الصراع السياسي، وأن كلَّ الحروب التي نشبت أنها بين أهل الإسلام وأهل الردة! ومَنْ يجيبك أنها لم تأخذ طريقها الصحيح، بعد انحرافه منذ يوم السقيفة! ما العمل، وليس هناك معضلة في تاريخ الإسلام مثل معضلة الإمامة!
لا أظن أن وصف القرآن الكريم بأنه «حَمَّالٌ ذُو وُجُوه» (نهج البلاغة)، يتيح مشروعية دولة إسلامية! ولا صراحة الرسول: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» (صحيح مسلم) تعطي مشروعية لدولة دينية. لا أرى في الإسلاميين، الذين غادروا أحزابهم، إلى العلمانية أو المدنية، قد تخلوا عن صلاتهم وصومهم، أو أخذوا يضمرون الإلحاد، حسب ظن فقهاء الإسلاميين بمَنْ لا يرى رؤيتهم!
هناك قلق على التجارب الديمقراطية بمشاركة الإسلاميين، الذين يذهبون في مقالة تكفير العلمانية إلى حد الإزاحة، يتخذون الديمقراطية مركوباً إلى السلطة، وأن التجربة الإيرانية، وهي المحتذى بها، أبرز دليل، فالديمقراطية هناك حصرياً على المؤمنين بولاية الفقيه، والدولة الإسلامية لا تعترف لسواهم بحق سياسي!