الذي ألفه - الشيخ الركابي - في بداية التسعينات من القرن الماضي ، ويُعد هذا الكتاب الأول من نوعه وفي موضوعه ، سيما وإنه تكفل بنقد وتفكيك البنية التراثية التي قام عليها العقل الإسلامي والشيعي على وجه الدقة .
ولا نجافي الحقيقة عندما نقول إنه الأول في موضوعه ونوعه في هذا المجال ، نعم هناك ثمة محاولات قام بها نفر من الناس ، لكنها أفتقدت للموضوعية وللبحث العلمي المنهجي ، لذلك فقد حامت حول الأفكار من بعيد ولم تلامس الداخل إلاّ من خلال النزوعات المُغرضة الغير مأمونه ، لكنما هذا الكتاب هو بحث تحليلي من الداخل ، أعني من داخل القواعد والأصول التي قام عليها العقل الإسلامي الشيعي ، لذلك نقول إنه الأول دون سواه ، والكتاب في طبعته الأولى سنة 1994 م ، ناقش قضايا مثيرة للجدل تُعد في السابق من التابوات المقدسة التي لا يجوز بحال مناقشتها وتحليلها ، لهذا تكفل هذا الكتاب كما قلنا : بنقد التراكم التراثي والتاريخي الذي أثقل العقل وحدّ من حركته وقدرته وفاعليته ، لقد كان لفعل ذلك التراكم الدور في غيبوبة العقل الإسلامي وعدم قدرته على إتخاذ ما يجب من الأراء والأفكار ، ونبذ ما جاء عبر التقادم والنزاع السياسي و سيادة النزعة الكهنوتية الصرفه فيه .
و في هذا المجال أعني مجال النقد الموضوعي للعقل وللعقيدة تبدو المهمة ليست سهلة لكنها ليست مستحيلة ، نذكر هنا في مجال نقد العقل جرى تقليد للظاهرة من قبل رجالات نعتز بهم ، أثروا ولازالوا يؤثرون كلاً حسب تخصصه وكلاً حسب قدرته - ولكل مجتهد نصيب - كما يقولون ، كما لا يفوتني التنبيه بشخصية المؤلف - الشيخ الركابي - ذلك المجتهد في قضايا الدين والتراث من - فقه واصول - ، والركابي الشيخ يُعد واحدا من أهم الشخصيات الشيعية التي نادت : بتجديد آليات ووسائل الفكر الديني ، كما إنه نادى وبوضوح بتحريك أدوات إنتاج العقل الإسلامي الشيعي ليكون قادراً على مواجهة تحديات العصر والعلم وحاجات الناس المتنوعة ، مثله في ذلك مثل أبن رشد في التجديد ومثل لوثر في الإصلاح ، والكتاب هو من الحجم الكبير - طبع في بيروت في سنة 1994م طبعة أولى ، ويقع الكتاب في (182) صفحة .
ونحن وإيماناً منا بوجوب الإصلاح والتجديد ، قمنا ونقوم بنشر مايمكننا نشره ، هكذا فعلنا مع قضايا وقعة كربلاء و الموقف منها ومن الزيف والتزييف الذي علق بها ، وكذا موقفه من أهل السُنة وفتواه الشهيرة - بجواز التعبد بمذهب أهل السنة - ، و كذا قضايا العقيدة كمفهوم الإمام والإمامة وما يترتب على ذلك من العصمة ، و علم الغيب ، و البداء والرجعة ، والناسخ والمنسوخ ، و الأمر بين أمرين إلى ما هنالك كثير ، كما كان موقفه واضحاً تجاه السيد الخميني في مسألة - التمتع بالرضيعة - ..
ونقول ولأن الحديث يتناول بنية العقل الشيعي فهو بطبيعته حديث خطير ، ويستدعي المزيد من الحرص والدقة والحذر والمسؤولية والهدوء ، وبالتالي البعد ما أمكن من التطير والحماقة ، من أجل رصد العناصر القائمة فعلاً على أرض الواقع الموضوعي ، وتحريكها وتفعيلها بما يخدم هدف العقل بإعتباره صيرورة إحتماعية ثقافية نفسية ، وهو ثورة على مستوى الفرد والمجتمع كما يقول الإمام علي - ع - ,,,
إن نقطة البداية هي في البعد أولاً عن الأوهام والأفكار المزيفة والأحقيات المزعومة ، والتوجه بجدية نحو الواقع ، بما هو تاريخ وحاضر ومستقبل ، ولن يكون ذلك ممكناً إلا من خلال رؤية شمولية وحدوية ترى الشيعة من كونها دائرة ترتبط وتتداخل مع مجموعة من الدوائر الأوسع ، .
إن دراسة ونقد العقل الشيعي يمر بمنابعه ومصادره التأريخية والتراثية والروائية ، ومن دون معرفة تلك المصادر ، لا يمكن الحكم على صحة وخطأ العقل الشيعي ، ولا نعتقد كذلك بأن أية عملية نقدية إذا لم تجر نقداً ذاتياً موضوعياً لكل أدواتها وآلياتها المعرفية لن تكون عملية نافعة ومجدية .
