في منتصف الشهر الماضي نشرت جريدة نيويورك تايمز حديثاً للمستشار الاقتصادي السابق في القوات الأميركية في العراق، فرانك غنتر، يحذر فيه بشدة من أزمة وظيفية شاملة في البلاد تؤدي إلى احتقانات اجتماعية شديدة قد تنعكس سلباً على الوضع السياسي المتردي هناك.
وكان الحل جاهزاً لدى هذا الخبير، وهو المزيد من الانفتاح الاقتصادي، ومن دون أن يرجع إلى المعطيات المتوافرة في تقارير الأمم المتحدة أو مكتب المراقب العام لإعادة الإعمار في العراق وهو أعلى مركز سياسي – اقتصادي موجود في العراق ومراقب مباشرة من قبل الكونغرس الأميركي.
والحقيقة أن أرقام الأمم المتحدة والتي هي نـتـاج مسح ميـداني أخذت من عينات اجتماعية عـدة فـي مختـلف المدن العراقـية تـتـطابـق مـع أرقام المراقب العام والتي هي خلاصة مكثفة لدراسة منهجية في هذا الموضوع الخطير.
ويمكن القول بطريقة ملخصة أن الانفجار الاقتصادي سيكون أكثر دوياً من الأمني أو السياسي. إذ أن الداخلين من الشباب بمعدل أعمارهم بين 25 – 30 سنة إلى سوق العمل سنوياً يتجاوز ربع المليون شخص! وأن نسبة البطالة في عموم البلاد تصل إلى أكثر من 20 في المئة بينما تصل نسبة تحت البطالة إلى 30 في المئة في معظم أرجاء البلاد ما عدا المناطق الشمالية الكائنة تحت السيطرة الكردية.
والمشكلة المزدوجة التي يعاني منها العراق وعلى المستوى الاقتصادي البنيوي هي ازدياد معدل الإقبال على العمل وقلة الوظائف في المؤسسات الحكومية وضمورها في القطاع العام المهدم وانهيارها في القطاع الخاص المرتبك والذي يعيش في وضع أمني يحسد عليه.
وإذا أخذنا في الاعتبار مجمل العوامل التاريخية السابقة ومنها الاختناقات الاقتصادية والحصار وسوء التخطيط وتفشي البيروقراطية الكسولة والفساد الوظيفي لظهرت لنا الصورة في أبشع عناوينها.
لا شك في أن ما زاد في الوضع تردياً وفاقم من هذه الحالة الجوهرية للبلد هو الدور السلبي الهائل للعملية السياسية وارتكازها على المحاصصة الطوائفية والمساومات العرقية والصفقات الحزبية الضيقة. ويمكن القول من دون مجازفة أن عمليات التطهير التي جرت في المئات من المؤسسات قد استندت إلى قانون الاجتثاث السيء ومن دون معايير مهنية سليمة أو جداول وظيفية كفوءة. وهذا ما كرس العنصر المتناقض في بناء هذه المؤسسات ومسيرة عملها اليومية. والشيء اللافت أن التقارير الأميركية تشير بوضوح إلى أن الوزارات قد تحولت إلى ثكنات عسكرية ومراكز مسلحة للميليشيات الطوائفية والعرقية وأن هذه الوزارات تعاني من التطهير الشامل. وبعض الوزارات السيادية المهمة تعيش حالة مقفلة وظيفياً لمصلحة حزب أساسي في العملية السياسية أو في التحالفات الانتخابية القائمة.
لكن الذي هو أغرب من هذه المعلومات هو البداية التي حدثت بعد الاحتلال في العراق. فمكتب إعادة الإعمار في العراق لم يبدأ نشاطه في هذا المضمار عملياً إلا في 2006! حيث تم تشكيل هيئة خاصة – تطوير – تابعة الى برامج التنمية في الوكالة الأميركية للمساعدة وتم تخصيص مبلغ 300 مليون دولار لتنفيذ برامجه في مدة زمنية محددة من عام 2006 – 2011!
وتشمل البرامج بناء السعة الوظيفية في الوزارات وزيادة كفاءاتها من خلال إصلاح النظم الداخلية العاملة الميدانية ومأسسة النشاطات التدريبية على المستوى الوطني وصعيد المحافظات. ويعمل هذا المركز – تطوير – مع المركز القومي للاستشارات وتطوير الإدارات – وهو عالمي أميركي مشترك – من أجل تنفيذ مقررات هذا المركز البرنامجية.
فما الذي حدث خلال الفترة المنصرمة والتي جعلت المستشار فرانك غنتر يقول ما يقول؟ وكيف يمكن تفسير لجوء الحكومة الهمامة في نفس اليوم من حديث الخبير وفي أثناء انعقاد مؤتمر – تطوير – لمناقشة الخدمات المدنية في العراق وفي حضور أركان العملية السياسية، إلى الحديث بأن الحكومة قد أناطت بالوكالة بكتابة قانون حول الخدمة المدنية في العراق والعمل ضمن سياقه المهني والإداري؟
علماً أن مسودة هذا القانون موجودة حسب إعلام برنامج – تطوير – في موقعه الخاص في الشبكة الإعلامية وأن قانون تشكيل مجلس الخدمة المدنية قد أقر منذ 21 شباط (فبراير) الماضي؟ والعراق قد عرف قانون الخدمة المدنية منذ أكثر من سبعين سنة وفي ظل العهد الملكي السابق. وأن مجلس الخدمة العامة منذ تلك الأوقات كان الجهة النزيهة والمنضبطة إدارياً ومهنياً بخصوص اختيار الوظائف العامة والخاصة في كافة أنحاء الإدارات في الحكومة.
وكانت المقابلات تجرى بصورة خاصة وسرية وتعتمد المعايير على الشهادات المثبتة والكفاءات وغيرها من المواصفات الخاصة والعامة. فكيف يمكن إدارة البلد في ظل الرشا والمحاصصة والطوائفية والعرقية الراهنة.
وإذا قرأنا جدول الاهتمامات المباشرة لمركز – تطوير – وبرامجه فسنعثر على الوزارات التالية: الصحة والانهيار الشامل في الخدمات ونقص الأدوية وفقدانها والمتاجرة في السوق السوداء إضافة الى تلوث العديد منها. الكهرباء: ما زالت البلاد تعاني من فقدان أو نقص الطاقة لحد الآن وفي كل الوطن. الزراعة: التصحر يزحف بسرعة مع انهيار الخدمات المائية والجفاف الذي تعاني منه الأنهار والروافد ولا سيما في الجنوب وبسبب التدخلات الإيرانية المعروفة. أما وزارة الهجرة فقد بات واضحاً أن الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد حالياً مرتبطة مباشرة بوجود أكثر من أربعة ملايين مهجر ونازح في الخارج ومثلهم في الداخل؟ أما وزارة التخطيط فقد التحق صاحبها بقائمة دولة القانون الانتخابية الحكومية!!
ما يجعل المرء يؤكد يومياً على قوة الفساد والمحاصصة الطوائفية والعرقية في عرقلة تطور الوضع في العراق هو التقارير الرسمية للوزارات والهيئات الحكومية وليست مقالات المعارضة أو القوى المناهضة للعملية السياسية والمطالبة بالمزيد من الصراحة والشفافية في السلوك والتطبيق.
تشير التقارير الأخيرة من وزارة النفط والمؤسسات النفطية العاملة في البلاد إلى أن الإنتاج النفطي قد هبط في الأشهر الستة الأخيرة إلى 1,8 مليون برميل يومياً بينما كان 2,5 مليون سابقاً. وهذا يعني هبوط الموارد المالية من 61,9 بليون دولار في نفس الوقت من العام السابق 2008 إلى 29 بليون دولار فقط. وإذا علمنا أن هذا الإنتاج النفطي ما زال قائماً من دون عدادات، 2 عاملة فقط من مجموع 34 عداداً معطلاً تماماً موجودة في 21 موقع عمل في الجنوب كمثال، وأن العراق كالطفل الرضيع لا يمكن أن تستمر حياته من دون حليب الأم التي جف ضرعها، أو فقدان مسحوقه والتلاعب به في الأسواق!! فكيف يمكن انتظار التغيير في ظل الإصرار على المحاصصات الطوائفية والعرقية في العملية – السياسية – الانتخابية الجارية وفي سياق كرم حاتمي تكابد منه الحكومة بعد أن ساعدت الصومال بمبلغ خمسة ملايين دولار!.