إننا نسمع بين الفينة والأخرى من يطالب بإعادة كتابة التأريخ وإعادة النظر بمسائلة وموضوعاته ، ومع إن المطالبة مشروعة ولها ما يبررها ، ولكننا نعتقد إن تلك عملية شاقة وخطيرة تستدعي مراعاة ضوابط الحياد ، وعدم الوقوع في أسر الأحكام القبلية أو الأطر الضيقة ذات الإتجاهات المعروفة ,
إن للإعادة شروطاً مادية ، أهمها معرفة جدل الإنسان والتاريخ ،و جدل الصراع الطبقي الإجتماعي و الإقتصادي ، وكذا جدل الزمان و المكان ، وسلطة المرجعيات الدينية الحكومية ذات المنظومات الفكرية القهرية الإلزامية ، وكذا يجب التعرف على جدل الذات الموضوع الذي هو صيرورة إجتماعية تهدي إلى تطور في العملية النقدية ، بدءاً بنقد الأسماء والأشخاص من الأدنى إلى الأعلى وبالعكس ، وليس بالميسور تماماً تحقيق أشراط هذه العملية ، إذا لم ننبذ حالات : - التشويه والتكفير والتسقيط والإلزام بما لا يلزم ونبذ التعالي الردئ وعدم - . الإصغاء للغير
الشيعة كما نرى تمر في مرحلة حرجة من الإختبار ، فهي إن تمسكت بأدواتها العتيقة دون ملاحظة التطور التاريخي ، فإنها حتماً ستؤول إلى نهاية غير سعيدة ,
والتاريخ حافل بصور من هذا اللون ,
إن إعتبار التشيع بما هو مبدأ أخلاقي وقانوني ونظام في العقيدة والشريعة لم يأت صدفة ، ولكن هذا بما هو هو لا يعطيه الصلاحية أن يتجاوز حدود الله ، وأن يلغي دور العقل ، وأن يرتب نظاماً إكليروسياً بابوياً مقيتاً ، قائماً على موجة أستثارات عاطفية وظنون تخلفها فئات تحسن فن اللعب بالحبال ، وهذا كله غريب عن الإسلام وأهدافه النبيلة ، ولا يحقق شئ من هذا إذا بقيت الموجة في تزييف التاريخ والطعن بالحقيقة .
إن الإسلام كما نفهمه يجب ان يكون حركة من أجل الحياة ، لا يعرف الإنغلاق ويستوعب الغير ويحترم التطور المعرفي ، ولا يجد حرجاً في التعامل مع كل الأشياء بروح الإنفتاح ، الروح التي تساهم في دعم المشروع الحضاري الإنساني : مشروع العدل والحرية والسلام ، مشروع التقدم والنهوض المجتمعي العام ، الذي من أهدافة حماية الإنسان ، والدفاع عن حقوقه الطبيعية وحرياته العامة .
والإسلام كما هو وكما نفهمه لا يؤمن بالطائفية أو المذهبية أو القومية العنصرية ، بل يؤمن بالإنسان كوحدة واحدة ، يؤمن بسيادة القانون الذي يجعل من الإسلام واحة أمان لكل الناس بغض النظر عن إنتماءاتهم الإيديولوجية أو الدينية .
وللتأكيد على هذه الأشياء يلزمنا مواصلة النقد وإعادة البناء لكل لبنات التركيب التشريعي والعقيدي ، وإعادة النظر في مباحث الفقه وإزالة حالة الإجترار التي تغلف العملية الفقهية ، وإعتبار الفقهاء مفسرين بدرجة معينة للنصوص ليس أكثر ، من دون إغراءات أو زيادات سواء ً في الألقاب أو الكنى ,
وإعادة قراءة أصول العقيدة ، فهي حاجة ماسة ونحن نلاحظ الخبط والعشوائية وعدم التركيز والخوف من البعض في الدخول بهذا المجال ، فقضية الإمامة مثلاً تحتاج إلى تأسيس جديد ينسجم وحجم الفاعل وطبيعة النص .
وحجته ودلالته وإنطباقه على الواقع ، فالقضية بما هي تثير هنا إشكاليات متعددة وتقاطعات تاريخية وفكرية ذات دلالات معينة في مسائل الرجعة والبداء والمهدي ، ودراسة المضمون المعرفي للسنة النبويه ومحتواها وحقيقتها ، لأن البحث والتنقيب في هذه المسائل من أولويات صحة الإعتقاد والإيمان ، والتي يترتب عليها جدلاً حاجات المجتمع في التطور السياسي والإقتصادي والثقافي المعرفي .
ولابد للإعادة أن تأخذ بعين الإعتبار الموقف من أراخنة الدين ، من خلال تصحيح الإعتقاد من قواعد الأصول المقروءة والمكتوبة ، وهذا الذي نقصده سيؤدي إلى إعادة إنتاج في الوعي التاريخي ، الذي هو نبذ للتقديس الذي ألزمتنا به سلطة الأراخنة وسلطة المال مستغلة مشاعر الناس وحاجاتهم ، يظهر ذلك في الجدل الفئوي الضيق المهزوز ، ذلك الجدل الذي من مهامه إشغال الأمة ، وعدم إشعارها بمسؤولياتها وواجباتها الحقيقية ، وعليه فسلطة الأراخنة تقوم على جدل الأفكار المنقبضة والصراع المذهبي الهزيل ، وهي بذلك تحرف التاريخ ، وتطعن بالخطاب والنص القائم على موافقة الصحيح والصريح ,
وتعتمد في أحكامها على الصفة المعيارية التي تختزل الذهن والفكر معاً ، تختزل الإبداع خدمة للخرافة وقواها .
إن الأفكار التي يتبناها - الشيخ الركابي - على الصعيد المعرفي أثارت موجات من الجدل أدت إلى بروز حالة من الوعي تستلهم الماضي وقضاياه بروح عقلانية نقدية ، مما أسهمت في تشكيل تيار يؤمن بحقيقة التغيير والتجديد من أجل تحديث الوسائل والإستفادة القصوى من كل حالة إيجابية في تراثنا الحضاري وتاريخنا الزاهر .
لقد قدم في هذا المجال سلسلة من الكتابات التي تساهم في قراءة الموروث ، قراءة من وحي العقل والزمن الثقافي والبيئي والإجتماعي ، قراءة تأملية في الأرواق التاريخية والدفاتر الفلسفية ، محاولاً القيام بمقاربة منطقية بين الأخبار الروائية وآيات الكتاب المجيد مستهدياً بإدلاءات أهل البيت في هذا المجال ، بعيداً عن أجواء التطرف والغلو والتفريط ، ملتزماً المنهج الأصولي المقرر والمعروف لدى الجميع في قراءة النص وكيفية أستنباط الحكم من خلاله ؟
ولكن هذا الإجراء العلمي أثيرت حوله موجات من الجدل ، تحكمت في معظمها أوهام القبيلة وأوهام السوق كما يقول فرنسيس بيكون : - الأوهام التي صاغتها الذهنية النرجسية خدمة لقضاياها ومصالحها الضيقة ، أوهام السلفية الضبابية المتخلفة ، المعادية لحركة الإصلاح الديني وتجديد مباني التفكير ولذلك حاولت تشوية الحقيقة والطعن فيها ,
ومحاولة تخريب العقيدة وإفساد الشباب وتشكيكهم في حياتهم .
وبالمقابل إزدادت قناعة الجيل الجديد والمثقفين بالطرح الذي تبناه - الشيخ الركابي - على الصعيد التاريخي والفقهي والعقيدي ، وقد أستجاب الجميع لذلك وأبدوا شعوراً ينم عن قناعة وتصميم ، من أجل إدامة هذا النهج التحرري حتى يبلغ أهدافه ، مما جعله أكثر تمسكاً بالمطالب المشروعة في تغيير مباني العقيدة وإعادة النظر في مباني الشريعة ، إذ الأمر يخضع بالكلية إلى الزمان والمكان والحدوث ، وهي كلها أشياء إجتهادية ، للعقل وحده القدرة على إبداء الرأي فيها على التفصيل وهكذا فعل بالحدود التي تناولها درساً وتحليلاً .
إن أحداً لايستطيع التنبوء بمستقبل العقل الإسلامي إذا ظل الحال كما هو عليه ، وإذا أرتبطنا بالماضي أرتباط الظل بذي الظل ، إن فتح باب الإجتهاد على نحو جديد يتيح لنا إعادة تركيب أدلة الإستنباط ، وسيجعل منا أمةً أكثر ألتزاماً بقضايا التقدم والتحرر والإنعتاق من ربقة الظلم الطبقي الإقتصادي الإجتماعي .
إن مشروع - الشيخ الركابي - في التصحيح والإصلاح ، يؤدي إلى ردم كل ما يمكن حسابه خارجاً على الناموس والطبيعة الإنسانية ، إن مشروعه كما نرآه وكما هو مشروع ثقافي فكري حضاري ، يؤمن بالإنسان ويعتبره هو الغاية وهو المنطلق ، يظهر ذلك في الكتب التي نشرها في هذا المجال ، من أجل حلّ الإشكالية المعرفية والإيديولوجية في التعامل مع التاريخ والطبيعة والإنسان والدين ، وإعتماد العقل هو الدليل في عملية الوعي والتطور والفهم .
إن جهوده في هذا المجال تتركز على إنجاز قراءة معرفية للدين والإنسان ، قراءة حداثويه أكثر عصرنة وقبولاً ، قراءة يتداخل فيها الحاضر مع الماضي تداخل بناء من أجل أستشراف المستقبل والتنبوء بإحداثياته .
راغب الركابي